تراجم معاصرين

وداعا يا أمي الحبيبة وإلى اللقاء في جنة الخلد بإذن الله (1)

وداعا يا أمي الحبيبة وإلى اللقاء في جنة الخلد بإذن الله (1)

لقد صدق من قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت جيلا طيب الأعراق

وبعد فهذه كلمات أكتبها في ترجمة والدتي الحبيبة التي وافتها المنية الشهر الماضي وقبل كل شيء أود أن أشكر كل من قدم لي التعازي بوفاتها سواء بالتعليق على المنشور [1] الذي نشرته في نعيها أو تواصل معي أو راسلني على الخاص عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي بالرسائل الكتابية أو الصوتية أو اتصل بي من هاتفيا .. وأقول لهم شكر الله سعيكم جميعا ورحم أمواتنا وأمواتكم وسائر أموات المسلمين بمنه وكرمه.

وبالعودة إلى ما أنا بصدده وهو ترجمة أمي الغالية فأقول .. كانت أمي امرأة بسيطة أمية، تنحدر من قرية “بنّش” التابعة لمدينة إدلب في سوريا، فهي من مجتمع قروي كان يغلب عليهم الأمية لاشتغالهم بالزراعة وقلة المدارسة وانتشار الفقر فضلا عن أن العرف عند كثير من أهل القرى هو أن من المعيب أن تتعلم البنت خشية أن تجلب إلى أهلها العار فيما إذا خرجت من البيت إلى المدرسة أو الجامعة.

بيد أن الحياة التي عاشتها أمي رحمها الله كانت أكبر مدرسة عاشتها بمرها وهو كثير وحلوها وهو قليل، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه، فقد تحملت أعباء الحياة من صغرها لأنها تزوجت وأنجبت بعض الأولاد ولم تبلغ العشرين!! وهذا بحد ذاته فيه مكابدة ومشقة كبيرة فما بالك بأن هذا كان في ظل فقر مدقع بحكم أن أبي رحمه الله كان فقيرا أيضا فقد كان عاملا بسيطا يعمل من عرق جبينه، عانى هو الآخر وكابد المشقات لتأمين لقمة العيش لنا حتى إنه اشتغل في آخر حياته حمّالا (عتال) إلى أن توفي مبكرا إثر التهاب في الصدر رحمه الله وذلك عام 1987 وكان عمري حينها 12 عاما وكنت ما زلت أدرس في الصف السادس الابتدائي.

وهنا طبعا زادت المشقات والمسؤوليات الملقاة أصلا على عاتق أمي بحكم أن أبي ترك لها عشرة أولاد، نصفهم دون سن البلوغ.. ولم يترك أبي سوى بيت متواضع نتآوى فيه، ولقد عرض حينها بعض الأقارب على أمي تقديم مساعدة فرفضت بعد أن شكرته طبعا وقالت: الله وحده يغنينا من فضله.

وهنا راحت تضعنا أمام الحقيقة والواقع المر وأننا في هذه الحياة أمام معركة يجب الكفاح فيها وعدم انتظار مساعدة من أحد وأنه ينبغي أن نعتمد على أنفسنا ولا نتكل إلا على الله، فصرنا أنا وإخوتي نعمل ونعيل أنفسنا إلى أن كبرنا و تزوجنا دون أن نحتاج إلى أحد سوى الله وله وحده الفضل والمنة .

فهذا فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي التي عاشت فيه أمي، وبالنسبة لصفاتها فقد كانت أمي متديّنة حليمة حميدة السيرة على اسمها “حميدة عبد الجواد”، صبورة لا تؤذي أحدا، لا تحب الكلام الكثير بل هي كثيرة الصمت إلا عن ذكر الله فلسانها لا يفتر عن ذكره تعالى حتى إلى آخر رمق في حياتها.

كانت أمي صريحة لا تحب ذا الوجهين وإذا أرادت أن تنتقد شخصا انتقده في وجهه لا بغيابه، كانت متواضعة حسنة العشرة تصغي لمن يتحدث معها ويزورها فتسامره وتكرمه وتبش له فلا يمل جليسها، مع أنها هي في الحقيقة تؤثر العزلة والوحدة، وكانت تدعو دائما أن تعيش في جبل أو كهف بعيدا عن أعين الناس.

