المبحث الاول
اسمهُ ولقبه وكنيته ونسبته ومذهبه ومولده وسيرته
ولد محمد بن محمد بن محمد (1) بن علي بن يوسف الجزري شمس الدين أبو الخير العمري الدمشقي الشيرازي الشافعي، ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق (2).
ومن الجدير بالذكر أنَّ شيخنا ابن الجزري قد تلقى علوماً شتى على علماء عصره فقد أجازه خال جده محمد بن إسماعيل الخباز (2)، وسمع منه فيما أخبر به والده ولم يقف على ذلك (3).
واهتم بعلم القراءات ففي أول مرة لازم الشيخ عبد الوهاب بن السلار (4)، وانتفع به، قرأ عليه ختمة بقراءة أبي عمرو فأجازه وهو مراهق دون البلوغ بكثير.
وإذا رجعنا إلى ترجمة السروجي نجده يقول: (ثم إنَّه بقي حتى صرت مراهقاً فجعل يتردد إلي فحفظت عليه الشاطبية إلى أواخر الإدغام وهو الذي عرفني الرموز والاصطلاح) (5).
كما أنه حفظ كتاب الله العزيز عن ظهر قلب في سنة أربع وستين وسبعمائة وصلى به إماماً سنة خمس وهو ابن أربع عشرة سنة (1).
وكان له نصيب في زيارة بيت الله الحرام حاجاً سنة ثمان وستين وسبعمائة (2).
هذا وقد تنوعت رحلات شيخنا ابن الجزري في أهدافها وأغراضها (3).
وفضلاً عن ذلك فقد تأثر ابن الجزري بعلوم بيئته ولم يكتف بأن ينهل العلم من مناهل الشام فحسب بل تعدى ذلك إلى القاهرة، فقد اهتم بعلم الحديث وأخذهُ من الشيخ عماد الدين ابن كثير (1)، وأخذ علم الفقه على يد الشيخ عبد الرحيم الأسنوي (2)، واللغة على الشيخ الضياء القزويني (3) وغيرهم، ووقف عليها حياته مع إبداعٍ كبير في علم القراءات مع تمام الضبط.
كما كانت لشيخنا ابن الجزري اليد الطولى بإنشاء وبناء مدرستين للقرآن في دمشق (1)، والأخرى في شيراز (2)، عاملاً بقوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (3).
وأما عن سمت الإمام ودله فقد وصفه ابن حجر بقوله (كان مثرياً وشكلاً حسناً ونصيحاً بليغاً) (4).
وكانت لهُ في مصر بعض الأعمال الإدارية فاتفق أنه اتهم بمال قيل: أنهُ صرفه في غير مستحقه فعقد له سبب ذلك مجالس وامتحن الإمام فصودرت أملاكه وخشي على نفسه فخرج منها خائفاً يترقب، وركب البحر هارباً إلى بلاد الروم ونزل مدينة بورصة (1) دار الملك العادل المجاهد با يزيد بن عثمان (2)، فعظمه وأكرمه ورتب له مائتي درهم كل يوم وساق له عدة خيول (3).
درّس الإمام في تلك البلاد القراءات والحديث وانتفع به خلق كثير، وألّف كتابه النشر في القراءات العشر، ونظم طيبة النشر في القراءات العشر (4).
فضلاً عن ذلك فقد تبع الإمام ابن الجزري من أولاده أبو بكر أحمد لحقه بكثير من كتبه، وكذلك أبو الخير محمد وبقي ابنه أبو الفتح محمد في دمشق يباشر وظائف والده الكثيرة (5).
فعندما اقترب الجيش المغولي من بورصة دارت معركة حامية بينهم وبين الملك وكان الإمام المجاهد ابن الجزري قد شارك في هذهِ المعركة ووقع أسيراً بعد انتهائها وأطلقه تيمورلنك (1)، وأخذه معه إلى بلاد ما وراء النهر (2).
توجه الإمام ابن الجزري مع من حملهم تيمورلنك إلى بلاد ما وراء النهر فنزل مدينة كش (3)، وقرأ على الإمام فيها جماعة من الطلبة ثم دخلوا سمرقند (4)، ولم ينقطع عن الإِقراء والتأليف فقد شرح مصابيح السنة للإمام البغوي (ت 516 هـ)، وسمى الشرح (التوضيح شرح المصابيح) (5)، كما ألف كتاب (تذكرة العلماء) (6) في أصول الحديث.
ولحق بالإمام ولده أبو الخير محمد في أوائل سنة سبع وثمانمائة ثم دخلا شيراز سنة ثمان وثمانمائة (1).
ومن الجدير بالذكر ففي شيراز أسكنه سلطانها بير محمد بن أمير عمر شيخ ابن أمير تمر ثم ألزمه القضاء بها وبممالكها وما أضيف إليها فتولاها كرهاً (2).
