مقتطفات : ـ فتحصل أن الدهني هذا مكافئ لجعفر ابن أبي المغيرة، فكلاهما إما صحيح الحديث أو حسنه، وبالتالي فلا يصح بحال ما فعله الألباني من تضعيف أثر جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن كرسيه علمه، بسبب مخالفته للدهني في لفظ أثر ابن عباس “الكرسي موضع القدمين”، إذ هذا ليس بأولى من القول بأن الدهني خالف جعفرا في لفظ الأثر نفسه…
ـ لو بحث الألباني قليلا لما أطلق هذه الدعاوى العريضة ولا ألقى هذا الكلام على عواهنه، بل لو راجع كلامَ البزار الذي أحاله إليه الهيثميُّ لما خطّأ الهيثميَّ ـ وبهذا يتبين أن صحة ما قاله الهيثمي وبطلان اعتراض الألباني وتشنيعه عليه.
(4) #كيف هدم الوهابية مذهبهم في مسألةالكرسي[1]
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/2870284493085554/
قد يقال: نعم نحن نسلّم أن أثر ابن عباس “الكرسي موضع القدمين” مروي بأسانيد مختلفة وبألفاظ مختلفة ولكن هذا لا يلزم منه أنه مضطرب “لأن شرط الحديث المضطرب أن تكون وجوه الاضطراب فيه متساوية القوة بحيث لا يمكن ترجيح وجه منها على وجه”[2]، ولذا قال العراقي:
مضطرب الحديث: ما قد وردا … مختلفا من واحد فأزيدا
في متن او في سند إن اتضح … فيه تساوي الخلف، أما إن رجح
بعض الوجوه لم يكن مضطربا … والحكم للراجح منها وجبا
وقوله : (مضطربا، والحكم للراجح منها) أي: من الوجوه (وجبا) إذ لا أثر للمرجوح، ولا اضطراب أيضا إذا أمكن الجمع، بحيث يمكن أن يعبر المتكلم بالألفاظ، عن معنى واحد، وإن لم يترجح شيء[3].
والأمر هنا كذلك فإنه يمكن الترجيح والجمع، فإن المعظم رووا الأثر من طريق عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا بلفظ “الكرسي موضع القدمين”. فهذا إسناد صحيح كما ذكر غير واحد من المحدثين كما سيأتي، وما تبقى فهو إما ضعيف، والضعيف لا يُعلُّ به الصحيح، أو لا ينافي الصحيح، أما الضعيف فهو كرواية من روى الأثر مرفوعا، فهذا قد أعله الحفاظ كالخطيب وابن منده وغيرهما بشجاع بن مخلد فهو مَن وَهم برفعه كما سبق، وكرواية جعفر عن ابن جبير عن ابن عباس أن كرسيه علمه، فهذا ضعيف أيضا كما أشار إليه ابن منده بقوله السابق: عن جعفر بن أبي المغيرة لم يتابع عليه.
وأما ما لا ينافي الصحيحَ، فهو كرواية الطبري عن مسلم البطين الأثرَ من قوله، وكذا رواية ابن منده الأثر عن سعيد بن جبير من قوله، فهذا كله لا ينافي الأثرَ الصحيح الموقوف، لأنه ممكن يكون رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، هكذا مرة، ومرة ذكره مسلم البطين من قوله هو، وكذا الأمر يقال في سعيد بن جبير أي مرة رواه عن ابن عباس موقوفا عليه، ومرة قاله سعيد بن جبير من قوله هو.
وأما رواية ابن أبي حاتم في تفسيره حيث اقتصر على قوله ” العرش لا يقدر أحد قدره “، فهي لا تنافي الأثرَ الصحيح لأن ابن خزيمة وعبد الله في السنة كلاهما رواياه بلفظ “الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره” كما سبق، فيكون ما وقع عند ابن أبي حاتم إن صح هو جزء من الأثر الموقوف قد روي مرة هكذا مختصرا، أو تكون جملة “الكرسي موضع القدمين” زيادة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة.
