[3] هل صحيح أن تأويل الأشاعرة هو من قبيل التحريف؟
(شبهات حول الأشاعرة)
‘‘‘‘‘3ـ والأوضح من هذا قول الله تعالى في الحديث القدسي للعبد يوم القيامة [مرضت فلم تعدني] ، وليس المراد أن الله تعالى يتصف بالمرض قطعاً ، والمراد هو أن عبداً من عباد الله تعالى مرض ، وهو التفسير الذي جاء في الحديث نفسه .
ويتعين في هذه اللفظة العدول عن تفسيرها بمعنى الآفة ، لاستحالة هذا المعنى على الله تعالى ، وهذا هو التأويل عند الأشاعرة ، ولا تستطيع أن تقول إن لله تعالى مرضاً حقيقياً يليق به .
وقد تقدم هذا مع أمثلة أخرى في الموضوع الأول الذي عنوانه [مصدر التلقي] فراجعه . وتذكر كيف فسر ابن تيمية رحمه الله الحديث بالمعنى الصحيح الوارد في الحديث نفسه ، بخلاف الظاهر المتبادر من لفظة “مرضتُ” ، ولكنه يسمي هذا “تفسيراً” ويأبى تسميته “تأويلاً” !!! .
ونحوذلك لفظة التردد الواردة في الحديث القدسي الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى [من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب … ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته] [ (1) ] .
فقد نقل ابن حجر في شرح الحديث تأويلَ الخطابي والكلاباذي وابن الجوزي والكرماني لهذه الفقرة الأخيرة ، وصرْفَهم لها عن ظاهر معنى التردد ، وذكرَ بعضَ ما قالوه في تأويل لفظ التردد الذي جاء فيها .
(1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق ، باب التواضع . ومسند الإمام أحمد: 6/256 .
ولا يخفى أن التردد عن الشيء هو الرجوع عنه وإليه كرة بعد أخرى ، والذي يقع له التردد هو الذي تشتبه عنده وجوه المصلحة بين الفعل والترك ، ولا شك في أن هذا يستحيل على الله تعالى ، وهذه الاستحالة هي القرينة على صرف معنى لفظة التردد من هذا المعنى المحال إلى معنى آخر ، وهو أنه سبحانه وتعالى يفعل ما تشبه صورته صورة فعل المتردد ، أي إنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات .
أما ابن أبي العز سامحه الله عند شرح قول الطحاوي ونحب أهل العدل والأمانة فقد ذكر الحديث وقال: [فبيّن أنه يتردد ، لأن التردد تعارض إرادتين ، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده المؤمن ويكره ما يكرهه ، … وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه ، فسمى ذلك تردداً…] .
أقول: فقوله [فبين أنه يتردد] إثبات لصفة التردد لله جل وعلا ، وقوله [لأن التردد تعارض إرادتين] تأكيد لإثبات ذلك ، أما قوله [وهو يحب ما يحب عبده المؤمن ويكره ما يكرهه ، … وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه فسمى ذلك تردداً] فهذا تفسير للفظة التردد بغير أصل معناها ، ولذا قال [فسمى ذلك تردداً] ، وهل هذا إلا تأويل؟ !!! . ومن الغريب أن التردد الوارد في الحديث هو التردد في الفعل ، إذ يقول سبحانه [وما ترددت عن شيء أنا فاعله … ] ، فنقله إلى معنى آخر ، وهو محبة ما يحبه عبده المؤمن وكراهية ما يكرهه ، ومع ذلك فإن هذا عند بعض الباحثين [تفسير] ، ويأبون من كلمة [تأويل] ، بل وينكرون على من يقول ذلك ، وكأن المسألة مسألة اختلاف في التسمية ! .
4 ـ قال الله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى] [ (1) ] .
فما معنى كون الأسرى في أيدي المؤمنين؟ وهل إذا طلب من المؤمنين أن يفتحوا أيديهم فإننا نجد الأسرى فيها ؟؟! هذا ما يفهم من ظواهر الألفاظ المقطوعة عن السياق ، وليس هذا هو المراد ، والمعنى
(1) سورة الأنفال ، الآية 70 .
هو أن الأسرى تحت سيطرة المؤمنين ، وهذا يسميه الأشاعرة [تأويلاً] .
5 ـ قال الله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ] [ (1) ] .
فهل يختلف خلق المخلوقات على الله سبحانه وتعالى سهولة وصعوبة حتى تكون الإعادة أهون عليه من الابتداء ؟! تعالى ربنا عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، وليس هذا هو المراد ، فالكل عند الله تعالى هين وأيسر من اليسير ، ولكن كأنه يقول للناس: كيف تتعجبون من الإعادة وتنكرونها وهي في عرفكم أهون من الابتداء؟ !! . وهذا يسميه الأشاعرة [تأويلاً] .
6 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وَلْيُلْبِسْه مما يلبَس ، …] [ (2) ] .
فكيف نفهم قوله صلى الله عليه وسلم [تحت أيديكم]؟ أبظاهر هاتين اللفظتين؟ ! وهل إذا نظرت تحت يد السيد لوجدت جميع عبيده تحت يده؟ ! أو إن المعنى يُؤول بملك السيد للعبد ونفوذ تصرفه فيه؟ ! .
7 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد][ (3) ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المؤمن يأكل في مِعىً واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء] [ (4) ] . الأمعاء جمع ، ومفرده مِعىً .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وعضوا عليها بالنواجذ] [ (5) ] .