ثم خرج منها إلى بيت الله العتيق للحج وعند وصوله إلى قرية عنيزة (3) من نجد خرج عليه بعض الأعراب ونهبوا ما عنده من مال وكاد أن يقتل وبها نظم قصيدته الدرة المضيئة (4)، وفاته الحج فأقام بينبع ودخل مكة وجاور وحج ثم عاد إلى شيراز (5).
وفضلاً عمّا تقدم فقد يكون ما ذكره الإمام ابن الجزري عن أولاده توضيح لهذهِ الأسرة العلمية وحالتهم الاجتماعية في ذلك العصر، فقد رزق الإمام بنين وبنات قرأوا عليه وأجازهم وأستجاز لهم من علماء عصره حتى يكملوا مشوار أبيهم* ….يتبين لنا مما تقدم أنَّ أولاد الإمام كانوا له عوناً فمنهم من حل مكان أبيه يشغل مناصبه ومنهم من سافر معه يعينه ويؤنسُهُ ويشد من أَزره، نجد تفاصيل ذلك كله في تلاميذه ورحلاته.
كذاباختصار من رسالة “أسانيد ابن الجزري وموارده في كتابه النشر في القراءات العشر” وهي رسالة مقدمة الى مجلس كلية الاداب ـ الجامعة الاسلامية ـ بغداد وهي جزء من متطلبات نيل درجة الماجستير في علوم القرآن تخصص (قراءات قرآنية) تقدم بها الطالب
لواء محمد شمس الدين محمد الجليلي.
ملاحظة: تعمدت حذف الحواشي لعدم الإطالة بها.
———
*فمن البنين رزق أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الجزري ولد سنة سبع وسبعين وسبعمائة وحضر في هذهِ السنة على الشيخ عمر بن أميلة (1)، في كتابي أبي داود والترمذي كاملاً وشيئاً من مسند الإمام أحمد، وعلى الشيخ عبد الوهاب بن السلار قرأ عليه الفاتحة بالقراءات السبع (2).
مما يدل على أن الإمام ابن الجزري كان حريصاً على إسماع أولاده من الشيوخ حتى ولو حضوراً للبركة.
وكذلك هو الحال مع أحمد بن محمد بن محمد بن محمد أبو بكر ولد في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة ثمانين وسبعمائة فأدرك من أصحاب ابن البخاري وأجازه المشايخ المسندون من أمثال الشيخ ابن قاضي شهبة وغيرهم (3).
وفي ترجمة محمد بن محمد بن محمد بن محمد أبي الخير يقول الإمام في كتابه غاية النهاية: (وأجازوه مشايخ عصره وحضر على أكثرهم) (4).
أما ولده الآخر واسمه علي فقد ذكره والده في الغاية مرتين الأولى في ترجمة شيخه محمد بن محمد بن عمر بن سلامة أبي عبد الله المنعوت بصلاح الدين البلبيسي (1) بقوله: (وروى العنوان عالياً … قرأته عليه غير مرة وسمعه منه أولادي محمد وأحمد وعلي) (2)، و (قرأت عليه العنوان مرتين إحداهما سمعه بنّي الثلاثة محمد وأحمد وعلي) (3)، والثانية في ترجمة شيخه أحمد بن الحسن أبي العباس السويداوي (4) بقوله: (وسمع منه أولادي الثلاثة محمد وأحمد وعلي وغيرهم) (5)، ولم يفرد له ترجمة مستقلة على غرار إخوته المتقدمين.
وفضلاً عن ذلك، فقد خرج ابن الجزري بأسماء بقية أولاده وهم أبو البقاء إسماعيل وأبو الفضل إسحاق وقد أجازهم (6).
وما دمنا قد أنهينا ذكر البنين لابد وأن نعرج على ذكر بنات الإمام فأشهرهن سلمى بنت الإمام ابن الجزري وقد ترجم لها في كتابه (7).
وأما بنتاه فاطمة وعائشة فالحال معهن مثل باقي الأخوة ذكرهم الإمام في آخر كتابه غاية النهاية بقوله (وأجزت لأولادي الموجودين يومئذ وهم أبو الفتح محمد وأبو بكر أحمد وأبو الخير وأبو البقاء إسماعيل وأبو الفضل إسحاق وفاطمة وعائشة روايته عني وجميع ما تجوز روايته) (8)، كما يطالعنا المصدر (غاية النهاية) في آخر صفحاته عن وجود حفيدات للإمام فمن ابنه محمد أبي الفتح فاطمة وزينب، ومن ابنه أحمد أبي بكر فاطمة بقوله (وكذلك أجزت لفاطمة وزينب بنتي ابن أبي الفتح المذكور ولفاطمة بنت أبي بكر أحمد المذكور أيضاً) (9).
يتبين لنا مما تقدم أنَّ أولاد الإمام كانوا له عوناً فمنهم من حل مكان أبيه يشغل مناصبه ومنهم من سافر معه يعينه ويؤنسُهُ ويشد من أَزره، نجد تفاصيل ذلك كله في تلاميذه ورحلاته.