أنا ابنُ جَلا وطلاّع الثنايا …
وهل القائل هو الحجّاج؟
حقًا لقد استشهد الحجاج بن يوسف الثَّقّفي بالبيت، وقد تمثّل به عندما ولاّه الوليد بن عبد الملك على الكوفة، فبدأ به خطبته المشهورة:
أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُِ الثَّنَايَا
متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني
ولكن البيت ليس من بنات أفكاره.
بل هو مطلع قصيدة قالها سُحَيْم بن وَثيل الشاعر المخضرم، وكان الشاعران الأخوص (بالخاء) والأُبيرِد قد تحدّياه، وسخرا منه ومن شعره، لأنه في زعمهما أدنى منهما مرتبة في قول الشعر، وكان سحيم في أواسط العقد الخامس، وهما الشابان اليافعان، فمما أنشد ردًا عليهما:
أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُِ الثَّنَايَا متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني
وَإِنَّ مَكَانَنَا مِنْ حِمْيَرَيٍّ مَكَانُ اللَّيْثِ مِنْ وَسَطِ الْعَرِينِ
وَإِنِّي لا يَعُودُ إِلَيَّ قِرْنِي غَدَاةَ الْغِبِّ إِلَّا فِي قَرِينِ
وَمَاذَا يَدَّرِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي وَقَدْ جَاوَزْتُ حدَّ الأَرْبَعِينِ
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعًا أَشُدِّي وَنَجَّذَّنِي مُدَاوَرَةُ الشُّئُونِ
(الأصمعيات، ص 17، والاشتقاق لابن دريد 138، وخزانة الأدب للبغدادي- ج1، ص 256)
ابن جلا- كناية عن الرجل المشهور، وهو الذي يجلو الأمور، ويقال للرجل الذي على شَرَف، ولا يخفى مكانه أنه “ابن جلا”، وهناك من يرى أن أصل المعنى (ابن من يقال له: جلا الأمور)، وورد في اللغة أن (ابن جلا) هو الصبح، وهو النهار. (انظر “لسان العرب” لابن منظور) “وزعم بعضهم أن ابن جلا اسم رجل كان فاتكًا صاحب غارات مشهورًا بذلك”- انظر “خزانة الأدب” ج1، للبغدادي- الشاهد الثامن والثلاثين، ص 256، وهناك أقوال مختلفة في هذا التعبير وفي حكمه الإعرابي.
كما نجد في (معجم الأمثال)- المثل 120 للميداني: “أنا ابن جلا- يقال للمشهور المتعالَم”، وفي (ثمار القلوب….) للثعالبي: “هو الذي أمره منجلٍ منكشف” ، وهو يورد بيت سحيم ويقول إن المعنى هو المشهور، وإن (جلا) قد ينون- ص 265 يقول الزمَخْشَري في المفصّل (جلا) ليس بعَـلَم، وإنما هو فعل ماض مع ضميره صفة لموصوف محذوف.
أما “طلاّع الثنايا” فكناية عن كاشف الأمور والنافذ فيها، والثنايا- جمع ثنيّة طريق في الجبل.
ويمكن رفع (طلاّع) معطوفًا على (ابن)، فيكون المدح للراوي، ويمكن جرّه على أنه معطوف على المحل الإعرابي لكلمة (جلا)، فيكون المدح لذلك للأب.
أما معنى (أضع العِمامة) ففيه شرحان:
1- أضع العمامة على رأسي فتعرفون أنني من أهل السيادة والشجاعة، ومستعد للقتال.
وفي ذلك ورد في شعر إبراهيم الحضرمي:
بني مالك شدوا العمائم واكشفوا
لذي العرش عن ساقٍ لحرب المحارب
2- أضع العمامة عن رأسي، فيتبين لكم صلع رأسي، وهذا من علامات الشجاعة، فأنا عندما أحارب مكشوف الرأس يعلم الناس مبلغ شجاعتي. (عن علاقة الصلع بالشجاعة انظر البغدادي- خزانة الأدب، ج1، ص 258.)
ولا نستبعد هذا الشرح، فنحن في أمثالنا الدارجة نستعمل ” طلع فارع دارع” أي مكشوف الرأس
وهذان الشرحان المختلفان واردان في المصادر كذلك:
قال ثعلب: العِمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم. (مجالس ثعلب، القسم الأول، ص 176).
وعلى غراره ورد في شرح الأشموني لألفيّة ابن مالك:
أضع العمامة: أي عمامة الحرب. وقيل: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم.
المعنى: يصف شجاعته وإقدامه بأنه لا يهاب أحدًا، وأنه قادر على الاضطلاع بعظائم الأمور.
الشرح الثاني:
* قال التبريزي: أي متى أسفر وأحسر اللثام عن وجهي تنظروا إلي فتعرفوني، فالمعتمّ يتخفى بين الناس، بينما أنا أظهر مكشوف الرأس فأُعرَف بشجاعتي. (نقلاً عن شرح الأصمعيات لعبد السلام هارون، ص 17)
إذا أردنا الشرح التوفيقي، فيمكننا القول:
متى أنزع العِمامة وألبس خوذة (بيضة) الحرب يعرفني الناس بإقدامي وشجاعتي.
وكان البغدادي قد جمع بينهما:
“المراد من وضع العِمامة إزالتها عن الرأس في الحروب لكثرة مباشرته إياها، فإذا رأى العمامة جهله، وإما لأن الذي يعرفه إنما رآه لابسًا آلات الحرب، وعلى رأسه البيضة لكثرة حروبه فينحّي عمامته ويلبس البيضة”. (م.س)
* ثمة مسألة لغوية أخرى مثارة وهي (الأربعينِ)- بكسر آخر العدد الملحق بجمع المذكر السالم، ومن حقه الفتح.
قال ابن السِّكّيت:
كسرت نون الجمع لأن القوافي مخفوضة. (م.ن) ثمة مسوّغات أخرى اجتهدوا فيها- انظر الأشموني 1: 38 (دار الكتاب العربي)، حيث يقول أولاً: “والصحيح أنه لا يطّرد، ويقتصر على السماع”، ومع ذلك فالأشموني يفصّل في أسباب الكسر.
كما روى المرزباني في “الموشح” البيت بفتح النون وجعله من الإقواء، ص 3.
جدير بالذكر أن العرب يعرفون كسر النون في جمع المذكر السالم- كما ورد في بيت الشعر لذي الإصبع العَدواني:إني أبيٌّ أبي ذو محافظةوابن أبيٍّ أبي من أبيّـينِ