مقالات في الرد على نظرية تقسيم التوحيد وما بني عليها

[1] دحض شبهات أهل التزييف والتحريف عن حديث زيارة وتبرك بلال بالقبر النبوي الشريف. (مقال قيم للشيخ الجعفري السوسي على موقع روض الرياحين)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان الا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد نبينا الامين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، أما بعد:

فهذا جزء صغير ذكرت فيه تخريج قصة زيارة بلال للقبر النبوي الشريف، وحققت درجته من الصحة والتضعيف، بما يشفي كل ذي لب عفيف، ومريد للحق وكل طريف، ولا أدعي أني من فرسان هذا الشأن، ولا وصلت الى أدنى فارس فضلا عن غيره من الجهابذة الذين هم في هذا العلم من الاركان، ولكن لما رأيت الهمم تقاصرت عن التصدي لشبهات أهل التدليسات، وبدع أعداء السنة الغراء المحاربين لها بما أعطوا من قوة ومساندات، استعنت بالله وتوكلت عليه في تبيين ضلال هؤلاء، وكشف أخطائهم وزلاتهم لذوي الالباب والاذكياء، فبالله التوفيق، وإليه المرجع وبه التصديق.

أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 136) قال:

أنبأنا أبو محمد بن الأكفاني نا عبد العزيز بن أحمد انا تمام بن محمد نا محمد بن سليمان نا محمد بن الفيض نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء حدثني أبي محمد بن سليمان عن أبيه سليمان بن بلال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال(1):

“لما دخل عمر بن الخطاب الجابية سأل بلال أن يقدم (2) الشام ففعل ذلك قال وأخي أبو رويحة الذي أخى بينه وبيني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فنزل (3) داريا (4) في خولان فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم قد جئناكم خاطبين (5) وقد كنا كافرين فهدانا الله ومملوكين فأعتقنا الله وفقيرين فأغنانا الله فأن تزوجونا فالحمد لله وأن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجوهما

ثم إن بلالا رأى في منامه النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول له (ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال) فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا له يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السحر ففعل فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال (الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة فلما أن قال (أشهد أن لا إله إلا الله) زاد تعاجيجها (6) فلما أن قال (أشهد أن محمدا رسول الله) خرج العواتق من خدورهن فقالوا أبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك اليوم .اهـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخبر في أسد الغابة 1 / 244 ترمة بلال بن رباح

(2) كذا بالاصل وم والمعنى مضطرب وعبارة أسد الغابة: ” سأله بلال أن يقره بالشام ” وهي أظهر

(3) في أسد الغابة: فنزلا

(4) بالاصل ” دارنا ” والصواب ما أثبت عن أسد الغابة

وداريا: قرية كبيرة من قريب غوطة دمشق

(معجم البلدان)

وفي م: داريا

وخولان: قبيلة عربية نزلت بمصر والشام فحملت أنسابهم (الجمهرة: 393)

(5) الزيادة هنا والتي قبلها عن أسد الغابة

(6) في أسد الغابة: زادت رجتها.اهـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأخرجه أيضا ابن الاثير في أسد الغابة ط الفكر (1/ 244) قال:

“روى أَبُو الدرداء أن عمر بْن الخطاب لما دخل من فتح بيت المقدس إِلَى الجابية [1] سأله بلال أن يقره بالشام، ففعل ذلك، قَالَ: وأخي أَبُو رويحة الَّذِي آخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيني وبينه؟ قال: وأخوك، فنزلا داريًا [2] في خولان، فقال لهم: قد أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين، فهدانا اللَّه، وكنا مملوكين فأعتقنا اللَّه، وكنا فقيرين فأغنانا اللَّه، فإن تزوجونا فالحمد للَّه، وَإِن تردونا فلا حول ولا قوة إلا باللَّه، فزوجوهما.

ثم إن بلالا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه وهو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا» ؟

فانتبه حزينًا، فركب إِلَى المدينة فأتى قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعل يبكي عنده ويتمرع عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلما قال: «اللَّه أكبر، اللَّه أكبر» ارتجت المدينة، فلما قال: «أشهد أن لا إله إلا اللَّه» زادت رجتها، فلما قال: «أشهد أن محمدًا رَسُول اللَّهِ» خرج النساء من خدورهن، فما رئي يَوْم أكثر باكيًا وباكية من ذلك اليوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الجابية: قرية من أعمال دمشق.