وأما أنه روي بالإفراد مرة ـ أي بلفظ “الكرسي موضع قدمه”ـ، وبالتثنية أخرى ـ أي بلفظ: قدميه ـ، ومرة بالإضافة ومرة بدون إضافة ـ أي مرة بلفظ “قدميه” ومرة بلفظ “القدمين” ـ، فرواية الإفراد ضعيفة لأنه هي نفسها الرواية التي روت الأثر مرفوعا وقد سبق أن الرفع فيها خطأ فيكون الإفراد فيها أيضا خطأ، ويكون رواية التثنية هي الصحيحة، وأما رواية الإضافة من عدمها، فالمعظم رواها بدون إضافة، فترجح على رواية الإضافة، على أنه لا تنافي بين الإضافة من عدمها لأن رواية الإضافة مفسرة لرواية عدم الإضافة، لأن القدمين هي قدماه تعالى.
والحاصل أن الأثر رواه المعظم عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا بلفظ “الكرسي موضع القدمين”، وهذا إسناد صحيح، وما تبقى فهو إما ضعيف، والضعيف لا يُعَلُّ به الصحيح، أو هو لا ينافي الصحيحَ كرواية مسلم البطين وابن جبير فإنهما رواياه مرة موقوفا على ابن عباس ومرة من قولهما.
ولذلك رأينا بعض المحدثين حكموا بصحته ووثقوا رجاله بمن فيهم عمار الدهني، فقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 323): وعن ابن عباس: {وسع كرسيه السماوات والأرض} قال: موضع القدمين، ولا يقدر قدر عرشه إلا الله. رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.اهـ ومن قبله قال الحاكم في المستدرك – (2/ 283) بعد أن أخرجه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.اهـ قال الذهبي في تلخيصه: على شرط البخاري ومسلم.اهـ وقال الألباني مختصر العلو للعلي العظيم (ص: 102): صحيح موقوف…وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.اهـ
قال وليد ـ حفظه الله وإياكم من كل سوء ـ: هذا الذي ذكرتموه غير مسلّم وفيما يلي بيان ذلك:
أولا: أما ما ذكرتم من أن المعظم رووا الأثر موقوفا، والمرفوع أعله الحفاظ بشجاع بن مخلد لأنه خالف الثقات الذين رووه موقوفا. فالجواب: أنك إن دفعت هذا الاضطراب بأن أسقطتَ المرفوع بشجاع بن مخلد فلماذا لا تُسقط أيضا الأثرَ الموقوف بعمار الدهني، فإن شجاعا هذا يكافئ الدهنيَّ، فكلاهما وثق، فشجاع بن مخلد وثقه أحمد ويحيى بن معين وابن قانع وأبو زرعة وغيرهم [4]. وأما الدهني فسيأتي من وثقه. وكلاهما ـ أي الدهني وشجاع ـ صدوق عند الحافظ في التقريب[5]. وكلاهما مذكوران في ضعفاء العقيلي وميزان الذهبي[6].
فإن قلت: ولكن شجاعا خالف الثقات الذين رووه موقوفا وأما الدهني فلم يخالف أحدا. قلنا: بل خالف جعفرَ بن أبي المغيرة الذي رواه بلفظ كرسيه علمه كما سيأتي.
وأما قولكم : إن رواية جعفر هذه ضعيفة، كما أشار إليه ابن منده بقوله السابق: عن جعفر بن أبي المغيرة لم يتابع عليه.اهـ فالجواب: أن قول ابن منده هذا فيه نظر ـ لما سيأتي ـ وإن قلّده فيه الألباني فقال عن حديث ” لما افتتح – صلى الله عليه وسلم – مكة رنّ إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده ، فقال : ايأسوا أن ترتد أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ، ولكن افتنوهم في دينهم ، وأفشوا فيهم النوح ) ” قال الألباني: وهذا الإسناد ضعيف ؛ فإن ابن أبي المغيرة هذا – وإن كان قد وثق كما يأتي عن الهيثمي -؛ فقد قال ابن منده :”ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير” . وهو الذي روى عنه مطرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (وسع كرسيه السماوات والأرض) ؛ قال : “علمه” . قال ابن منده : “لم يتابع عليه” . قال الذهبي عقبه :”قلت : قد روى عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كرسيه : موضع قدمه ، والعرش لا يقدر قدره” . قلت ـ أي الألباني ـ : يشير إلى أن ما رواه ابن أبي المغيرة عن سعيد عن ابن عباس منكر . وقال الحافظ فيه : “صدوق يهم” . وأشار الهيثمي إلى تليينه بقوله (3/ 13) : “رواه الطبراني في “الكبير” ورجاله موثقون” . وتساهل المنذري – مع وهم في العزو – فقال (4/ 177) : “رواه أحمد بإسناد حسن” ! [7]. انتهى كلام الألباني.
