الخلاصة: وبعد… فهذه ستة عشر فرقا بين استوائنا على الدواب واستواء الله على عرشه، وكل هذا أثبتناه من نصوص ابن تيمية نفسه الذي كان قد فسر استواء الله بالمعنى الذي يُفسر ويُفهم به استواؤنا على الدواب وإلا يكون ذلك تجهما وتأويلا وتحريفا بل إنكارا للاستواء!!! ولكن تبين أن ابن تيمية نفسه هو أول من رفض عمليا هذا التفسير وذلك من خلال هذه الفروق الكثيرة التي أبداها بين الاستوائين، بحيث لم يبق بينهما جامع أصلا، وإن كان هو أحيانا يتردد في بعض تلك الفروق كما سبق.
والمقصود هنا أن ابن تيمية هو أول من نسف معنى الاستواء لله نسفا والذي كان قد زعم أنه هو نفس المعنى المفهوم من استوائنا على الدواب، فبدأ أولا بنفي أن يكون استواؤه تعالى من قبيل استواء الأجسام، ونفى أيضا أن يكون العرش محلا له تعالى أو حاملا له أو بحاجة إليه إلى غير ذلك مما سبق، بحيث لم يبق منه إلا العلو الحسي، ولكن هذا ليس هو الاستواء لأن ابن تيمية يثبت العلو الحسي لله حتى قبل استوائه تعالى على العرش لأنه تعالى لم يزل عنده عاليا كما سبق من نصوصه، حتى هذا العلو الحسي جعله عدميا، وقد بينا أن كونها عدميا يتنافى مع كونه حسيا لأن الحسي لا يكون عدما، والعدم لا يُحسُّ!!!
(3) مناقشة قول ابن تيمية بأن استواء الله تعالى يُفسر بنفس معنى استوائنا على الدواب[1]
#الفروق_بين_استواء_المخلوقين_واستواء_الخالق
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/3171574106289923/
الفرق العاشر: أن الدابة حينما يجلس أحدنا عليها تحويه وربما تحوي اثنين أو ثلاثة آخرين، وأما العرش فلا يحوي اللهَ سبحانه عند ابن تيمية حيث قال: وسائر علماء السنة إذا قالوا ” إنه فوق العرش وإنه في السماء فوق كل شيء ” لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك[2].اهـ ويقول ابن تيمية: وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه؟ “[3].
وردّ ابن تيمية على من قال بأن الله يجلس على العرش سوى أربع أصابع، فقال: لكن كثير ممن رواه رووه بقوله {إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع} فجعل العرش يفضل منه أربع أصابع. واعتقد القاضي وابن الزاغوني ونحوهما صحة هذا اللفظ فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: هو موضع جلوس محمد صلى الله عليه وسلم. .. وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوي عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر. وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة وللعقل…فإن طريقة القرآن في ذلك أن يبين عظمة الرب فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها[4].
الفرق الحادي عشر: أن الدابة التي نستوي عليها أو سرير الملك الذي يجلس عليه ملك من ملوك البشر كلاهما – أي الدابة وسرير الملك- جزء صغير جدا جدا من الكون، وأما عرش الله فهو أكبر مخلوق في الكون. يقول ابن تيمية : وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة [له] إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقًا يحصره ويحويه[5].اهـ
الفرق الثاني عشر: إناستواءنا على الدابة يكون بملاصقة ومماسة لظهرها بنا، وأما استواء الله على عرشه فهل هو بمماسة وملاصقة للعرش عند ابن تيمية؟! في الواقع ابن تيمية متردد في ذلك وأتباعه مختلفون في ذلك كما سأبسطه لاحقا بحول الله[6].
وهنا أبيّن تردد ابن تيمية في ذلك، فهو من جهة يؤكد مرارا على أن الله مباين لخلقه عامة ولعرشه خاصة، أما الأول أي مباينته لخلقه عامة، فقد قال في التدمرية: وقد عُلم أن ما ثمّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته[7]. وقال: ” أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم إلا الله، وما زال علماء السلف يثبتون المباينة ويردون قول الجهمية بنفيها”[8].
وأما الثاني وهو مباينته تعالى للعرش الذي استوى عليها، فقد قال ابن تيمية: وممن نفى لفظ الحد أيضا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السجزي قال في رسالته المشهورة إلى أهل زبيد: وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش بلا كيف بحيث لا مكان وقال أيضا فاعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضلال وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له[9].
