المحكم والمتشابه

(3) هل ثمة دلالة على العلو في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا …} [غافر: 36، 37][1]

“وحينها يكون كما لو أن زيدا من الناس أخبر مَلِكا بأن العدو يُعِدّ العدةَ للهجوم على مملكته، فقال الملكُ لوزير: “أيها الوزير ادعُ لي الأطباء وابنِ لي مستشفى من أجل أن نفحصَ الرعيةَ ونتأكد من إصابتهم بمرض الطاعون … وإني لأظن زيدا كاذبا في أن الناس في مملكتي أصيبوا بالطاعون”….!!! فهل يستقيم هذا الكلام من الملِك ؟!!!!”
(3) هل ثمة دلالة على العلو في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [غافر: 36، 37][1]

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/739372466176778
ومما يؤكد الاحتمال الثاني وهو أن فرعون قَصَد بقوله “وإني لأظنه من الكاذبين” أي في ادعاء أن موسى له إلها غيري….أقول مما يؤكد ذلك سياق الآيةُ نفسها في سورة القصص، وهي قوله : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [القصص: 38]
فسياق هذه الآية يدل بوضوح أن فرعون قَصد بقوله “وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” أي في ادعاء موسى أن له إلها غيري؛ لأن هذا هو الذي سَبق في صَدر الآية، وهو قوله ” وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ” ثم عقّب فرعونُ بالقول: ” فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ….” أي أن موسى يَدّعي أن له إلها غيري فابن لي يا هامان صرحا لكي أتأكد من ذلك[2]، وإني لأظنه كاذبا؛ أي في هذا الادعاء الذي ذَكره في صدر الآية وهو “أن له إلها غيري”.
فهذا تقدير الآية، وإلا لاضطرب صدرُ الكلام مع آخره فيها، مع أنه لقائل واحد وهو فرعون، وفي موضوع واحد، كما سيأتي بسط ذلك .
فصار معنى الآية وتقديرها : “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي” ولكن موسى زعم أن له إلها غيري “فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” في ادّعائه أن له إلها غيري.
وهذا التقدير وهو قولنا “ولكن موسى زعم أن له إلها غيري” ليس من بنات أفكارنا، وإنما دلت عليه آيات كثيرة في القرآن:
مثل قوله تعالى:{ وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) } [الأعراف: 104]
وقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 49، 50].
وقوله تعالى: { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [الشعراء: 23 – 29]
وقوله تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 – 19] فقوله : ” وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ ” فيه تصريح بأن موسى أخبر فرعونَ بأن له ـ أي لفرعون ـ ربّا، وليس كما زعم فرعونُ أنه هو الرب الأعلى والإله الأوحد.
… إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة صراحة على أن موسى ـ عليه السلام ـ أخبر فرعونَ بأن له ربا هو رب العالمين، وهو الذي أقرّ به السحرةُ حين آمنوا { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 120 – 123] .
ولكن أين في القرآن أن موسى ـ عليه السلام ـ أَخبر فرعونَ بأن له ربّا في السماء …..؟!!!!
فهذا القرآن أمامكم من أوله إلى آخره… وقد تكررت فيه قصةُ موسى كثيرا … فهاتوا لنا منه آية واحدة صريحة في أن موسى أخبر فرعونَ بأن الله في السماء.
إذن قولكم هذا وهو أن موسى أخبر فرعونَ بأن الله في السماء، ليس في القرآن آية واحدة تدل على ذلك صراحة.
وأما تقديرنا السابق وهو قولنا ” ولكن موسى زعم أن له آلها غيري ” فقد دل عليه أمران:
الأول: أن هذا التقدير جاء صراحة في آيات كثيرة دلت على أن موسى أخبر فرعونَ بوجود الله وأنه رب فرعون ورب العالمين.
الثاني: أن هذا التقدير يدل عليه سياق الآية كما أشرنا سابقا… ونزيد هذا الأمر بيانا فنقول : إن قول فرعون “وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ” قصد به فرعونُ تكذيبَ موسى ـ عليه السلام ـ في قوله أن له إلها غيره؛ كما دل على ذلك آيات كثيرة وكما جاء في صدر هذه الآية نفسها… فوجب أن يكون آخر الكلام مناسبا لأوله، وإلا لكان الكلام مضطربا… وحينها يكون كما لو أن زيدا من الناس أخبر مَلِكا بأن العدو يُعِدّ العدةَ للهجوم على مملكته، فقال الملكُ لوزير: “أيها الوزير ادعُ لي الأطباء وابنِ لي مستشفى من أجل أن نفحصَ الرعيةَ ونتأكد من إصابتهم بمرض الطاعون … وإني لأظن زيدا كاذبا في أن الناس في مملكتي أصيبوا بالطاعون”….!!!
فهل يستقيم هذا الكلام من الملِك….يُخبَر بأن العدو يجهز لحربه… فيكذّب أو يشكك بأن رعيته مصابة بالطاعون….؟!!!!
هل يستقيم أن يكذّب الملكُ خبرا لم يُخبر به أصلا، ثم يُعدّ العدة لموجب خبر آخر اخترعه الملكُ نفسه ؟!!!
فكما لا يستقيم هنا … لا يستقيم في الآية السابقة أيضا حيث إن فرعون قال في أولها ” مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي “، وفي آخرها قال “وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” أي في هذا الأمر، أي إني لأظنه كاذبا في أنه ثمة إله غيري…ولو أن فرعون قَصَد وإني لأظنه كاذبا في أن الله في السماء لما قال فرعون في صدر كلامه ” مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ” بل لقال “ما علمت لكم من إله في السماء” …..فحينها يناسب أن يكون المرادُ في قوله “وإني لأظنه من الكاذبين” أي في أن الله في السماء…. أَمَا وأنّ فرعون بدأ كلامه بالقول ” مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ” فيجب أن يكون قوله في آخر الآية : “وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” متعلِّقا بهذا الذي بدأ به، فيكون التقديرُ: وإني لأظن موسى كاذبا في أن له إلها غيري، وبذلك ينسجم أول الكلام مع آخره.

نعم ههنا اعتراض يَرِد، وحاصله هو: …… وانظر اللاحق:

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/743963895717635/.

[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/791337320933845/
[2] وأما : لماذا لم يبحث فرعونُ عن إله موسى في الأرض، وراح يبحث عنه في السماء….فسيأتي الجواب عليه لاحقا إن شاء الله.

السابق
[1] هل ثمة دلالة على العلو في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا …} [غافر: 36، 37]
التالي
من محدثات الصحابة رضوان الله عليهم: الدرس قبل خطبة الجمعة (منقول)