قال وليد ـ سلّمه الله وإياكم ـ: كلام الألباني غير مسلم، وفيه مغالطات عديدة قد لا يتسع المجال لبسطها، ولكن ما يهمنا هنا هو أن تضعيفه لحديث الطبراني المذكور ـ وهو: لما افتتح – صلى الله عليه وسلم – .. ـ بجعفر ابن أبي المغيرة اعتمادا على قول ابن منده في أثر جعفر أن كرسيه علمه: أنه “لم يتابع عليه” ، وأن الذهبي أشار إلى أنه منكر. أقول هذا التضعيف: ضعيف، وهذا الاعتماد منه غير معتمد. لأن حاصله: تضعيف أثر جعفر لأنه خالف الدهنيَّ في لفظ أثر ابن عباس. أقول: ولكن ليس اعتماد أحدهما أولى من الآخر، لأن كليهما ـ أي عمار الدهني وجعفر ابن أبي المغيرة ـ قد وُثِّق، وكلاهما رتبتهما صدوق عند الحافظ، وكلاهما لم يُتابَع في رويتهما لتفسير ابن عباس للكرسي، وبالتالي فليس تضعيف أثر جعفر لمخالفته الدهنيَّ بأولى من العكس وهو أن يُضعّف أثرُ الدهني لمخالفته لأثر جعفر، وجوابكم جوابنا.
وبيان ذلك، أن الدهني روى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين، ولم يُتابَع الدهني على ذلك، بل خالفه جعفر بن أبي المغيرة عن ابن جبير عن ابن عباس أن كرسيه علمه، ولم يتابَع جعفر على ذلك بل خالفه الدهني، وكلاهما ـ أي عمار وجعفر ـ قد وُثّق، وكلاهما قد صُحّح سنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أما توثيق عمار فسيأتي، وسبق تصحيح الحاكم لأثره، وأما توثيق جعفر ابن أبي المغيرة هذا فقد قال الحافظ في تهذيب التهذيب 2 / 108 : وقع حديثه فى ” صحيح البخارى ” ضمنا ، حيث قال فى التيمم : و أم ابن عباس ، وهو متيمم[8] . و هذا من رواية يحيى بن يحيى التميمى عن جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير… و ذكره ابن حبان فى “الثقات ” . ونقل ابن حبان فى ” الثقات ” عن أحمد بن حنبل توثيقه.اهـ
وقال مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال (3/ 233): خرّج ابن حبان البستي حديثه في «صحيحه»، وكذلك الحاكم، وأبو علي الطوسي. وفي «كتاب الصريفيني»: قال ابن منده: ليس بقوي في سعيد بن جبير. وذكر ابن حبان في «جملة الثقات»، وكذلك ابن شاهين، وقال: قال أحمد: هو ثقة.اهـ
وبهذا يتبين أن جعفرا هذا لم يطعن فيه أحد بل وثقه أحمد وابن حبان وابن شاهين، وأما قول ابن منده: ليس بقوي في سعيد بن جبير.اهـ فيعارضه أن جعفرا هذا اعتمد عليه البخاري في صحيحه في أثر ابن عباس الذي علّقه بصيغة الجزم، مع أنه من طريق جعفر هذا، وقد صرح الحافظ بأن سنده صحيح حيث قال في فتح الباري (1/ 446): قوله وأمّ ابنُ عباس وهو متيمم وصله بن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما وإسناده صحيح[9].اهـ وقال الحافظ في تغليق التعليق: قوله فيه وأم ابن عباس وهو متيمم، قال البيهقي أنا أبو عبد الله الحافظ … عن أشعث عن جعفر عن سعيد هو ابن جبير عن ابن عباسأنه أصاب [ من ] جاريته وأنه تميم فصلى بهم وهو متيمم[10].اهـ
فتبين من هذا أن سند جعفر ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو سند صحيح كما صرح الحافظ، وهو ما لم يصرح به في أثر الدهني وإنما اقتصر على قوله في فتح الباري (8/ 199): روى بن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين.اهـ واكتفى الذهبي قبله بالقول عنه في العلو (ص: 261): رواته ثقات.اهـ وهذا ليس تصحيحا كما سيأتي. ويكفي أن البخاري اعتمد على جعفر هذا في الجزم بتعليق له في صحيحه، وبالتالي فيمكن أن يقال أن عمار الدهني إن كان من رجال مسلم حيث قد أخرج له في المتابعات كما سيأتي، فإن جعفر ابن أبي المغيرة هذا فإنه من رجال البخاري ضمنا كما ذكر الحافظ.
