هل حقًّا عاقت نظريةُ (السَّبَبيَّة) عند الغزالي تَقَدُّمَ العلوم عند المسلمين؟!
05 May, 2017

هل حقًّا عاقت نظريةُ (السَّبَبيَّة) عند الغزالي تَقَدُّمَ العلوم عند المسلمين؟!
محمد جمال عبد النور[1]
الحديث في نظرية (السببية) في الفكر الكلامي الإسلامي حديث ذو شجون؛ ذلك أنه نقاش قديمٌ حديثٌ؛ يأخذنا إلى عصور النور الإسلامي الذي أخرج للعلم نتاجًا فكريًّا لا يزال القاصي يُفيد منه قبل الداني. ثم إن الحديث في نظرية (السببية) يستتبع استحضار شخصيتين عظيمتين لم يعرف التاريخ الإسلامي، بل الإنساني، مثلهما؛ أعني حجة الإسلام الغزالي (ت. 505ه)، وفيلسوف الفقهاء أبو الوليد ابن رشد (ت. 595ه).
والحق أن المُتَعَرِّضَ لتراث هذين الرجلين يدرك أنه مُتَعَرِّضٌ لحَلْقة فاصلة في التراث الإسلامي؛ فالتراث الإسلامي قبل الغزالي شيءٌ؛ وبعد الغزالي شيءٌ آخر، ومثله يقال في حق أبي الوليد. وإذا كان المُسْلِمُ في الشأن العقدي في الغالب إما غزاليَّ النزعة وإما تيميَّها، فإنه في الشأن الفلسفي إما غزاليُّ النزعة وإما رُشديُّها، ومن هنا ارتبطت نظرية (السببية)بهذين الاسمين الكبيرين؛ الغزالي وابن رشد. في ضوء هذه المقدمة، يناقش هذا المقال مفكرًا غزاليًّا حديثًا في مقابلة مفكرٍرُشديٍّ حديثٍ؛ أعني بالأول العلامة محمد عبد الله دراز (ت. 1377ه)، وبالثانيالأستاذ المفكر محمد عابد الجابري (ت. 1431ه)، وموقفهما من نظرية السببية في ضوء نَزْعتهما الغزالية والرشدية.
أعودُ على بَدئي لأقولإن نظرية (السببية) نظرية ذات بالعظيم؛ ذلك أن أثرها يتعدى مجال العقيدة ومجال الفلسفة ليتصل بالحياة الفكرية والاجتماعية والعلمية في كل مجتمع. وهي في أبسط صورها تُقَرِّرُ أنه “لا شيء يحدث بدون سبب، وأن العلاقة بين السبب والمُسَبَّب ثابتة لا تتخلف، بحيث كلما وُجد السبب وُجد المسبَّب، كلما وُجدت النار احترق القطن مثلًا”([2]). هذه النظرية بهذا المعنى هي محل رفض جمهور متكلمي أهل السنة، بل إن المعتزلة يشاركونهم في ذلك الرفض على السواء، فكلاهما يرى أن العلاقة بين السبب والمسبب ليست علاقة (ضرورية لا تتخلف)، وإنما يَروْنها علاقة (اقترانية عادية)، فحدوث الاحتراق على إثرِ مَسِّ النار للحطب ليس ضروريًّا، بل تلك هي عادتنا نحن البشر في رؤية العلاقة بين الأشياء، ولكن هذا لا يعني أن النار هي التي تتسبَّب بذاتها في الاحتراق، إذ لو كان الأمر كذلك لاحترق إبراهيم -عليه السلام- حين أُلقي في النار، ولكنه لم يحترق، وهذا يرشح أن النار لا تفعل بذاتها، وإنما الفاعل هو الله، ولو شاء لما جعل الاحتراق قرين مَسِّ النار للحطب.