[2] داريا: قرية كبيرة من قرى دمشق بالغوطة، وخولان: قبيلة عربية نزلت بمصر والشام فخملت أنسابهم

تخريج هذه الرواية :

ــــــــــــــــــــــــــــــ

أخرجها محمد بن الفيض الغساني في أخباره وحكاياته (1/45/75) والحافظ ابن الأثير في ترجمة بلال بن رباح (1/415/493) وفي ترجمة أبو رويحة الخثعمي (6/110/5894) والحافظ ابن عساكر في ترجمة إبرهيم بن محمد بن سليمان (7/136/493) وفي ترجمة خالد بن رباح (16/21/1870) والحافظ أبو أحمد الحاكم في الجزء الخامس من فوائده، والامام الذهبي في السير من طريق أبي احمد الحاكم في ترجمة بلال بن رباح (1/358/76) وقال: “إسناده لين، وهو منكر”، وفي تاريخ الاسلام (17/67/37) في ترجمة إبراهيم بْن محمد بْن سليمان الشّاميّ، وقال: “إسناده جيّد ما فيه ضعيف، لكنّ إبراهيم مجهول”، وفي ترجمة بلال (3/205) والحافظ ابن حجر في الاصابة من طريق ابي احمد (7/122) والحافظ المزي في تهذيب الكمال (4/289) وقال: “لم يؤذن لأحد بعد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إلا مرة واحدة، في قدمة قدمها المدينة لزيارة قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وطلب إليه الصحابة ذلك فأذن، ولم يتم الأذان”.اهـ

وأخرجها الحافظ أبو نعيم في معرفة الصحابة في ترجمة خالد بن رباح (2/943/2436) والحافظ ابن مندة في ترجمة خالد بن رباح (1/466) وذكرها الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي في الكمال في ترجمة بلال، وغير هؤلاء.اهـ

الكلام على إسنادها:

ــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – أبو الدرداء

هو: صاحب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسمه: عويمر الانصاري.

2 – أم الدرداء.

هي: الصغرى زوجة أبي الدرداء، اسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الحميرية، من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، توفيت: عام (81 هـ) روت عن زوجها أبي الدرداء، وروى عنها خلق كثير منهم سليمان بن بلال بن ابي الدرداء، ذكر ذلك ابن عساكر كما سيأتي، وهي ثقة فقيهة جليلة.

3 – سليمان بن بلال بن أبي الدرداء.

قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه (22/204) في ترجمته (2654):” روى عن جدته أم الدرداء وأبيه بلال روى عنه ابنه محمد بن سليمان وأيوب بن مدرك الحنفي” وذكر له حديثاً، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.

قلت: وثقه الذهبي عندما ذكر الرواية المتقدمة في تاريخه (17/67/37) في ترجمة إبراهيم بْن محمد بْن سليمان الشّاميّ، وقال: “إسناده جيّد ما فيه ضعيف، لكنّ إبراهيم مجهول”.اهـ

وهو توثيق لجميع رواة السند أيضا.

وقد أخطأ ابن عبد الهادي خطأ فاحشا في كتابه الصارم المنكي (ص:32) حيث قال:” سليمان بن بلال فإنه رجل غير معروف، بل هو مجهول الحال قليل الرواية، لم يشتهر بحمل العلم ونقله، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه ولم يذكر له البخاري ترجمة في كتابه، وكذلك ابن أبي حاتم، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء”.اهـ

فالجواب عليه من وجوه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولا – قوله:” غير معروف …إلخ” بل هو معروف عندنا وليس بمجهول، فقد روى عنه اثنان ووثقه الذهبي، فزالت عنه بذلك الجهالة، قال ابن جماعة:” الثاني مجهول العدالة باطنا لا ظاهرا، وهو المستور والمختار قبوله وقطع به سليم الرازي وعليه العمل في أكثر كتب الحديث المشهورة في من تقادم عهدهم وتعذرت معرفتهم.اهـ

ثانيا – قوله: ” ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه” بل وثقه الذهبي كما سبق.

