هل ما عليه الأشاعرة قد رجع عنه الأشعري ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد:
تساؤلات تصدر عن أشخاص كثيرين .. يحبون السلف، ويرغبون في منهجهم، ويرغبون عن مَنْ رغب عن منهجهم .. وهذا أمرٌ يحمدون عليه.
إذْ لا يمكن أن يكون هناك منهج أعرف بالله وبرسوله من ذلك الجيل الذي تربى على يد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على يد أصحابه، فهم أخصُّ برسول الله، وأقرب عهداً بوحي الله، وأعرف بلسان العرب، وأبعد عن التكلف والشطط.
مِـنْ هذه التساؤلات:
لماذا تنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، ولا تنتسبون إلى الصحابة والتابعين، ولماذا تنهجون منهج الإمام الأشعري الذي تراجع عنه،
لماذا لا تتراجعون وترجعون إلى مذهب السلف كما رجع.
ولماذا لا تأخذون بكتاب أبي الحسن الأشعري (الإبانة) وهو يمثل مرحلة تراجعه إلى مذهب السلف.
لماذا ولماذا ؟؟
تساؤلات تبدو وجيهة .. عند مَنْ عرفَ منهج الأشاعرة من خلال خصومهم، أو قرأ كتبهم من خلال كتب خصومهم .. أما مَنْ عرف الأشاعرة من كتبهم، وفهم مقاصدهم، وعرف مراميهم، فإنه يقف مدهوشاً متعجباً .. كيف تصدر هذه التساؤلات .. كيف تنتشر هذه الأوهام التي لا علاقة لها بالعلم .. كيف يصدق العقلاء أموراً كهذه ..
كيف يصدق العقلاء أن أئمة الأشاعرة والذين كانوا متبحرين في سائر العلوم والمعارف، وألفوا في ذلك الكتب والمصنفات البديعة .. يحدث لهم ما هو أشبه بالمسرحية .. يعيشون عقوداً من الزمن .. وتشتهر وتنتشر مؤلفاتهم .. ويذيع صيتهم .. ويكثر طلابهم .. ثم قبل موتهم بدقائق .. يتوبون من عقائدهم .. ويعلنون تراجعهم ..
ولأن ذلك كان قبل وفاتهم بدقائق .. فلم يجدوا وقتاً ليؤلفوا كتباً يتراجعون فيها عن ما كانوا عليه ويبينوا ما هو بالتفصيل الذي انتقلوا إليه ..
وأيضاً لأنَّ ذلك كان في مرض موتهم قال طلابهم لعلها نزلة برد أو زوال عقل ..
وربما لنفس الأمر .. ثبت طلابهم والأشاعرة عموماً على ما كانوا عليه قبل التراجع …. يا الله ما أحلاها من قصة وما أطرفها من مواقف .. أحدهم يقول شعراً والآخر يضع البخاري على صدره، والثالث والرابع.
ومع تبحرهم وموسوعيتهم في العلوم (أعني أئمة الأشاعرة) إلا أنَّ الواحد منهم يكون في محفل كبير وجمع عظيم فيقوم إليه نكرة من النكرات .. فيسأله سؤالاً كما سأل الهمذاني إمام الحرمين الجويني .. فأصبح إمام الحرمين يصيح وينوح ويضرب على رأسه بين الخلائق .. منظر مسرحي رائع .. وقصة مهلهلة اخترعها من لا يحسن اختراع المسلسلات .. وبإسناد مركب .. ومن شاء راجعها في طبقات الشافعية الكبرى للإمام تاج الدين السبكي، مع تعليق السبكي الحديثي عليها.
إذاً .. أئمة الأشاعرة يتوبون .. والأشاعرة المتأخرون لا يتوبون .. الأشعري رجع لمنهج السلف .. وأما الأشاعرة لا يرجعون .. يحبون إمامهم الأشعري إلى درجة أن يُصرُّوا على البقاء على منهجه ولو تاب منه ورجع عنه .. إنه حب أعمى .. هذه حقائق .. احذر أن تفكر بعقلك في تهافتها أو أسطوريتها ..
دعوني أنتقل من الهزل إلى الجد .. ((لماذا خالف الأشاعرة إمامهم أبا الحسن الأشعري)) .. هذا السؤال لا يكون صحيحاً إلا إذا ثبتت مقدماته ..
ومقدماته باطلة لا تثبت أبداً ..
وألخص ذلك في نقاط (مختصرة جداً):
أولاً: للأشاعرة مذهبان:
التأويل: وذلك إذا كان للفظ أكثر من معنى، فالمعنى الذي يفيد مشابهة الخلائق منفي بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .. ويتم اختيار واحد من المعاني الباقية للفظ بحسب قانون العربية التي نزل بها القرآن.
الثاني: التفويض: ويعني أنه إذا كان للفظ أكثر من معنى، فالمعنى الذي يفيد مشابهة الخلائق منفي بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .. ولا يتم اختيار واحد من المعاني الباقية للفظ بحسب قانون العربية التي نزل بها القرآن لأن هذا الاختيار مبني على الظن الراجح، وترك الظنون في هذا الباب أسلم وخاصة أن الصحابة والتابعين سكتوا عن ذلك، فسلوك طريقهم أولى، إلا إذا أظهر المجسمون ((المعنى المنفي)) وهو ما يفيد التجسيم والحدوث فالواجب حين إذا استخدام الدواء وهو (التأويل) بحسب قانون اللغة التي نزل بها الوحي.