والمتتبع لتاريخ تطور نظرية (العادة) في مقابلة نظرية (السَّبَبية) يجد أنها قد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحجة الإسلام الغزالي، ولكنه وإن كان أول مَن أوضح مسائلهاوأبان عن دلائلها، إلا أنه لم يكن أول مَن تحدث فيها أصالة، فقد سبقه إليها القاضي عبد الجبار المعتزلي عند شرحه لأصول المعتزلة الخمسة، والإمام الباقلاني الأشعري في كتابه (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)، بل وأكثر من ذلك نجد صدى قويًّا لها عند الإمام أبي بكر بن العربي في كتابه (العواصم من القواصم)([3]) ولكن لندع المقال لصاحب الصوت الأعلى في هذه النظرية؛ يقول حجة الإسلام الغزالي في تقريرها:
«الاقتران بين ما يُعتَقد في العادة سببًا وبين ما يُعتقد مُسَبَّبًا ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر، فليس مِن ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا مِن ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الرِّي والشرب، والشِّبَع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجَزِّ الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المُسهل، وهلم جرًّا، إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحِرَف، فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشِّبع دون الأكل، وخلق الموت دون جَزِّ الرقبة، وإدامة الحياة مع جَزِّ الرقبة، وهلم جرًّا إلى جميع المقترنات»([4]).
في ضوء هذا النص الغزالي يمكننا أن نفهم المنطلق الفكري الذي يتحرك منه حجة الإسلام، وهو تسليمه بقصور العقل البشري عن درك طبيعة الأشياء التي تحدث في الكون في ذات الأمر، وعليه فالتتابع الحاصل بين ما (يبدو) سببًا وما (يبدو) مُسَبَّبًا لا يقتضي بالضرورة أن أحدهما علة في حدوث الآخر، ولهذا يستخدم الغزالي لفظة (السببية) ولا يستخدم لفظة (العلية)؛ ذلك أن العلية تقتضي التأثير، أعني تأثير العلة في معلولها، بينما السبب لا يقتضي ذلك، ومن هنا أيضًا يستخدم الأصوليون لفظة (العلة) دون لفظة (السبب) لمثل هذا المعنى في القياس. ومن هنا ينسب الغزالي كل فعل في هذا الكون إلى إرادة الذات الإلهية، سواء أكانت بواسطة أم بغير واسطة، ويرى الغزالي أن السبب في ذلك هو تعدد الأسباب واختلاطها وتداخلها، وأنه ليس في مقدورنا أن نجزم ونقطع بأن شيئًا ما بعينه هو علة حدوث الآخر، بل ربما كانت هناك أسبابٌ خفية وراء الأسباب التي تبدو لنا، ومن هنا يفتح الغزالي بابًا لنظرية علمية دقيقة، أعني (نظرية الاحتمالية)، والتي هي -في أوضح صورها-: عبارة عن النسبة العقلية بين عدد الحالات (الملائمة واقعيا) لحادثة معينة، والحالات (الممكنة عقلا) لحدوثها، فهي نسبةٌ تفترض ابتداءًا وجود احتمالات مسبقة يُعبَّر عنها بالحالات الممكنة أو المحتملة، ومن هنا سُميت بـ (بالاحتمالية).تلك النظرية كان لها بالغ الأثر في تقدم العلوم، ولكن قَلَّ من يربط بينها وبين نفي الغزالي لنظرية (السببية الضرورية)، وذاك في الحقيقة سبق علمي معرفي يُحسَب للغزالي لا عليه.
تلك كانت ساحة الغزالي، فماذا عن ساحة فيلسوف الفقهاء ابن رشد؟! تَلَقَّفُ ابن رشد هذه النصوص الغزالية في نقض نظرية (السببية)، ورأى أن نفي نظرية السببية فيه نفي للعقل، وإبطال لعمله الذي جعله الله مناط التكليف، يقول ابن رشد:
«ما أدري ما يريدون باسم “العادة”! هل يريدون أنها عادة الفاعل؟! أو عادة الموجودات؟! أو عادتنا عند الحكم على الموجودات؟! ومحال أن يكون لله -تعالى- عادة، فإن العادة ملكة يكتسبها الفاعل توجب تكرار الفعل منه على الأكثر، والله -تعالى- يقول: (ولن تجد لسنة الله تبديلا)، وإن أرادوا أنها عادة الموجودات، فالعادة لا تكون إلا لذي نَفْسٍ، وإن كانت في غير ذي نَفْسٍ فهي في الحقيقة طبيعية … وإما أن يكون عادة لنا في الحكم على الموجودات، فإن العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا … أما إنكار الأسباب الفاعلة في المحسوسات فقول سفسطائي»([5]).