ثالثا – قوله: ” ولا يعرف له سماع من أم الدرداء” تقدم أن ابن عساكر ذكر في تاريخه (22/204) في ترجمته (2654):” أنه يروي عن جدته أم الدرداء، وزيادة على هذا، تكفي المعاصرة كما هو مذهب مسلم.

فإذا علمت هذا فقول الالباني في الدفاع عن الحديث (ص:98):” هو مجهول العين وما في الأصل (مجهول الحال) [أي: عند ابن عبد الهادي] لعله خطأ مطبعي أو سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى”.اهـ

أشنع وأفظع من خطأ ابن عبد الهادي.

وقال أيضا أي: ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص:32):

“ونحن نطالب المستدل برواية والمحتج بخبره فنقول له: من وثقه من الأئمة واحتج بحديثه من الحفاظ،أو أثنى عليه من العلماء حتى يصار إلى روايته ويحتج بخبره ويعتمد على نقله؟”.اهـ

الجواب:

ــــــــــــــــ

قد تقدم أن الذهبي وثقه، وأما من احتج به فكثيرون، منهم: ابو أحمد الحاكم ، وابن الاثير ، والامام النووي ، وعبد الغني المقدسي ، وابو بكر الحصني ، وابن الضياء وغيرهم كما سيأتي .

4 – محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، أبو سليمان، الأنصاري

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 7 / 267 برقم 1460 طبعة دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعة الأولى ، 1271 – 1952 ) :

“( محمد بن سليمان بن بلال بن ابى الدرداء أبو سليمان . روى عن امه عن جدتها عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه سليمان بن شرحبيل وهشام ابن عمار سمعت ابى يقول ذلك ، حدثنا عبد الرحمن قال وسألت ابى عنه فقال : ” ما بحديثه بأس” ) اهـ

وذكره مسلم في الكنى ( 1/371 ) ، وأبو بشر الدولابي (2/598)، والحاكم أبو أحمد ، وابن عساكر ( 53/115 )، وابن مندة في الكنى (1/388) والذهبي في الكنى له ، برقم ( 284)، وذكره البخاري في التاريخ الكبير ( 1 / 98 برقم 274 طبعة دار الفكر ، بتحقيق السيد هاشم الندوي ) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وهذا يعني انه محتمل الحديث كما نص على ذلك البخاري نفسه، وذكره ابن حبان في الثقات ( 9 / 43 برقم 15085 طبعة دار الفكر الطبعة الأولى ، 1395 – 1975 ، بتحقيق السيد شرف الدين أحمد ( . وذكره ابن قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي في كتابه:”الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة” (8/318) وذكره غير هؤلاء، ولم يجرحه أحد من أهل العلم المعتمدين في هذا الشأن.

وقد أنصف الالباني في هذه المرة حيث رد خطأ ابن عبد الهادي الذي سلك مسلك أهل التدليس والتضليل فقال:” وأما محمد بن سليمان بن بلال والد إبراهيم، فإنه شيخ قليل الحديث لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول أخباره، وقد ذكره البخاري في تاريخه، وذكر له حديثاً يرويه عن أمه، عن جدتها، رواه عن هشام بن عمار، وهو الذي أشار إليه أبو حاتم”.اهـ

قلت: لا أظن أن كل هذه التوثيقات خفيت عليه حتى قال ما قال! وإنما أراد بذلك التدليس والتضليل، وحب الشيء يعمي ويصم، وهذا ليس بغريب ممن يحكم الهوى على الهدى، فإن من تتبع كتبه وجد فيها من المغالطات والخروقات الكثيرة ما لا حصر له، وذلك كله لأغراض مذهبية مقيتة.

5 – إبرهيم بن محمد بن سليمان بن بلال ابن أبي الدرداء أبو اسحاق.

قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه (7/136) في ترجمته : ” روى عن أبيه روى عنه محمد بن الفيض … ثم قال بعد أن ساق هذه الرواية:” قال أبو الحسن محمد بن الفيض توفي إبراهيم بن محمد بن سليمان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين”.اهـ

قال الامام الذهبي في الميزان (1/64) في ترجمته:” فيه جهالة،حدث عنه محمد بن الفيض الغساني”.اهـ

وتبعه ابن حجر في اللسان (1/359) إلا أنه زاد:” ترجم له ابن عساكر ثم ساق من روايته، عَن أبيه، عَن جَدِّه، عن أم الدرداء، عَن أبي الدرداء في قصة رحيل بلال إلى الشام وفي قصة مجيئه إلى المدينة وأذانه بها وارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك [وهي قصة بينة الوضع] !!!.