وقال أيضا: وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة[10]. وقال ابن تيمية نقلا عن الأشعري في المقالات: وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وان مكانه هو العرش وانه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده …. وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وانه على العرش كما قال “الرحمن على العرش استوى” ولانقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف[11].اهـ فنقل قول المجسمة بأنه مماس للعرش ثم نقل قول أهل السنة بأنه استوى بلا كيف وهذا فيه نفي للمماسة.
وقال ابن القيم نقلا عن الإمام أحمد: وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة يعلم ما تحت الأرض السفلى وأنه غير مماس لشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه وخلقه بائنون منه[12].اهـ وقال أيضا نقلا عن الإمام أبي القاسم خلف بن عبد الله المقري الأندلسي:أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة ولا تكييف[13].اهـ
ومن جهة أخرى يذكر ابن تيمية أنه لا مانع من مماسة الله للعرش، فهو يقول مثلا: وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك؛ فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بعد هذه الأشياء عنه وكونها ملعونة مطرودة، لم نثبته لاستحالة المماسة عليه، وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه[14].
بل يذكر أن هذا هو الثابت في الكتاب والسنة وعند السلف، وفي ذلك يقول: فلا جرم جاءت الأحاديث بثبوت المماسةكما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف وهو نظير الرؤية وهو متعلق بمسألة العرش وخلق آدم يده وغير ذلك من مسائل الصفات وإن كان قد نفاه طوائف من أهل الكلام والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم[15].اهـ
الفرق الثالث عشر: استواؤنا بجلوس واستقرار، وابن تيمية متردد في ذلك، وأتباعه مختلفون في ذلك أيضا اختلاف شديدا يضلل بعضهم بعضا في ذلك[16]، وهذا سنبسطه في منشور لاحق نبين فيه خوض القوم في تفاصيل كثيرة في كيفية الاستواء واختلافهم فيها وتضليل بعضهم لبعض كما سبق الإشارة إليه. ولكن هنا نتكلم عن تردد ابن تيمية في ذلك:
أولا: تردد ابن تيمية في تفسير الاستواء بالجلوس والقعود
فمن جهة ابن تيمية ينقل نصوصا عن غيره تنفي الجلوس والقعود في استواء الله دون أن يتعقبها، فمن ذلك أن ابن تيمية نقل عن القاضي أبي يعلى قوله: وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة والحلول ولا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم[17].
ومن ذلك أنه نقل عن الأشعري في المقالات قوله: وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وانه على العرش كما قال “الرحمن على العرش استوى” .. بلا كيف… وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن[18].
ومن جهة أخرى نرى ابن تيمية لا يمانع من القول بأن الله يقعد ولكن ليس كقعود البدن كما يقعد الميت!!! وفي ذلك يقول ابن تيمية: وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من لفظ ” القعود والجلوس ” في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد[19]!!!
ثانيا:تردد ابن تيمية في تفسير الاستواء بالاستقرار والتمكن:
فمن جهة ابن تيمية يفسر الاستواء بالعلو والارتفاع على العرش وينقل ذلك عن السلف، ومن ذلك قوله في النص الأول الذي أوردناه حيث قال في آخره: … “استوى على بعيره” وهذا المعنى يتضمن شيئين: علوه على ما استوى عليه، واعتداله أيضا. فلا يسمون المائل على الشيء مستويا علي”[20].
وقال أيضا: ولفظ ” العلو ” يتضمن الاستعلاء وغير ذلك من الأفعال إذا عدي بحرف الاستعلاء دل على العلو كقوله {ثم استوى على العرش} فهو يدل على علوه على العرش. والسلف فسروا ” الاستواء ” بما يتضمن الارتفاع فوق العرش كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية في قوله {ثم استوى} قال: ارتفع…وقال البخاري: وقال مجاهد في قوله {ثم استوى على العرش} علا على العرش[21].اهـ
ومن جهة أخرى نجد ابن تيمية يفسره أيضا في مواضع أخرى بالاستقرار، فمن ذلك قوله: قال ابن تيمية: قال الكلبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. قلت: وقد حكي عنه أنه قال في تفسير قوله {ثم استوى} استقر. ففسر ذاك وجعل هذا من المكتوم الذي لا يفسر[22].اهـ وقال نقلا عن ابن قتيبة: وقال: فكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرحمن على العرش استوى} أي استقر؟ قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} أي استقررت[23]. ومن ذلك قوله نقلا عن الطلمنكي:… وقال عبد الله بن المبارك ومن تابعه من أهل العلم وهم كثير: إن معنى استوى على العرش: استقر وهو قول القتيبي[24].