في ضوء هذا النص يقرأ ابن رشد كتاب الكون، ويتخذ من القول بهذه النظرية دليلًا له على إثبات وجود الله يسميه (دليل العناية والإبداع). ذلك أنه يرى أن تتبع الحكمة في مخلوقات الله يجعلنا نسلم بأن الله هو مبدأ هذه الأفعال، وأنه هو الذي أقام هذه العلاقة بين العلة والمعلول، فكل فعل في هذا الكون مرده إلى الله حتى ولو قلنا بنظرية السببية، ثم يجيب ابن رشد على سؤال المعجزة قائلًا بأن حدوثها يقع في نطاق ظروف طبيعية أو اجتماعية معينة يريدها الله، وأن تخلُّف المعلول عن علته وقت حدوث المعجزة ينبغي أن يُقرأ في سياق هذه الظروف، ومن هنا تكون المعجزة معجزة، من جهة أنها تُعجِزُ الناس عن فهمها([6]).
ليس الكلام في إثبات السببية من عدمه غرض هذا البحث، وإنما الغرض كما أسلفتُ هو مناقشة الادعاء القائل بأن تحيز جماهير علماء الإسلام ومفكريه للنظرة الغزالية الأشعرية، كان سببًا في تخلف إنتاج العلوم وتوليد النظريات والقوانين، ذاك هو الشق الأول من الادعاء، وأما الشق الثاني من الادعاء فهو أن الغرب لما تَبَنَّى فكر ابن رشد، وفي جوهرة نظرية السببية، تقدمت العلوم عند أهله وازدهرت، فخرج به الغرب من عصور الظلام إلى عصور التنوير، ودخلنا نحن بنفي (السببية) في عصور الظلام من بعد التنوير. ذلك في الحقيقة هو جوهر قراءة الأستاذ الجابري لهذه النظرية في ضوء رشديته. لا ينفك الجابري يضيق الخناق على الفكر الفلسفي الإسلامي بوضعه إياه بين كفي الرَّحي؛ إما بيان وإما عرفان، يريد بذلك أن يقول إن العقل العربي ليس بعقل برهاني، وإنما هو عقل محكوم بالبيان الذي اقتضته طبيعة نشأة العربي وتعلقه بلغته، وارتباطه بالتجارب الروحية العرفانية التي منعته من الوصول للأدلة البرهانية كما فعلت اليونان، وكما يفعل الغرب الآن. يتسائل الجابري قائلًا: لماذا رفض الفكر العربي الاقتران الضروري بين الأشياء ثم أخذ يدافع عن فكرة العادة والجواز؟! فيجيب قائلًا إن الإجابة تكمن في أن:
«السلطة المرجعية الأولى والأساسية التي تحكم التفكير البياني العربي، سلطة اللغة العربية … التي كانت تشكل الإطار المرجعي الأساسي لعلماء الكلام، هؤلاء الذين رأيناهم في مناسبات عديدة، ولدى كل قضية يستمدون تحديداتهم للمفاهيم التي يستعملونها من (قالت العرب …) و (العرب تقول …)، والاحتكام إلى ما قاله (الأعرابي)، معناه الاحتكام إلى عالم عرب الجزيرة العربية في الجاهلية، عالمهم الجغرافي والاجتماعي، وعالمهم الفكري والثقافي … إذا نحن فحصنا بيئة الأعرابي الجغرافية والاجتماعية والفكرية من زاوية الاتصال والانفصال Continu et discontinu، وجدنا الانفصال يطبع جل معطياتها، فالطبيعة رملية، والرمل حبات منفصلة مستقلة، مثلها مثل الحصى والأحجار والطوب المؤلف منها … كل الأجسام في الصحراء وحدات مستقلة، والعلاقات التي قد تربطها هي علاقات المجاورة لا التداخل، فالعربي وحدةٌ ضائعةٌ، في أرض شاسعة … وإذن فالمبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية، بل سيكون: الجواز، كل شيء جائز. الاطراد قائم فعلا، ولكن التغير المفاجئ الخارق للعادة ممكن في كل لحظة»([7]).