وإن اعتبرنا أن جعفر والدهني كلاهما صدوق كما نص الحافظ على ذلك في التقريب، إلا أنه قال في الدهني: صدوق يتشيع[11]، وقال في جعفر: صدوق يهم[12]. وسيأتي أن الدهني قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ[13].اهـ وعليه فإنه يُحسّن حديث كليهما على القول بأن الصدوق حديثه حسن كما سيأتي، ولذلك حسّن بعضهم أثرَ الدهني عن ابن عباس في أن الكرسي موضع القدمين كما سيأتي، وبالمقابل قد حسّن المنذري لجعفر هذا بعض الأحاديث كحديث ( لما افتتح – صلى الله عليه وسلم – مكة رن إبليس رنة…) . وهذا بإقرار الألباني كما سبق. وقال الهيثمي عن هذا الحديث الأخير الذي في سنده جعفر ابن أبي المغيرة، قال عنه في مجمع الزوائد (3/ 99) رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.اهـ وأقرّ بذلك الألباني أيضا، بل الألباني نفسه حسن حديثا لجعفر عن سعيد عن ابن عباس “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم -, لا يفطر أيام البيض, في حضر, ولا سفر” كما سيأتي.
فتحصل أن الدهني هذا مكافئ لجعفر ابن أبي المغيرة، فكلاهما إما صحيح الحديث أو حسنه، وبالتالي فلا يصح بحال ما فعله الألباني من تضعيف أثر جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن كرسيه علمه، بسبب مخالفته للدهني في لفظ أثر ابن عباس، إذ هذا ليس بأولى من القول بأن الدهني خالف جعفرا في لفظ الأثر نفسه، بل هذا أولى لأن أثر الدهني هذا مضطرب سندا ومتنا أو فيه اختلاف على الأقل كما سبق، وأما زعم الألباني أن الذهبي قد أشار إلى نكارة أثر جعفر بن أبي المغيرة “كرسيه علمه” فهذه الإشارة من كيس الألباني، فالذهبي لم يشر إلى نكارته ولا هم يحزنون، غاية ما فعله أنه سرد أثر الدهني المخالف في المتن لأثر جعفر، وقد قلنا إن كلا منهما خالف الآخر.
هذا وقد احتج الطبري بأثر جعفر هنا في هذا المقام فقال في سياق ترجيحه لمعنى الكرسي بعد أن سرد فيها أقوالا عدة عن السلف: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، عنه ـ أي عن ابن عباس ـ أنه قال: هو علمه[14].اهـ
وقد اعترف الشيخ محمود شاكر بصحة إسناد جعفر هنا، فقال في حاشيته على تفسير الطبري (5/ 401):وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد على شرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد ..ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له.اهـ فتأمل كيف أقر الأستاذ شاكر بصحة أثر جعفر أن كرسيه علمه، مع أنه خالف الطبريَّ في اختياره هذا بكلام ذكره سنأتي على مناقشته إن شاء الله.