إذا عُــــلِــمَ هذا :
فإنَّ رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري هو إلى التفويض، ومثله إمام الحرمين في العقيدة النظامية والغزالي في إلجام العوام، ولم يرجع هؤلاء الأئمة إلى تفسير (الوجه واليد والعين ونحوها) بحقائقها في العربية، وليس في الإبانة ولا كتب إمام الحرمين أو الغزالي أكثر من هذا .. على أني أسجل هنا ملاحظة بين معقوفتين: [الإبانة ثابتة النسبة إلى الأمام الأشعري، ولكن النسخ المطبوعة الآن وقع فيها اختلاف كثير يوقع الريب في نسبة ما فيها إلى الإمام]
أعود فأقول: سبب الوهم عند مَنْ يفسر كلام الإمام لأشعري في الإبانة أنه يظن أنَّ الإمام لو قال (الله فوق العرش) أنه قد وافق فهمهم الذي لا علاقه له بالسلف .. وهذا زلل وغلط.
إذْ غاية ما فيه أنَّ الإمام الأشعري تكلم بمضمون الآية والحديث، وليس في كلامه ما يفيد تفسير وإثبات هذه الكلمات على حقائقها اللغوية ((المعهودة في الخطاب الإنساني))، فكيف إذا كان الإمام في نفس المكان قد صرح بعبارات تدل بوضوح على مراده ..
تأمل معي ما سأنقله لك الان من كلامه في الإبانة الذي يقوله على الآيات والأحاديث التي يُذْكر فيها (الاستواء)، فإنه بعد أن أنكر على مَنْ فسر (الاستواء) بـ (الاستيلاء)، وقرر أن الاستواء متعلق بالعرش، ومما استدل به على ذلك حديث النزول، ثم قال: (نزولا يليق بذاته من غير حركة وانتقال).
وقال: (فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته، مستو على عرشه استواء منزها عن الحلول والاتحاد).
فلو كان الاستواء بمعناه المعهود الحقيقي فكيف يكون بلا حلول، فإنَّ معنى (استوى على عرش الملك) إنْ فُـسِّرَت بمعناها الظاهر الحقيقي أي حَلَّ عليه.
لا يُـعْـتَـرَض على ذلك بأنَّ الاستواء بهذا المعنى إنما هو استواء المخلوق لا الخالق.
لأنَّا نقول إنَّ لفظ (الاستواء) هذا معناه الحقيقي في اللغة .. فمتى نَـفَـيْتَ هذا المعنى فقد نفيت المعنى ((الحقيقي)) ((الظاهر)) ((المتبادر إلى الْـمُـخَاطب)) فقد سلكت مسلك التأويل وإنْ رفضتَ أن تسميه تأويلاً.
وتأمل قول الإمام الأشعري في الإبانة أيضاً: (وأنه مستو على عرشه سبحانه، بلا كيف ولا استقرار) ..
فهل هذا الكلام يفيد المعنى الذي يقصدونه هم بـ (الاستواء) .. قطعاً لا .. كيف وهم يصرحون بأن معنى (استوى) أي: استقر وارتفع وعلا .. فالإمام الأشعري ينفي الاستقرار والمخالفون للأشاعرة يثبتونه، والإمام الأشعري ينفي الكيف، وهم يثبتونه وينفون العلم به.
وقال الإمام الأشعري: (وهذا يدل على أن الله تعالى على عرشه فوق السماء فوقية لا تزيده قربا من العرش).
فكيف يعتبر خصوم الأشاعرة أن كتاب الإبانة يفيد رجوع الإمام الأشعري إلى مذهبهم، وهو يصرح بأن (فوقيته) لا تزيده قرباً من العرش ولا بعداً عن الثرى، ((والفوقية)) بهذا المعنى ليست هي المعروفة في اللغة.
فنحن الأشاعرة نقبل كلامه هذا، ولا نفهم إلا أنَّه أراد إمرار الكلمات القرآنية والأحاديث النبوية كما وردت، تعظيماً لكلام الله، وقوفاً عند ألفاظه، وتفويضاً لمعانيها.
أما خصوم الأشاعرة فهذا عندهم غير مقبول، فإنهم يعتبرون أن الْـقُـرْبَ قُرْبٌ جسمي مسافي، ولذا فإنَّ مَـنْ في سفح الجبل أقرب إلى الله ممن هو في أسفله، وأنَّ السماء السابعة أقرب إلى الله من السماء السادسة وهكذا .. فالمسألة عندهم أبعاد ومسافات .. قال ابن القيم في زاد المعاد: (فخلق الله السماوات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه، وأسكنها من شاء من خلقه، فلها مزية وفضل على سائر السماوات، ولو لم يكن إلا قُــــربـــهـا مــنـــه تبارك وتعالى).