هكذا يقرأ الجابري، ومَن دار في فَلَكِه مِن الرشديين نظرية (السببية)؛ فيرون أنها كانت سببًا في تقدم العلوم، وأن نظرة الغزالي كانت السبب في نقيضه، فيفسرون نظرة الغزالي على أنها نظرة مثالية لا توافق العالم الواقعي المادي الذي من خلاله تتقدم العلوم.
هل سارت الأمور حقًّا كما يصورها الأستاذ الجابري؟ الحق أنني كنتُ يومًا أميل إلى رأي الجابري، وكنت أرى أن قول ابن رشد وما يستتبعه من القول بتقدم العلوم أحرى بالقبول، لكن جُلَّ الميل زيغ، ذلك أنني بعد التمعن في قراءة الغزالي لنظرية (السببية)، رأيت أنها قد فتحت للعلوم بابًا أرحب من نظرية ابن رشد، ولكن لا يعيب الرجل -أعني الغزالي- أن ظروف المجتمع الإسلامي التي جاءت بعده لم تكن الظروف المناسبة للإنتاج العلمي الحقيقي. كيف ذلك؟ أترك المجال للعلامة محمد عبد الله دراز ليبرز لنا كيف يكون نفي السببية الضرورية مفتاحًا ذكيًّا لتقدم العلوم من حيث ظُن به نقيض ذلك، يقول رحمه الله:
«إن الطبيعيين حين يرون ترابط الأشياء وتتابعها في نظام مطرد، يقف بهم النظر في هذه النُظُم عند حَدِّ العادة الجارية، فيطمئنون الاطمئنان كله إلى استقرارها ودوامها، وييأسون اليأس التام من تحولها وانفصامها، فهم أبدًا في أحد طرفين متباعدين: إما أمنٌ غافل، وإما يأسٌ قاتل. أما العقيدة الدينية (وكذلك الفلسفة الروحية) فإنها لا تخضع لسياسة الأمر الواقع، بل تنفذ إلى بواطن الأمور وأعماقها، فتقيس الوجود بمقاييس العقل، وتزنه بموازين الإمكان، وبذلك يتكشف لها الكون عن حقيقته، فلا ترى في نظامه الواقعي ضرورة ذاتية، ولا في تبدل هذا النظام استحالة ذاتية، بل ترى عليه طابع الصنعة الموضوعة، وأثر الترتيب المقصود، وترى أمر بقائه أو تطوره رهينًا بالإرادة التي وضعت هذا النظام وحفظته، لأن من استطاع أن يربط السلسة، استطاع أن يفصمها، ومن أدار الدولاب ذات اليمين، قدر أن يديره ذات الشمال، ومن صَرَّفَ الأمور بمحض اختياره على وجه، كان في وسعه أن يحدث في سيرها من العجائب والشواذ والمفاجآت ما يخرق كل حساب، فيبرئ المريض الذي عجز الطب عن علاجه، ويخلص الأسير الذي أوصدت دونه الأبواب، وينزل الغيث في القيظ، وينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة … إلى غير ذلك. هكذا نرى الأديان في كل صورها ومظاهرها تقف إلى جانب الأمل والإمكان والحرية والاختيار في مبدأ الأشياء. وهي بهذه النزعة في الحقيقة تخدم العلوم وتمهد لتقدمها، إذ تفسح المجال أمامها في تغيير معالم الأشياء إلى مدى أبعد مما تتصوره العلوم الواقعية، التي هي بطبيعتها جبرية إلى أقصى حدود الجبر، يئوسة إلى أبعد حدود اليأس، لأنها كلما كشفت قانونًا وقفت عنده دهرًا، تبني على أساسه كل فنونها وصناعاتها … حتى إذا انتقلت إلى مرحلة أخرى، انتقلت بذلك من طوق حديدي إلى طوق أوسع منه، ولكنه في نظرها طوق حديدي على كل حال، فهي تعيش يومًا بيوم، لا تؤمن إلا بعينها، ولا ترى أكثر من طرف أنفها. إلا أنها في هذا السير الحثيث إلى الكشف والتجديد، خاضعة في الواقع من حيث لا تشعر لدفعة خفيفة من الإيمان بإمكانيات لا نهاية لها في الكون»([8]).