ولعله من أجل التعارض بين رواية الدهني وجعفر عن ابن عباس: أعرض البخاري عن كليهما فقال في كتاب التفسير من صحيحه: وقال ابن جبير { كرسيه } علمه[15]. قال في فتح الباري (8/ 199): قوله “وقال بن جبير كرسيه علمه” وصله سفيان الثوري في تفسيره في رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح وأخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير.اهـ
وأما قولكم بأن رواية الطبري عن مسلم البطين الأثرَ من قوله، ورواية ابن منده الأثر عن سعيد بن جبير من قوله، بأن هذا كله لا ينافي الأثرَ الصحيح الموقوف، لأنه ممكن يكون روي بكل هذه الوجوه على وجه الصحة، فالجواب: أن هذا مجرد احتمال عقلي ظني لا أكثر، وهو مدفوع بأن الذي صح عن سعيد بن جبير أن كرسيه علمه كما سبق عند البخاري وابن حجر، فيكون رواية ابن منده عن سعيد بن جبير أن الكرسي موضع القدمين: هو أحد الوجوه المضطربة لأثر ابن عباس حيث روي مرة موقوفا عليه ومرة على سعيد بن جبير ومرة على مسلم البطين وهكذا.
تتمة: أيّد الألباني وبعض أتباعه قولَ ابنِ منده بأن جعفر بن أبي المغيرة “ليس بالقوي في سعيد بن جبير ” فذكروا لجعفر حديثين أخطأ فيهما على سعيد على ابن عباس، وليس الأمر كذلك، وفيما يلي بيانه:
أما الحديث الأول: فهو حديث ” أولياء الله الذين إذا رؤوا ذُكر الله “. فقد قال الألباني: أخرجه المروزي.. والطبراني في ” المعجم الكبير ” وأبو نعيم في “أخبار أصبهان ” …من طريقين عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. قلت: ورجال الطبراني وأبي نعيم ثقات غير جعفر هذا، قال الحافظ: ” صدوق يهم “. وقد خالفه سهل أبو الأسد فقال عن سعيد بن جبير مرسلا، لم يذكر في إسناده ابن عباس. أخرجه ابن المبارك في ” الزهد ” (217) والدولابي في ” الكنى ” قلت: وسهل هذا ثقة كما قال ابن معين. وقال أبو زرعة: صدوق. وذكره ابن حبان في ” الثقات ” فروايته مقدمة على رواية جعفر بن أبي المغيرة، فالحديث مرسل. وأما قول الهيثمي في ” المجمع ” : ” رواه الطبراني، ورجاله ثقات “! قلت: فهذا الإطلاق من أوهامه أو تساهله، فإن جعفر بن أبي المغيرة قد عرفت قول الحافظ فيه، وقال ابن منده: ” ليس بالقوي في سعيد بن جبير “. وهذا من روايته عنه كما ترى، وقد خالفه من هو أوثق منه كما سبق[16].اهـ
قال وليد: لو بحث الألباني قليلا لما أطلق هذه الدعاوى العريضة ولا ألقى هذا الكلام على عواهنه، بل لو راجع كلامَ البزار الذي أحاله إليه الهيثميُّ لما خطّأ الهيثميَّ، وبيان ذلك أن الهيثمي قال في [باب في الذين إذا رءوا ذكر الله] 16778 – عن ابن عباس «عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال: ” يذكر الله بذكرهم» “. رواه الطبراني، ورجاله ثقات. 16779 – وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: ” الذين إذا رءوا ذكر الله» “. رواه البزار عن شيخه: علي بن حرب الرازي، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا[17].اهـ
وهذا الكلام نقل معظمَه الألبانيُّ فاعترض على الهيثمي واتهمه بالوهم والتساهل دون أن يرجع إلى مصدر الهيثمي الثاني وهو مسند البزار. ولو راجعه لوجد البزار يقول في مسنده: حدثنا على بن حرب الرازي، قال: حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري، وهو القمي عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله. ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذ الإسناد. وقد رواه غير محمد بن سعيد، عن يعقوب عن جعفر، عن سعيد بن جبير، مرسلا[18].اهـ فبين البزار أن العذر في ذكر ابن عباس في السند هنا ليس من جعفر إنما ممن هو دونه.