وقد ذكره الحاكم أبو أحمد في “الكنى” وقال: كناه لنا محمد بن الفيض وأرخ محمد بن الفيض وفاته سنة اثنتين وثلاثين ومئتين.اهـ

6 – محمد بن الفيض بن محمد بن الفيض أبو الحسن الغساني الدمشقي.

ثقة، وثقه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 14 / 427 ) ، فقال :

“( محمد بن الفيض ابن محمد بن الفياض المحدث المعمر المسند أبو الحسن الغساني الدمشقي ولد سنة تسع عشرة ومئتين وحدث عن صفوان بن صالح المؤذن وهشام بن عمار وإبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني ودحيم ومحمد بن يحيى بن حمزة والوليد بن عتبة وأحمد بن أبي الحواري وجده محمد بن فياض وأحمد بن عاصم الأنطاكي وعدة .

حدث عنه موسى بن سهل الرملي مع تقدمه وأبو عمر بن فضالة وجمح بن القاسم وأبو سليمان بن زبر ومحمد بن سليمان الربعي وأبو بكر بن المقرئ وأبو أحمد الحاكم وآخرون .

وهو صدوق إن شاء الله ما علمت فيه جرحا مات في شهر رمضان سنة خمس عشرة وثلاث مئة وكان صاحب حديث ومعرفة (..”.اهـ

قال ابن السبكي: مدار هذا الإسناد عليه ،فلا حاجة إلى النظر في الإسنادين اللذين رواه ابن عساكر بهما وإن كان رجالهما معروفين مشهورين.اهـ

قلت: ولا حاجة لنا إلى النظر في جميع رواة السند فقد وثقهم الامام الحافظ الذهبي جميعا إلا ” إبرهيم بن محمد بن سليمان بن بلال ابن أبي الدرداء أبو اسحاق” قال: أنه مجهول، وذلك عندما ذكر هذه الرواية في تاريخه (17/67/37) في ترجمة إبراهيم بْن محمد بْن سليمان الشّاميّ، وقال: “إسناده جيّد ما فيه ضعيف، لكنّ إبراهيم مجهول”.اهـ

والجواب على هذا من وجوه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولا – اعلم أن العلماء اختلفوا في قبول رواية المجهول، وهو على ثلاثة أقسام :

مجهول العين، ومجهول الحال ظاهرا وباطنا ، ومجهول الحال باطنا .

القسم الأول : مجهول العين ، وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد كما هنا . وفيه أقوال :

الاول: وهو قول الجمهور أنه لا يقبل .

والثاني: إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل ، وإلا فلا . وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في كتاب ” بيان الوهم والإيهام ” …

والثالث : إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل ، كابن مهدي ، ويحيى بن سعيد ، ومن ذكر معهما ، واكتفينا في التعديل بواحد قبل ، وإلا فلا .

والرابع : إن كان مشهورا في غير العلم بالزهد ، أو النجدة قبل ، وإلا فلا . وهو قول ابن عبد البر.

والخامس : يقبل مطلقا، وبه قال أبو حنيفة، وابن حبان .

فذهب ابن حبان إلى أن كل من روى عنه راو مشهور قد ارتفعت جهالة عينه وكل من ارتفعت جهالة عينه ولم يعرف فيه جرح فهو عدل ، أي أن جهالة الحال ترتفع مع جهالة العين إذا لم يعرف فيه جرح للعلماء.

وذهب الحنيفة ومن معهم إلى قبول روايته مطلقا لأنهم لم يشترطوا في الرواة مزيدا على الإسلام .

قال الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في تعليقه على كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي رحمه الله :

“وعلى هذا، فيكون اعتبار السكوت من باب التعديل أولى من اعتباره من باب التجهيل،وهو الذي مشى عليه جمهور كبار الجهابذة المتأخرين .