والحاصل أن ابن تيمية تارة يفسره بالعلو وتارة بالاستقرار، فإذا كان هنا معنويا أي علو الرتبة والمكانة فلا إشكال، وإن كان المراد علوا حسيا واستقرارا حسيا كما هو ظاهر كلامه وكما يصر على ذلك دائما، فهذا غير معقول ما دام أنه هو نفسه ينفي أن يكون استواؤه تعالى استواء أجسام، كما في قوله السابق: بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام علىالأجسام …فقد حنث في ذلك وكذب؛ وما أعلم أحدا يقول ذلك؛ إلا ما يروى عن مثل داود الجواربي البصري..[25].اهـ
فإذا كان ابن تيمية ينفي أن يكون استواءه تعالى من قبيل استواء أجسام على أجسام، فما معنى إذن أن يفسر استواءه بالعلو على العرش علوا حسيا، وبأنه استقر عليه استقرار حسيا؟!! هذا يكون معقولا لو أن ابن تيمية يجزم بأن الله جسم وأن له مكان، ولكنه متردد في ذلك كما سبق بسطه، بل هو يجزم بأن استواءه ليس من قبيل أجسام على أجسام!!! فماذا يقصد إذن بعلو الله واستقراره حسيا على العرش؟!
إن هذا يَؤول لا محالة إلى تفويض معنى الاستواء والعلو معا، وعدم معقوليتهما، وهذا خلاف مذهب ابن تيمية لأنه يرى أن التفويض من شر المذاهب حيث يقول: “فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد”[26]!!
ولأنه يرى أن العلو الحسي صفة كمال يدل عليها العقل فضلا عن النقل. حيث يقول: فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع؛ وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع[27].اهـ ويقول أيضا: ” ولما كان العلو صفة كمال، كان ذلك كم لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قط غير عال عليه”[28].
هذا فضلا عن أنه يرى أن علو الله الحسي هو كونه في جهة عدمية وهي ما فوق العرش، فكيف هي عدمية، وكيف هو علو حسي؟ فهل الحسي عَدَمٌ؟ أم هل العدَم يُحسُّ به؟!! وهذا سبق أن بسطناه[29].
الفرق الرابع عشر: أننا نستوي على الدابة وقتا ما من الزمن لتنقلنا من مكان إلى مكان آخر ثم ننزل منها ونقضي حوائجنا في ذلك المكان، والملك حين يجلس على عرشه يجلس وقت الحكم لكونه يتعب من الوقوف ثم ينزل منه ليضجع أو ليمشي ونحو ذلك، وأما ابن تيمية فجعل الله لا يزال مستويا على عرشه منذ خلقه كما سبق في قوله: فعلم أن الرب سبحانه لم يزل عاليا على عرشه.[30] وقال: وهو ـ سبحانه ـ لم يزل فوق العرش[31].اهـ
الفرق الخامس عشر: أن استواءنا على الدابة ليس فيه صفة مدح لنا ولا علونا على الدابة صفة كمال لمن يعلوها، بل قد تكون الدابة خير ممن يركبها إن كان فاجرا أو كافرا كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وقال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] قال الطبري: هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم، أشد ذهابا عن الحق، وألزم لطريق الباطل من البهائم، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتختار وتميز، وإنما هي مسخرة، ومع ذلك تهرب من المضار، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أعطوا من الأفهام والعقول المميزة بين المصالح والمضار، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارها، فالبهائم منها أسد، وهي منها أضل، كما وصفها به ربنا جل ثناؤه[32].اهـ
وقد يكون من يركب الأنعام خيرا منها ولكن لا لأنه علاها حسيا وإنما لكونه مطيعا لربه، فإذن الركوب على الدواب لا تمنح راكبها ثناء ولا كمالا، وإنما الكمال والنقصان يكون من صفات حميدة معنوية ثابتة فيمن يركبها قبل أن يركبها، وأما ابن تيمية فجعل علو الله واستواءه على عرشه صفة مدح وكمال لله لكونه في مكان عالٍ!!