والذي يترائى لي بعد هذا العرض الدِّرازي أن نظرية الغزالي وإن كانت قد أغلقت (باب) (الحتمية)، فإنها قد فتحت (أبواب) (الاحتمالية) التي لم يصل العلم الحديث إليها إلا في القرن العشرين، وهذا يمثل في الحقيقة سبقًا معرفيًّا غزاليًّا، ولكن قَلَّ المنتبهون له. والعكس يقال في نظرية ابن رشد، فإنها وإن كانت قد فتحت (بابًا) للحتمية العلمية الأبستمولوجية، فإنها قد أغلقت (أبوابًا) للاحتمالية التي تفتح الباب على مصراعيه للإبداع والإنتاج المعرفي. ولا ريب أن الحتمية وإن كانت واقعية، فإنها محكومة بالزمان والمكان الذي تظهر فيه القوانين العلمية؛ ذلك أن العلماء الطبيعيين لو حكموا أنفسهم على الدوام بالنظريات العلمية والقوانين الطبيعية المُسَلَّمِ بها في زمان ابن رشد، لَمَا تقدمت العلوم قيد أنملة، بل لَمَا وجدت لها مخرجًا إلا في نظرية (الاحتمالية) التي تبناها حجة الإسلام الغزالي قبل ظهورها في العلم الحديث بقرابة ثمانية قرون، وبهذا تكون نظرية الغزالي قد فتحت أبوابًا للإبداع العلمي والإنتاج المعرفي لا يتوقف نتاجه.
هذا وإن وقوفنا عند ظاهر كلام الرجل واجتزائه من سياقه، لا يفيدنا إلا تشويه صورة هذا التاريخ الفكري الفريد. ولا دليل على المقال أصدق من الحال، فكم من نظريات علمية وقوانين طبيعية كانت من المُسَلَّمات في وقت من الأوقات، حتى كان الناس يَتَّهمون بالجنون من يقول بغيرها، ثم يجيء زمان بعد ذلك ليثبت أن يقين الجمهور لم يكن إلا وهمًا، وأن جنون العالِم لم يكن إلا يقينًا، وما إبطال العلم الحديث لنظرية (الأثير)([9]) عنا ببعيد!