وفي كتاب الجرح والتعديل “:باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تقويه،وعن المطعون عليه أنها لا تقويه حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه ؟ قال إذا كان معروفا بالضعف لم تقوه روايته عنه وإذا كان مجهولا نفعه رواية الثقة عنه.

حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه ؟ قال أي لعمري،قلت: الكلبي روى عنه الثوري،قال إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء،وكان الكلبي يتكلم فيه،والتعجب فتعلقوا عنه روايته. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ج 2 / ص 36).

فثبت بهذا أن “ابراهيم” هذا عدل عند ابن حبان والحنفية وطائفة من أهل العلم.

ثانيا – ومع أن الجمهور خالفوا هذا المذهب، وقالوا: لا نقبل رواية المجهول حتى يوثق، فقد قبل الحفاظ رواية ابراهيم هذا واستشهدوا بها وجودوا إسنادها، ونذكر منهم:

1 – الحافظ ابن الاثير في اسد الغابة (6/110/5894) حيث أخرجها بإسناده مستشهداً بها على صحبة أبو رويحة الخثعمي ، فقال :

“أَبو رويحَة ، عَبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي، أَخو بلال بَن رباح، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.

له صحبة، نزل الشام ، ولست أَقف على اسمه ونسبه ، قاله أَبو موسى عن الحاكم أَبي أَحمد. قال أَبو موسى: وقد ذكره أَبو عبد الله – يعني ابن منده – وقال: هو أَخو بلال، له صحبة.

أَخبرنا محمد بن أَبي الفتح بن الحسن الواسطي النقاش، أَخبرتنا زينب بنت عبد الرحمن الشعري، أَخبرنا زاهر الشحامي، أَخبرنا أَبو سعد، أَخبرنا الحاكم أَبو أَحمد، أَخبرنا أَبو الحسن محمد بن الفيض الغساني، أَنبأنا أَبو إِسحاق إِبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، عن أُم الدرداءِ عن أَبي الدرداءِ قال : لما رحل عمر بن الخطاب من فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية ، سأله بلال أن يقِره بالشام ، ففعل ذلك .

قال: وأَخي أَبو روَيحة ، آخى بيني وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فنزل دَاريا في خولان ، فأقبل هو وأَخوه إِلى حي من خولان فقالا لهم : أَتيناكم خاطبين ، قد كنا كافرين فهدانا الله عز وجل ، ومملوكين فأعتقنا عز وجل ، وفقيرين فأغنانا الله عز وجل ، فإِن تزوجونا فالحمد لله ، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إِلابالله ،فزوجوهما.

أَخرجه أَبو موسى ، وقال: ” أورده أَبو عبد الله في كتاب الكنى ” ، وليس فيما عندنا من نسخ كتاب أَبي عبد الله في الصحابة في الكنى ترجمة لأَبي روَيحة، فإن كان أبو عبد الله صنف كتاباً في الكنى ولم نره فيمكن “.اهـ

فاستشهاد ابن الاثير واستدلاله بهذه القصة على صحبة ” أَبو رويحَة ” ..دليل واضح على قبولها وصحتها عنده.

ويفهم من كلامه أيضا أن أبا أحمد الحاكم شيخ الإمام أبي عبد الله الحاكم قد اثبت صحبة ” أبا رويحة الخثعمي ” من هذه الطريق ! ، أي: طريق ” إبراهيم بن محمد بن سليمان ” ! ، وهذا دليل منه على قبول روايته هذه التي ينكرها بعض المعاصرين تبعا لأخطاء بعض العلماء المتقدمين.

2 – الحافظ عبد الغني في كتابه ” الكمال ” في ترجمة سيدنا بلال ، حيث قال : ( لم يؤذن لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي الا مرة واحدة في قدمة قدمها المدينة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم طلب اليه الصحابة ذلك فأذن ولم يتم الاذان.اهـ

3 – الحافظ السبكي في شفاء السقام (ص39)، حيث قال : روينا ذلك بإسناد جيد وهو نص في الباب، … ثم ذكر الاثر، وتكلم على رواته، ثم قال:” وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط ، بل على فعل بلال ، وهو صحابي ، لا سيما في خلافة عمر رضي الله عنه ، والصحابة متوافرون ، ولا يخفى عنهم هذه القصة.