يعني أن ابن تيمية جعل – دون أن يشعر- المخلوقَ خيرا من الخالق لأن الخالق يعلو قدره عند ابن تيمية بعلو مكانه وينقص قدره إذا كان بمكان سافل، فقال كما سبق: وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذياً له، ولا سافلاً عنه، ولما كان العلو صفة كمال،، كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قط غير عال عليه[33].اهـ
وأما المخلوق فليس كذلك بل علو قدره بصفاته الحميدة فإن وجدت كان شريفا عليَّ القدر ولو كان في مكان سافل، وعلوه المكاني لا يضيف إليه شرفا، وأما إن كان خسيس الصفات فلا يرفع قدره علوه المكاني واستواؤه على الدابة أو على كرسي أو على عرش أو على رأس جبل، فهذا كله لا يُكسبه صفة مدح بل قد تكون الدابة خير منه كما سبق، وكما قال ابن تيمية نفسه: ليس هذا عاما في جميع بني آدم إذ منهم من يصلح للملك ومن لا يصلح أن لا يكون إلا مملوكا بل منهم من هو أضل من البهائم كما قال تعالى..”أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون”.اهـ
وبذلك نقض ابن تيمية أصله وهو “أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى”[34]، إذ العلو المكاني ليس شرفا للمخلوق بل قد يكون المخلوق السافل مكانيا أشرف من العالي عليه كالدابة التي يعلوها كافر أو فاجر كما سبق.
الفرق السادس عشر: أن الدابة التي نستوي عليها إذا سقطت سقطنا معها، وأما استواء الله فليس كذلك. وفي ذلك يقول ابن تيمية: فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش: كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام؛ كقوله: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} {لتستووا على ظهوره} فيتخيل له أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى ثم يريد بزعمه أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار.. بل قد علم أنه الغني عن الخلق وأنه الخالق للعرش ولغيره وأن كل ما سواه مفتقر إليه وخلقه إلا ما يختص به – فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه وأنه لو سقط العرش لخر من عليه؟ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق[35].اهـ
قال وليد: المتأمل في كلام ابن تيمية هذا، يجد أن قوله “فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش: كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعامكقوله: .. {لتستووا على ظهوره}.. ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى… هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك“.
أقول: المتأمل في قوله هذا يتبين له كيف نقض ابنُ تيمية ما كان قاله في أصل المسألة التي خصصنا هذه المنشورات للرد فيها عليها وهو قوله الذي أوردنا في المنشور الأول، وذلك حين قام بتفسير آيات الاستواء بآيات استوائنا على الدواب والفلك، فقال: ((وأما «استوى على كذا» فليس في القرآن ولغة العرب المعروفة إلا بمعنى واحد… وقال: {واستوت على الجودي} وقال: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} … وهذا المعنى يتضمن شيئين: علوه على ما استوى عليه، واعتداله أيضا. فلا يسمون المائل على الشيء مستويا علي”[36]. اهـ
فهذا النص الأخير كان يصر فيه ابن تيمية رحمه الله على تفسير آيات استواء الله باستوائنا على الدواب وعلى الفلك، ولكن يبدو أنه حين تأمل في هذا التفسير ولوازمه الفاسدة الكثيرة، التي أقلها أننا نحتاج إلى الدواب لتحملنا وتريحنا وتحوينا وأننا نسقط بسقوطها: نفى ابن تيمية أن يكون استواؤه كاستوائنا على الدواب وصرح بأن الله بغنى عن العرش وأن الله حامله وأنه تعالى لا يسقط بسقوطه وأن العرش لا يحويه ولا هو محل له وأنه ليس بمماسة ولا بجلوس أو استقرار، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفاها!!!
وبعد… فهذه ستة عشر فرقا بين استوائنا على الدواب واستواء الله على عرشه، وكل هذا أثبتناه من نصوص ابن تيمية نفسه الذي كان قد فسر استواء الله بالمعنى الذي يُفسر ويُفهم به استواؤنا على الدواب وإلا يكون ذلك تجهما وتأويلا وتحريفا بل إنكارا للاستواء!!! ولكن تبين أن ابن تيمية نفسه هو أول من رفض عمليا هذا التفسير وذلك من خلال هذه الفروق الكثيرة التي أبداها بين الاستوائين، بحيث لم يبق بينهما جامع أصلا، وإن كان هو أحيانا يتردد في بعض تلك الفروق كما سبق.
والمقصود هنا أن ابن تيمية هو أول من نسف معنى الاستواء لله نسفا والذي كان قد زعم أنه هو نفس المعنى المفهوم من استوائنا على الدواب، فبدأ أولا بنفي أن يكون استواؤه تعالى من قبيل استواء الأجسام، ونفى أيضا أن يكون العرش محلا له تعالى أو حاملا له أو بحاجة إليه إلى غير ذلك مما سبق، بحيث لم يبق منه إلا العلو الحسي، ولكن هذا ليس هو الاستواء لأن ابن تيمية يثبت العلو الحسي لله حتى قبل استوائه تعالى على العرش لأنه تعالى لم يزل عنده عاليا كما سبق من نصوصه، حتى هذا العلو الحسي جعله عدميا، وقد بينا أن كونها عدميا يتنافى مع كونه حسيا لأن الحسي لا يكون عدما، والعدم لا يُحسُّ.