فإذا السماء السابعة أفضل لأنها أقرب من الله
وأعود للإبانة، وأرجو أن تتأمل مع التدقيق والفهم، فقد قال الإمام وهو يتحدث عن (لما خلقت بيدي) : (وليس يخلو قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) أن يكون معنى ذلك:
1- إثبات يدين نعمتين،
2- أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين. تعالى الله عن ذلك،
3- أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين،
4- أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى، فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين؛ لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل: عملت بيدي وهو نعمتي.
ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين، ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين.
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع؛ وهو أن معنى قوله تعالى: (بيدي) إثبات يدين ليستا جارحتين، ولا قدرتين، ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت).
هذا كلامه بنصه .. أعود لتوضيح هذا النص: (اليد) بمعنى (الجارحة) أي: الآلة والأداة التي يجترح (أي: يكتسب) بها الإنسان، فهي آلة الأخذ والعطاء والقبض والبسط، والدفع والرفع .. هذه هي اليد ((بمعناها الحقيقي)) .. ومتى سمع أي عربي لفظ (يد) بدون أن نضيفها إلى مخلوق أو خالق كان المعنى (السابق إلى ذهنه) و (المتبادر إلى فهمه) هو هذا المعنى (الحقيقي) (الظاهر)
وهذا ما صرح الإمام الأشعري بنفيه في الإبانة ..
وخصوم الأشاعرة الذين يقولون إن الإمام الأشعري قد رجع إلى مذهبهم .. يرفضون غاية الرفض أن يكون المعنى (الحقيقي) منفياً ..
والأشاعرة يقبلون ذلك مِنْ إمامهم وبه يعتقدون ويدينون.
والمعنى الذي صححه الإمام الأشعري هو المعنى الرابع، فما هو المعنى الرابع بعد أنْ رفضَ الإمام تفسير اللفظ:
بمعناه (الحقيقي: الذي هو الجارحة)
ورفض تفسيره بمعناه (المجازي: الذي هو القدرة والنعمة) ..
لم يبق إلا ((التفويـــــــــض))، وهو ما صرح به في خاتمة كلامه بقوله: (لا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت). وبهذا يقول الأشاعرة (أعني بالتفويض).
ثم شَرَعَ الإمام يناقش مَنْ ذهب إلى التأويل ونفى (التفويض) بحجة أنَّه إذا لم تكن اليد بمعنى نعمة لم تكن إلا بمعنى الجارحة، لأنهم لم يشاهدوا في الخلق يداً ليست جارحة إلا كانت بمعنى النعمة.
فأجابهم الإمام بأنَّ هذا قياس فاسد، لأنه قياس للخالق على المخلوق، وأنه يلزمهم إذا تحاكموا إلى هذا القانون الفاسد أن يقولوا بالجسمية لأنهم لم يجدوا حيَّاً إلا وهو جسم من لحم ودم، وقال لهم الإمام الأشعري: وإن أثبتم حيا لا كالأحياء، فأثبتوا له يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين، ولا كالأيدي.
فأخبروني بالله عليك كيف يكون هذا الكلام المناقض لما يقرره خصوم الأشاعرة ليلاً ونهاراً حجة لهم .. وكيف يكون الأشاعرة مخالفين للأشعري وهذا المسلك التفويضي الذي سلكه الإمام الأشعري هو مسلك مقرر عندهم.
ومما يتكرر بلا وعي ولا تحقيق أن الإمام الأشعري مرَّ بثلاث مراحل 1- (الاعتزال) 2- (التأثر بابن كلاب) 3- (منهج السلف) .. وأنَّ (الأشاعرة) اتبعوا الأشعري في المرحلة الثانية .. وهذا حكايات ليس عليها بينات كحكايات ألف ليلة وليلة، والحقيقية أنَّ الإمام الأشعري انتقل من الاعتزال إلى السنة وحسب، وأن أئمة الإسلام إنما تبعوه لأنه وافق الحق والسنة، وتفصيل هذا تجدونه في أول تعليق على هذا المنشور فطالعوه، حتى لا يطول فوق طوله.
ثم هب أن الأشاعرة خالفوا الأشعري .. فإنْ الانتساب إلى الإمام الأشعري إنما هو انتساب إلى منهج عقلي فكري، ومَنْ فهم ذلك لم يكن له أن يلزم أشعريا بمقالة من مقالات الإمام.
لأن الإمام أبطل التقليد في أصول الدين وجعل هذا الإبطال معلما بارزا من معالم منهجه، فمن يجهد نفسه بعد ذلك في مناظرة الأشاعرة بنقل نصوص من الإبانة أو المقالات ليلزم بها الأشاعرة أو يرميهم بالتَّـنَكُّبِ عن منهج إمامهم! أو يُطالبهم بالرجوع كما رجع الإمام بزعمهم ؟! .
فلا يقول هذا إلا من جعل الانتساب إلى الأشعري يوجب تقليده، كما هو الحال في المذاهب الفقهية.
ولهذا اشتد الإمام الغزالي على من أنكر عليه مخالفة الأشعري. وأبان أن الانتساب إلى الأشعري لا يستلزم متابعته وتقليده كما في فيصل التفرقة.
Saif Alasri