ويؤيد هذا أن ابن أبي شيبة رواه في مصنفه من طريق جعفر مرسلا فقال: حدثنا، يحيى بن يمان، عن، أشعث، عن، جعفر، عن، سعيد بن جبير، رفعه: ” {إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} يذكر الله لرؤيتهم “[19]. وكذا أخرجه الطبري في تفسيره مرسلا[20].
وأخرجه أبو نعيم من نفس هذا السند الأخير ولكن متصلا، فقال في أخبار أصبهان (1/ 276): ثنا عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قال: «يذكر الله عز وجل برؤيتهم».اهـ
وطريق أبي نعيم هذه المتصلة أشار إليها الألباني وأنحى باللائمة بالوصل فيها على جعفر، ولكن قصّر الألباني في البحث فلم يعلم أن طريق أبي نعيم هذه وردت عند ابن أبي شيبة والطبري مرسلة من طريق جعفر أيضا، أي أنه ليس العذر في وصله من جعفر وإنما ممن دونه، ولذلك قال بعض السلفية تعقيبا على طريق أبي نعيم: “عبد الله بن عمر بن أبان على وثاقته له مناكير ، وقد انفرد برفع هذا الخبر ووصله عن يحيى بن يمان ، فقد خالفه جبل الحفظ أبو بكر بن أبي شيبة فرواه مرسلاً” … إلى أن يقول بعد أن يذكر طرق الحديث: “فهذا اختلاف شديد على يحيى بن يمان فمنهم من يرويه عنه مرسلاً ، ومنهم من يرويه موقوفاً عن ابن عباس بسند ضعيف. ويحيى بن يمان قال فيه في التقريب :” صدوق عابد يخطىء كثيرا و قد تغير”[21].
فإذن يوجد رجلان في سند أبي نعيم يمكن أن يلقى عليهم لوم وصل الحديث قبل أن يلوم الألباني جعفر ابن أبي المغيرة. ثم إذا كان الألباني يضعف هذا السند ـ أي سند حديث «يذكر الله عز وجل برؤيتهم».ـ لقول الحافظ في جعفر أنه صدوق يهم، فإن الحافظ أيضا قال في يعقوب القمي الراوي عن جعفر في سند البزار السابق: صدوق يهم، وهذا بإقرار الألباني كما سنرى، فلماذا لا يكون ذِكر ابن عباس هنا هو من أوهام يعقوب الراوي عن جعفر لا من جعفر نفسه؟ وهو ما تنبه إليه محقق مسند البزار ونبه إليه في حديث آخر بنفس السند ذكره البزار عقب الأول وهو حديث ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا في سفر”.
ولكن محقق البزار حمل الوهمَ على جعفر والقمي الراوي عنه كليهما، وزعم أن فيهما ضعفا، وليس بسديد فإن هذا الحديث الأخير حسنه النووي فقال في رياضه: رواه النسائي بإسناد حسن[22]. وأقر الأثيوبي شارح المجتبى بأنه حسّن ورجاله كلهم ثقات بمن فيهم جعفر هذا[23]، وأقر الألباني نفسه بحسنه في سلسلته الصحيحة[24] مع أنه أقر بأن فيه يعقوب القمي وجعفر ابن أبي المغيرة وأن كليهما قال فيهما الحافظ : صدوق يهم. إذن فلماذا تهجم الألباني على الهيثمي مستندا إلى قول ابن منده بأن جعفرا هذا ليس بالقوي في سعيد بن جبير، فما باله صار قويا فيه الآن؟ فكان ينبغي على الألباني ـ لو كان منصفا ـ أن يقر بحسن أثر جعفر عن سعيد عن ابن عباس “كرسيه علمه”، بل هذا أولى لأن هذا الأخير لم يرفعه، بخلاف أثر الأيام البيض فإنه رفعه.