كانت لا تحب حياة البذخ والسرف والخيلاء حتى ولو أتيح لها، بل تحب البساطة في المأكل والمشرب والملبس وحياة القرى وأهل الريف لا حياة المدن، كما قالت ميسون الكلبية:

لبيتٌ تخفق الأرواح فيه

أحب إليّ من قصر منيفِ

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحب اليّ من لبس الشفوفِ

وأكل كسيرة من كسر بيتي

أحب إليّ من أكل الرغيفِ

كانت أمي على الرغم من كونها أمية إلا أني أعتبرها داعية إلى الله على علمها المتواضع بالشريعة وقلة ما تعرفه من الكتاب والسنة، ولكن كانت شديدة الذكاء، حكمتها غزيرة وخبرتها في الحياة والأشخاص والأحداث كبيرة، وكان يصدق عليها قول الشاعر:

الألمعي الذي يظن لك الظن .. كأن قد رأى وقد سمعا

كانت تحب السماع إلى القرآن والحديث النبوي وخطب الجمعة من خلال الراديو أو التلفاز، وكانت تمسك المصحف وتقلبه وتمر بأصابعها على سطوره تبركا بدل القراءة التي لا تعرفها، وفي آخر حياتها صارت تطلب أن يقرأ لها القرآن وهي تردد بصوتها خلف القارئ وتضع أيضا أصابعها على الكتابة في المصحف.

كانت تحب الدروس الدينية وتحب حضورها في المساجد، وحضور صلاة التراويح جماعة كلما تسنى ذلك لها، وتحب المشايخ والعلماء، وقد سُرت كثيرا حين سجلتُ في كلية الشريعة وصارت تفختر بي لذلك، وكانت تسألني دائما عن الحلال والحرام والفضائل لتحرص عليها رحمها الله ومع ذلك فقد كنت أتعلم منها الكثير رحمها الله.

وكانت تحافظ على نوافل الصلاة والصيام فضلا عن الفرائض ، فكانت تصلي الفرائض والسنن الرواتب وتصلي الضحى وصلاة الأوابين بين المغرب والعشاء والتراويح وصلاة التسابيح والوتر، وكانت تصوم الاثنين والخميس والأيام البيض إلى غير ذلك من النوافل، حتى أنها في المستشفى قبل موتها كانت تحافظ على صلاة الضحى .

كانت رحمها الله تحثنا على الصلاة من صغرنا بل تأمرنا بالصلاة في جماعة في المسجد، ليس هذا فحسب بل كانت لا تدع أحدا من الأقارب أو الأباعد تعلم أنه لا يصلي إلا وتلح عليه في ذلك وتقول له قولتها المشهورة: لا بارك الله في أمر يُشغل صاحبه عن الصلاة.

والأمر نفسه إذا علمت أن أحدا لا يصوم أو لا يزكي أو لم يحج مع القدرة، أو كان عاقا لوالديه أو يتعاطى الميسر أو الربا أو السرقة أو الفواحش فكانت تأمره وتنهاه وتسرد له بعض ما تحفظه في ذلك من آيات أو أحاديث ولو بالمعنى في الترغيب والترهيب أو تسرد له قصصا فيها عبرة أو أمثالا سائرة لها تأثير.

هذا من والطُرف في ذلك أنها كانت مع بعض ذويها مرة عند طبيب نصراني فأذن العشاء فقامت لتصلي مع ذويها جماعة فلاحظت أن الطبيب لم يتقدم للصلاة فدعته لها فاعتذر فألحت فقال لها أنا مسيحي، فبقيت مصرة على أن يصلي بل راحت تقنعه بالإسلام وتبين بطلان دينه وتثبت له صحة دين الإسلام .. وهذا حدث في بيروت الشرقية التي عاشت فيها آخر حياتها مع بعض إخوتي، وفيها أغلبية من النصارى فكانت حين تلتقي ببعض نساء النصارى تنصحهم بالدخول في الإسلام .

وكانت رغم فقرها وكونها أرملة ولها أيتام: تتصدق على من هو مثلها أو أفقر منها من الأقارب والجيران من الأرامل والأيتام وذوي العاهات فكانت تحمل همّ الجميع وتتعاهدهم بالسؤال عنهم والاطمئنان عن أحوالهم ومساعدتهم بالمال النقدي والطعام واللباس فضلا عن صلتهم بالزيارة المتبادلة والكلمة الطيبة والدعاء لهم فكم سمعناها تدعو لنا ولهم في سجودها في جوف الليل رحمه الله.

كانت تأمرنا بالألفة والمحبة والبعد عن التنازع والشقاق وكانت إذا سمعت أحدا اغتاب آخر أو خاصمه أو كان يحقد عليه لكونه آذاه تأمره بأن يحسن الظن به وبأن يصالحه ويصله إن كان حيا وأن يسامحه إن كان ميتا ولا سيما إن كان من قريبا له وكانت دائما تقولون: الأقربون أولى بالمعروف.