ومنام بلال ورؤياه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يتمثل به الشيطان، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة ، فيتأكد به فعل الصحابي ) انتهى

4 – الشوكاني في نيل الأوطار ( 5 / 156 طبعة إدارة الطباعةالمنيرية ( ، حيث قال :

( وقد رويت زيارته صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة من الصحابة منهم بلال عن ابن عساكر بسند جيد ، وابن عمر عند مالك في الموطأ وأبو أيوب عند أحمد وأنس ذكره عياض في الشفاء وعمر عند البزار وعلي عليه السلام عند الدارقطني وغير هؤلاء ولكنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لذلك إلا عن بلال لأنه روى أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بداريا يقول له : ” ما هذه الفجوة يا بلال أما آن لك أن تزورني ؟ ” .

روى ذلك ابن عساكر ) اهـ

وقوله في (الفوائد المجموعة ص:40) “لا أصل له” مع ما هنا بين التناقض، وغالب الظن أنه من زيادات النسخ وأصحاب التحريف.

5 – الامام النووي في تهذيب الاسماء ( 1 / 144 ) حيث قال :

( وكان بلال يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حياته سفرا وحضرا، وهو أول من أذن فى الإسلام.

ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الشام للجهاد، فأقام بها إلى أن توفى، وقيل: إنه أذن لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، مدته، وأذن لعمر، رضى الله عنه، مرة حين قدم عمر الشام، فلم ير باك أكثر من ذلك اليوم ، وأذن فى قدمة قدمها إلى المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب ذلك منه الصحابة، فأذن ولم يتم الأذان ) انتهى

6 – ابو بكر الحصني في رده على ابن تيميه في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد ( ص 103 – 104) طبعة المكتبة الأزهرية للتراث – القاهرة ، بتحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري (.

7 – ابن الضياء في تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام (1/380)، فقال بعد ان ذكر القصة :

ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال .

وليس الاعتماد في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط ، بل على فعل بلال وهو صحابي لا سيما في خلافة عمر رضي الله عنه ، والصحابة متوافرون ولا تخفى عنهم هذه القصة ، فسفر بلال في زمن صدر الصحابة لم يكن إلا للزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ

8 – السمهودي في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى(1/355) في الباب الثاني في فضل الزيارة والمسجد النبوي ومتعلقاتهما – الفصل الاول ، حيث قال :

( … وروى ابن عسكر بسند جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قصة نزول بلال بن رباح بداريا(….

9 – محمد يوسف الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد ، في سيرةخير العباد ( 12 / 359 ) ، حيث قال :

(وروى ابن عساكر بسند جيد عن بلال أنه … (الاثر.

10 – أبو أحمد الحاكم ، حيث اثبت صحبته، كما سبق عند ابن الاثير، وأبو نعيم الاصبهاني وغيرهم، ونكتفي بهؤلاء الحفاظ، رحمهم الله جميعا ورضي عنهم، فهم الحجة على غيرهم من المتأخرين وأعلم منهم في هذا المجال قطعا.

ثالثا – قول الحافظ ابن حجر العسقلاني:” أنها قصة بينة الوضع ” قول غريب وعجيب، ولو انه انكر متنها فقط لكان أخف، وأما الحكم عليها بالوضع فهو مخالف لقواعد الاصطلاح، ويجاب عنه: بأنه سبق قلم من الحافظ – رحمه الله – لا يتابع عليه، لأنه مناقض لكلام الحافظ ابن حجر نفسه في “اللسان”، لان القصة ليس في إسنادها وضاع، حتى يحكم عليها بالوضع.

رابعا – قد اغتر كثير من الطلبة بقول الحافظ هذا، وكذا قول الذهبي ” إسناده لين وهو منكر” مع أنه قال أيضا: ( إسناده جيد ما فيه ضعيف ، لكن إبراهيم مجهول (

فيجاب بأن قوله:”اسناده لين” راجع الى “ابراهيم أبو اسحاق” الذي قال فيه: بأنه مجهول، جمعا بين قوليه، فتجويده الاسناد مع قوله:”(ما فيه ضعيف (واضح جدا، وقوله:”لكن إبراهيم مجهول” هو المقصود بالتليين، وقد تقدم أنه مقبول عند الحفاظ الذين هم حجة على الذهبي وغيره.