وهكذا لم يبق أي معنى للاستواء عند ابن تيمية!! وبالتالي أين يذهب ذلك السيل من التضليل والتبديع والتكفير لمن يؤول الاستواء ولا يحقق معناه الحسي والتي امتلأت بها كتب ابن تيمية وكتب أتباعه والتي سبق أن سردنا بعضها، منها قول ابن تيمية نقلا عن ابن خزيمة وقال ابن تيمية في: “من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشهبائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة”[37].اهـ
ومن ذلك قول ابن سحمان في: “فمن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو غير ذلك من تفاسير الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ولا ينفعه الإقرار بلفظ الاستواء على العرش مع جحود معناه وصرفه عن ظاهره …وأنه لا خلاف في تكفيرهم[38].اهـ فها هو ابن تيمية نفسه لم يحقق معنى الاستواء فعلى من رجع إذن ذلك السيل من التبديع والتكفير ونحوهما؟!
على كل أنا قمت بوضع هذه الفروق الستة عشر في جداول وقمت بإجراء بعض المقارنات المهمة بين موقف ابن تيمية وبين موقف الأشاعرة من هذه الفروق وحققت أين محل الخلاف بالضبط .. وهذا سيتضح – ربما لأول مرة في التاريخ – في المنشور اللاحق إن شاء الله فانتظروه.
———————-
[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/…/permalink/3167603210020346/
[2] «مجموع الفتاوى» (١٦/ ١٠٠)
[3] الفتوى الحموية الكبرى (2/ 117)
[4] «مجموع الفتاوى» (١٦/ ٤٣٥)
[5] الفتوى الحموية الكبرى (ص: 526)
[6] انظر:
[7] التدمرية: (ص: 66)
[8] بيان تلبيس الجهمية 5/ 69
[9] «بيان تلبيس الجهمية » (٣/ ٥٠)
[10] «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية» (٤/ ٨٤)
[11] بيان تلبيس الجهمية (2/ 535)
[12] اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 201)
[13] اجتماع الجيوش الإسلامية (٢/ ١٥٧)، وانظر أيضا: «العرش للذهبي» (١/ ٢٦٥)
[14] بيان تلبيس الجهمية 5/ 127
[15] «بيان تلبيس الجهمية» (٤/ ٣٤٣)
[16] انظر المقالات والروابط التالية:
“الاستواء جلوس” انظره على:
https://majles.alukah.net/t150467-2/
“الرد على محمود الرضواني في قوله أن إثبات الجلوس لله تجسيم” على:
https://majles.alukah.net/t170005/
“هل الله يجلس علي العرش” على:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=193464
https://www.facebook.com/…/permalink/408496745931020/
[17] بيان تلبيس الجهمية (3/ 3)
[18] بيان تلبيس الجهمية (2/ 536)
[19] «مجموع الفتاوى» (٥/ ٥٢٧)
[20] مجموع الفتاوى (17/ 374 – 375).
[21] مجموع الفتاوى 16/ 359، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 2/ 20
[22] مجموع الفتاوى (16/ 400، 401)
[23] مجموع الفتاوى (5/ 404)
[24] مجموع الفتاوى (5/ 519)
[25] «مجموع الفتاوى» (٣٣/ ١٦٩)، مقالة التشبيه وموقف أهل السنة منها 2/ 33
[26] درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية – (1/ 205).
[27] «مجموع الفتاوى» (٣/ ٤٩)
[28] «درء تعارض العقل والنقل» (٧/ ٦)
[29] انظر:
https://www.facebook.com/…/permalink/3106298609484140/
[30] مجموع الفتاوى (5/ 581)
[31] شرح حديث النزول (ص: 147)
[32] انظر: «تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث» (١٣/ ٢٨١)
[33] «درء تعارض العقل والنقل» (٧/ 6)
[34] التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص: 85)
[35] مجموع الفتاوى (3/ 49)
[36] مجموع الفتاوى (17/ 374 – 375).
[37] «بيان تلبيس الجهمية» (٣/ ٤٠٩)
[38] «تميز الصدق من المين في محاورة الرجلين» (ص١٣٨)