(1) سورة الروم ، الآية 27 .
(2) صحيح البخاري: كتاب الإيمان ، باب المعاصي من أمر الجاهلية .
(3) صحيح مسلم: كتاب المساجد ، رقم الحديث 147 .
(4) صحيح البخاري: كتاب الأطعمة ، باب المؤمن يأكل في معى واحد .
(5) مسند الإمام أحمد: 4/126 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل] [ (1) ] .
وقال أنس رضي الله عنه : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء من المدينة كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كل شيء [ (2) ] .
فهل تفهم ـ أيها العاقل المستبصر ـ من ظواهر الألفاظ أن الخطيئة تغسل بالماء والثلج والبرد؟ ! وأن الكافر يأكل في سبعة أمعاء بينما المؤمن يأكل في معى واحد؟ ! وهل تعض على السنة النبوية بنواجذك التي تعض بها على اللقمة؟ ! وهل أضاءت المدينة المنورة يوم دخوله صلى الله عليه وسلم إليها إضاءة النهار وأظلمت يوم وفاته ظلام الليل؟ ! . فإذا فهمت النصوص بغير ظواهر الألفاظ المقطوعة عن السياق فهذا هو [التأويل] عند الأشاعرة .
8 ـ قال رسول الله صلى عليه وسلم: [عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يمل الله حتى تملوا][ (3) ] .
فهل الله سبحانه وتعالى يَمَلُّ؟ نعوذ بالله من أن يقول قائل إن الله يدركه الملل !!! فالملل من صفات المخلوقين ، وجل ربنا وتقدس عن أن يوصف بما يختص به المخلوق من صفة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته ، وهو محال على الله تعالى باتفاق . ونقل عن الإسماعيلي وجماعة من المحققين أنه إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازاً ، ثم نقل عن القرطبي أنه قال: وجه مجازه أنه
(1) سنن أبي داود: 3/61 ، كتاب الجهاد: باب في الدلجة ، أو باب في سرعة السير [في طبعة أخرى] .
(2) مسند الإمام أحمد: 3/221 ، 268 .
(3) صحيح البخاري: كتاب الإيمان ، باب أحب الدين إلى الله أدومه .
***8
تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه[ (1) ] .
ونعوذ بالله من أن يقول قائل إن للهِ مللاً يليق به لا يشبه ملل المخلوقين ، متذرعاً بأنه يثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع نفي التشبيه !!! فهل يوصف الله تبارك وتعالى بصفة نقص ثم يقال [مع نفي التشبيه]؟ ! .
9 ـ روى البخاري من طريق مسروق بن الأجدع عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لُحُوقاً؟ . فقال: [أطولكن يداً] . فأخذوا قصبة يذرعونها ، فكانت … أطولَهن يداً ، فعلمنا بعدُ أنما كانت طولَ يدها الصدقة ، وكانت أسرعَنا لحوقاً به ، وكانت تحب الصدقة [ (2) ] .
وروى مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أسرعكن لَحَاقاً بي أطولكن يداً] . قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً .قالت: فكانت أطولنا يداً زينب ، لأنها كانت تعمل بيدها وتصَّدَّق [ (3) ] .
وروى الحاكم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: [أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً] . قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار ، نتطاول ، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش ، وكانت امرأة قصيرة ، ولم
(1) فتح الباري: 1/102 .
(2) صحيح البخاري: كتاب الزكاة ، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح. وانظر الحديث في طبعة فتح الباري: 3/285 – 286 .
(3) صحيح مسلم: فضائل الصحابة ، من فضائل زينب: 4/1907 .
تكن أطولنا ، فعرفنا حينئذٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة [ (1) ] .
المعنى الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم [أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً] أن الزوجة التي أعطاها الله تعالى بسطة في الجسم وطول اليد هي أسرع لحاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، فكانت أمهات المؤمنين يذرعن أيديهن بقصبة ، أو يمددن أيديهن في الجدار ، ليعلمن من منهن هي الأطول يداً؟ وبالتالي من منهن هي الأسرع لحاقاً بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ .
أليس هذا هو ما يدل عليه الحديث حسب ألفاظه؟ ! أليس هذا هو ما فهمته أمهات المؤمنين من الحديث؟ !!! .
ثم لما توفيت زينب بنت جحش قبل غيرها وكانت الأسرعَ لحاقاً به صلى الله عليه وسلم؛ تبين لسائر أمهات المؤمنين أن المراد من الحديث ليس هو المعنى الذي تبادر إلى أفهامهن ، فزينب امرأة قصيرة ، ولم تكن أطولهن يداً ، إلا أنها كانت تحب الصدقة كثيراً ، وكانت امرأة صَناَعاً ، فكانت تعمل بيدها وتتصدق ، فعلمن رضي الله عنهن أن المراد من طول اليد في الحديث كثرة الصدقة .
فهل يمكن أن يأتي نص ويكونَ معناه المراد منه هو غير المعنى الظاهر؟ أترك الجواب لأرباب الحِجَى .’’’’
كذا في كتاب عقائد الأشاعرة للشيخ صلاح الدين الإدلبي (ص: 150)
وانظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/407511846029510/
(1) المستدرك للحاكم: 4/25 . طبقات ابن سعد: 8/108 بنحوه .
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/626594550787904/