وبهذا يتبين أن صحة ما قاله الهيثمي وبطلان اعتراض الألباني وتشنيعه عليه، أصلا الهيثمي لم يقل أكثر من أنه: أخرجه الطبراني ورجاله ثقات. وفعلا أخرجه الطبراني، وفعلا رجاله ثقات كما رأينا بمن فيهم جعفر فقد وثقه أحمد وابن حبان بإقرار الألباني كما سيأتي، فأين اعتراض الألباني عليه؟! هل لأنه لم يضعفه بحجة أنه مرسل لا موصول؟ فهذا ليس العذر في وصله من جعفر كما رأينا من طرق أخرى لم ينظر فيها الألباني أصلا… فالألباني هو المقصر ثم يلوم غيره… وهذا من أعجب العجب.
وأما الحديث الثاني الذي أَنكره بعض السلفية على جعفر ابن أبي المغيرة: فهو أشار إليه مُحقِقا كتاب إكمال تهذيب الكمال مغلطاي (3/ 233)، وهو أن جعفرا أخطأ على سعيد في حديث “وقع في نفس موسى: هل ينام الله… ” وأحالنا المحققان إلى السلسلة الضعيفة، وبرجوعي إليها وجدت الألباني يقول العكس، حيث أورد هذا الحديث من رواية الطبري بسنده عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر قال: فذكره.
ثم قال الألباني: قلت: وآفة هذا الحديث عندي الحكم بن أبان هذا.اهـ ثم سرد كلام العلماء في تضعيفه والكلام عليه ومنهم ابن كثير حيث قال: وهو من أخبار بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل، وأنه منزه عنه … ثم ذكر من رواية ابن أبي حاتم بسنده عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ” أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله، فناداه الله عز وجل: يا موسى سألوك هل ينام ربك، فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل، … إلى قوله فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
ثم قال الألباني: قلت: وهذا هو الأشبه بهذه القصة أن تكون من سؤال بني إسرائيل لموسى، لا من سؤال موسى لربه تبارك وتعالى، ومثل هذا ليس غريبا من قوم قالوا لموسى: ” أرنا الله جهرة “! على أن في سنده جعفر بن أبي المغيرة، وثقه أحمد وابن حبان، لكن قال ابن منده: ليس بالقوي في سعيد بن جبير، والله أعلم.[25]
قال وليد ـ وفقه الله وإياكم ـ : فإذن أولا: حديث جعفر ابن أبي المغيرة عن سعيد عن ابن عباس ليس مرفوعا، وإنما الرفع وقع في حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة، ثانيا: حديث جعفر ابن أبي المغيرة وقع فيه “أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ ” ولم يقع فيه ما وقع في حديث أبي هريرة من أنه ” وقع في نفس موسى: هل ينام الله ” أي أن حديث جعفر ليس فيه نكارة البتة لا في السند ولا في المتن، بل هو يزيل النكارة، ولذا أتى به ابن كثير ليزيل هذه النكارة في السند والمتن التي وقع في حديث أبي هريرة، وأقره الألباني وحكى توثيق ابن حبان وأحمد لجعفر هذا ليقوي من شأن الحديث، فكيف اعتبر محققا كتاب مغلطاي أن هذا الحديث مما أخطأ فيه جعفر على سعيد؟!!!
نعود إلى الجواب عن أثر الدهني الكرسي موضع القدمين، فأقول: وأما قولكم أيضا بأن رواية ابن أبي حاتم للأثر بلفظ “العرش لا يقدر أحد قدره ” إنما هو جزء واختصار للأثر، أو تكون جملة “الكرسي موضع القدمين” زيادة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة. فالجواب: أن هذا احتمال عقلي يعارضه احتمال آخر أن يكون هذا سببه عدم ضبط متن الأثر من قِبل عمار الدهني الذي لا يَحتمل التفرد كما سنرى، أو ممن رواه عنه، وهذا يؤيده كثرة الأوجه المختلفة في سنده ومتنه كما سبق.
وأما قولكم أن رواية الإفراد ـ أي بلفظ الكرسي موضع قدمه ـ ضعيفة لأنه هي نفسها الرواية التي روت الأثر مرفوعا ورفعه خطأ كما سبق… فالجواب: ما سبق وهو أن إسقاط رواية الرفع يوجب إسقاط الأثر الموقوف برمته أيضا، لاسيما وأن رواية تثنية القدمين مخالفة لأحاديث الصحيحين التي فيها إضافة قَدم واحدة إليه تعالى كما سبق[26].