فثبت ولله الحمد أن ” إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ” قد قبل الحفاظ روايته هذه في كتبهم ، لانها مرتبطه بإثبات صحبة ” أبو رويحة الخثعمي ” ، ونفيها يوقعهم في حرج شديد كما حدث للحافظ في الاصابة حيث لم يتكلم عن هذا الاسناد كما فعل في اللسان، بل حاول اثبات صحبته من طريق آخر فلم يجد ، فقال :

“أبو رويحة الخثعمي: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين بلال المؤذن ويقال اسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي.

وأبو رويحة لم يسند عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ثم ساق من طريق محمد بن إسحاق قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فكان بلال مولى أبي بكر مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي أخوين فلما دون عمر الديوان بالشام قال لبلال: إلى من تجعل ديوانك؟ قال مع أبيرويحة لا أفارقه أبداً للأخوة المذكورة فضمه إليه وضم ديوان الحبشة إلى خثعم لمكان بلال فهم مع خثعم بالشام إلى اليوم.

وقال أبو أحمد الحاكم : له صحبة ولست أقف على اسمه.

قال أبو موسى: وقد ذكره أبو عبد الله بن منده في ” الكنى ” وليس فيما عندنا من كتابه في الصحابة ثم ساق من طريق أبي أحمد الحاكم قال حدثنا أبو الحسن محمد بن الفييص الغساني حدثنا إبراهيم بن محمد بن سليمان عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: لما رجع عمر من فتح بيت المقدس وسار إلى الجابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل فقال وأخي أبو رويحة آخى بيننا النبي صلى الله عليه وسلم فنزل داريا في بني خولان فأقبل هو وأخوه إلى حي من خولان فقال: أتيناكم خاطبين قد كنا كافرين فهدانا الله عز وجل ومملوكين فأعتقنا الله عز وجل وفقيرين فأغنانا الله عز وجل فإن تزوجونا فالحمد لله وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجوهما وقال أبو عمر: روى عن أبي رويحة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فعقد لي لواء وقال ” اخرج فناد: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن

” .

قلت ( الحافظ ) : وهذا تقدم في ترجمة ربيعة بن السكن وفرق أبو موسى بين الفزعي والخثعمي وتعقبه ابن الأثير بأن الفزع بطن من خثعم وهو الفزع بن شهران بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم وفاته أن الأول اسمه ربيعة بن السكن وأخو بلال اسمه عبد الله بن عبد الرحمن وقد ذكرت في ترجمته ما يدل على أنه غير من آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين بلال. وقد أورد ابن عساكر حديث الفزعي في ترجمة الخثعمي فكأنهما عنده واحد. والله أعلم ) انتهى .

وممن استشهد بها أيضا على صحبة أبي رويحة الامام الحافظ أبو نعيم الاصبهاني في معرفة الصحابة (2/943) في ترجمة خالد بن رباح.

فرواها من طريق محمد بن سليمان، ومن طريقين آخرين يقوي بعضها بعضا مختصرة.اهـ

ومثله الحافظ أبو عبد الله بن مندة في معرفة الصحابة أيضا (1/465) في ترجمة خالد بن رباح، رواها من عدة طرق مختصرة أيضا.

وبهذا نعلم أن الذين جودوا إسنادها، قد وقفوا على هذه الحقائق الخفية التي يفهم منها أن ابراهيم أبو اسحاق مقبول عند الحفاظ المتقدمين، وهم أعلم بحاله من الذهبي وابن حجر المتأخرين الذين لم يعرفوه، ومن علم حجة على من لم يعلم، ولا يسعنا في هذا إلا أن نتبع السلف ونترك الخلف، فقولهم مقدم على قول الحافظين، والله يهدي من يشاء إلى سبيل الحق والهدى.

السابق
فتوى العلامة الهيتمي في شخص يقرأ ويطالع الكتب الفقهية دون شيخ ومع ذلك يفتي .. فأجاب بأنه لا يجوز له الإفتاء مطلقا لأنه عامي جاهل لا يدري ما يقول!
التالي
هل العقيدة النسفية للإمام النجم النسفي أم البرهان النسفي؟ (منقول)