هذا وإن الغزالي -على عِظَم شأن التنبؤ- لم يكن مجرد مُتنبِّئ بنظرية (الاحتمالات)، إنما كان معالجًا لها في صورة من أدق صورها إن لم تكن هي الأدق؛ أعني صورتها الفلسفية المعالجة لمسائل ما وراء الطبيعة؛ ذلك أن نظرية (الاحتمالات) تنطبق أولَ ما تنطبق على (الحساب والرياضيات)، يليها الفيزياء (الطبيعة)، ثم في المرحلة العليا تأتي (الاحتمالات فيما وراء الطبيعة metaphysics)، وقد شهد القرن العشرون طفرةً نوعيةً بعد انهيار نظرية الأثير ودخول نظرية (الاحتمالات) ساحة الفيزيقا، ثم الميتافيزيقا مع برتراند راسل وكتابيه اللذين أحدثا ثورة في مجال الاحتماليات: The principles of Mathematics, and The Problems of Philosophy، ليبدأ التساؤل عن حقيقة ما نراه، هل توجد قوانين تحدد بشكل حتمي أو ضروري سلوك الكون؟ هل يمكن للإنسان أن يعرف كل شيء؟ وما آليات اكتساب المعرفة؟ وهلم جرًّا. ولعل هذا كان له أثر في القراءة الجديدة التي يقدمها Frank Griffelللغزالي في كتابه: Al-Ghazali’s Philosophical Theology، والذي يصحح فيه الفَهم المغلوط عن الغزالي وعن عدائه المزعوم للفلسفة، ولَعَلِّي أعود إلى قراءة Griffelلفلسفة الغزالي في مقال آخر ان شاء الله.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
—————-
[1]مدرس مساعد بقسم العقيدة والفلسفة، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر/ باحث دكتوراه بكلية SOAS ، جامعة لندن، المملكة المتحدة.
[2] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، الطبعة التاسعة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص. 218.
[3]الجابري، المصدر السابق، ص. 203.
[4]أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا (القاهرة: دار المعارف، 1966)، ص. 240-246.
[5]أبو الوليد ابن رشد، تهافت التهافت، تقديم: محمد العريبي، الطبعة الأولى (بيروت: دار الفكر اللبناني، 1993)، ص. 292.
[6] http://elbadil.com/2014/05/السببية-بين-الغزالي-وابن-رشد/
[7]))الجابري، المصدر السابق، ص. 239-243.
[8]محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان (الكويت: دار القلم، 1952)، ص. 50-51.
[9]ظل علماء الطبيعة معتقدين أن الأرض مركبة من العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب)، بينما السماء مكونة من عنصر آخر ذو طبيعة مختلفة هو (الأثير)، وكانت نظرية عزيزة موقنًا بها، حتى جاءت تجارب ميكلسون ومورلي في القرن التاسع عشر لتثبت أن نظرية الأثير كلام فارغ. انظر: مصطفى محمود، أينشتين والنسبية، الطبعة السابعة (القاهرة: دار المعارف، 1993).
تعليق لبعض الأفاضل على الواتس أب:
ما قاله الجابري هو افتراء على الامام الغزالي فهذا الأخير وباختصار لا ينفي السببية إنما شرحها في ضؤ فهم النصوص الشرعية، علته عدم تأليه السببية من جهة وعدم إنكار المعجزات من جهة أخرى وقد ابلي في ذلك بلاء حسنا إذ ما شرحه ليس سببا في تأخر وتخلف العلوم كما زعم الجابري بل كانت نظرته (أي الغزالي) اوسع وارحب في الانفتاح العلمي المادي المحسوس وغير المحسوس، وليس صحيحا ما ذهب إليه (الجابري) من القول بأن الغرب انفتح وتقدم بعد إنغلاق عندما أخذ بنظرية إبن رشد في شيء لأن الخلاف بين الغزالي وإبن رشد خلاف عقدي لا علاقة له ولا به في تقدم العلوم من عدمها.
واختصار قول الغزالي أن علاقة السبب بالمسبب ليست علاقة ذاتية إنما هي اقتران عادة على خلاف ما ذهب إليه إبن رشد والمعتزلة من القول من انها ذاتية.
فبالله كيف يكون هذا الخلاف له علاقة في التقدم الفكري والانتاجي من عدمه؟
هل قول الامام الغزالي في شرحه من ان العلاقة هي اقتران عادة سبب لوقف البحث العلمي؟! (قطعا ليس كذلك).
وهل قول المعتزلة وابن رشد أنها علاقة ذاتية سببا للتقدم؟!
شخصيا لا أر ثمة علاقة في ذلك فقول الغزالي لا يقتضي البتة إغلاق مجال البحث العلمي الذي توصل له الغرب سيما في (التكنولوجيا العصرية)
فجل المبحث في شرحها وبيانها من الجانب العقدي فحسب.
والله أعلم