وأما قولكم: أن رواية الإضافة من عدمها، فالمعظم رواها بدون إضافة، فترجح على رواية الإضافة، على أنه لا تنافي بين الإضافة من عدمها لأن رواية الإضافة مفسرة لرواية عدم الإضافة، لأن القدمين هي قدماه تعالى. فالجواب: أننا لا نسلم أن المعظم رواها بدون إضافة، بل وقع الخلاف في النسخ المخطوطة لمن أخرج الأثر ككتاب السنة لعبد الله كما رأينا حيث نجد الأثر نفسه يرد في بعض النسخ بالإضافة وفي بعضها بعدم الإضافة، وأما أنه لا تنافي بين الإضافة وعدمها فغير مسلم أيضا لأن الأثر بلفظ “موضع القدمين” بدون إضافة يحتمل أن يكون القدمان قدمي مَلك من الملائكة كما قال بعض المفسرين كما سبق، ولا يتعين أن يكون القدمان قدميه تعالى.
وأما ما ذكرتم من تصحيح الحاكم وأنه على شرط الشيخين وموافقة الذهبي له فهذا فيه نظر … انتظره بحول الله
انظر اللاحق:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/2883433545103982/
———————————————————-
[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/2835671236546880/
[2] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 221)
[3] فتح الباقي بشرح ألفية العراقي لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (1/ 272)
[4] تهذيب التهذيب 4 / 312
[5] جاء في تقريب التهذيب – ت عوامة (ص: 264): شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل البغوي نزيل بغداد صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف فذكره بسببه العقيلي من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين م د ق.
[6] أما عمار الدهني فسيأتي ، وأما شجاع بن مخلد فذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 265)، وجاء في حاشية تهذيب الكمال (12/ 381) عند ترجمة شجاع بن مخلد: (وقال ابن حجر في “التهذيب”. قال ابن قانع: ثقة ثبت، وقال أحمد: كان ثقة وكان كتابه صحيحا، حكاه اللالكائي، وذكره العقيلي في “الضعفاء”. (تهذيب 4 / 312 – 313) ولم نقف على ترجمة له في نسختنا المخطوطة من”ضعفاء العقيلي”)
[7] سلسلة الأحاديث الضعيفة (11/ 10)
[8] صحيح البخاري بتحقيق البغا (1/ 130): وأم ابن عباس وهو متيمم .اهـ
[9] وقال ابن رجب في فتح الباري – (2/ 264): وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم … . وقد خرجه سعيد بن منصور : ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال ، كان ابن عباس في نفر من أصحاب محمد ، منهم ، : عمار بن ياسر ، وكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله، وصلى بهم ذات يوم ، فاخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم .اهـ
[10] تغليق التعليق على صحيح البخاري (2/ 187)
[11] تقريب التهذيب – ت عوامة (ص: 408)، وانظر تحفة اللبيب بمن تكلم فيهم الحافظ ابن حجر من الرواة في غير «التقريب» (1/ 590)
[12] تقريب التهذيب (ص: 141)
[13] الثقات لابن حبان (5/ 268)
[14] جامع البيان ط هجر (4/ 540)
[15] صحيح البخاري بتحقيق البغا (4/ 1648)
[16] سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 311)
[17] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 78)
[18] مسند البزار = البحر الزخار (11/ 251)
[19] مصنف ابن أبي شيبة (7/ 79)
[20] جامع البيان ط هجر (12/ 209)
[21] انظر: ” الكلام على حديث ( أولياء الله هم الذين يذكر الله لرؤيتهم )” على الرابط:
http://alkulify.blogspot.com/2013/10/blog-post_6621.html
[22] رياض الصالحين ط الرسالة (ص: 361)
[23] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 259)
[24] سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 122)
[25] سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 124)
[26] منها حديث أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين “فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رِجلهفتقول قط قط قط” وحديث أنس مرفوعا عند الشيخين أيضا ” لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط وعزتك ويزوى بعضها إلى بعض”.