كانت ذات نظرة ثاقبة في الأمور تخمن بالشيء وتحزره قبل أن يحدث غالبا وكانت تشير علينا بما هو الصواب وإن بدا لنا غيره، وأنا كنت كثيرا ما أستشيرها في أموري الاجتماعية ومشاريعي العلمية والأكاديمية فكانت أحيانا تشير علي بخلاف ما أراه فكنت في كل مرة أظن أن رأيها مجانبا للصواب ثم يتبين لي لاحقا أن الحق كان معها وكنت أتعجب كيف أصابت في رأيها في تلك الأمور العلمية أو الأكاديمة ونحو ذلك والتي كنت أظن أن أمي ليس لها بها خبرة ولا سيما وأنها أمية ولكنه إلهام رباني وخوف الأم على وليدها وصدق حَدْثها ونظرتها الثاقبة وفتح من الله بعد تقواه { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 282].

كانت كثيرة الهم والغم لكثرة مسؤولياتها وقلقها ليس على نفسها بل علينا على أولادها وأحفادها أيضا إلى درجة أنها كثيرا ما كانت تذرف الدموع وتبكي حينما يمرض أحدنا أو يسافر أو تصيبه مصيبة، وكما كانت تحزن لحزنا فقد كانت تفرح لفرحنا رحمه الله.

وزاد همها حينما تفرقنا بعد اندلاع الثورة السورية فهي غادرت سوريا إلى لبنان وعاشت هناك سنواتها الأخيرة مع بعض أخوتي، والبعض الآخر بقي في سوريا، وقسم ـ منهم أنا ـ في تركيا وغيرها، وهذا كان أصعب شيء عليها فدائما ما كانت تبكي وتقول هل سنرجع ونلتقي مرة أخرى يا ترى؟!!

وبلغ همها ذروته حينما بلغها أن أخي “محمد” ـ وهو في الخمسينات من عمره ـ فُقد في خضم أحداث الثورة السورية، وهذا منذ سنوات ولا خبر عنه حتى الآن، اللهم ارحمه حيا أو ميتا بمنك وكرمك.

ومع كثرة همها كانت أحيانا كثيرة ما تجد وقتا للمرح والترويح عن النفس بالمزاح ونحوه، من ذلك أنها كانت إذا رأتني في غرفتي تسأل ماذا تفعل يا بني لوحدك تعال اجلس معنا أقول لها : لا شيء وإنما أقرأ كلمتين يا أمي .. وتكرر هذا الجواب مني فصارت تقول لي بعد ذلك مازحة: ما خلصت الكلمتين يا بني ؟!!

وكانت تقول لي حينما تراني منكبا على القراءة رغم تخرجي وانتهائي من الدراسات العليا تسألني ألم تنتهي من الجامعة وأخذت الدركتواره إذن لماذا مازلت تدرس ..؟ ثم ما تلبث أن تقول حين أبدأ أشرح لها الأسباب : نعم، العلم نور، العلم بحر، فتح الله يا بني.

أصيبت قبل موتها بسنة أو سنتين بتورم حميد في دماغها وكان الأطباء يأملون بعلاجه عن طريق الأدوية ولكن يبدو أن ذلك لم ينجح وللأسف مما فاقم الأمر وسبب لها نوبة دماغية مفاجئة قبل وفاتها بأشهر فدخلت على أثرها العناية المشددة لتصحو بعد شهر تقريبا وهي مصابة بشلل شبه تام وبقيت تتعالج حوالي خمسة أشهر عانت فيها شتى الأوجاع والأسقام، وكانت في المستشفى تتكلم وهي غائبة عن الوعي فسألتها أختي تريد أن تختبر هل عادت لوعيها : أين أنت الآن؟ قالت: في الجنة مع الرسول عليه الصلاة والسلام!! إلى أن سلمت الروح إلى باريها، ورئي له منامات صالحة ومدحها الناس وأثنوا عليها وتكلموا فيها بكل خير ولله الحمد على كل حال.

من أمثال أمي رحمها الله .. وهذا حديث شيق يطول ولذا سنؤجله للغد بحول الله

وانظر اللاحق: https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2131342030375711&id=100004998042091

——-

[1] انظر:https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2109201849256396&id=100004998042091

السابق
عظم قدر الولي لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه..
التالي
وداعا يا أمي الحبيبة وإلى اللقاء في جنة الخلد بإذن الله (2)