المولد النبوي الشريف

موقف الشيخ ابن تيمية ومدرسته من الاحتفال بالمولد النبوي(منقول)

موقف الشيخ ابن تيمية ومدرسته من الاحتفال بالمولد النبوي

يطيب للمانعين من الاحتفال للاحتفاء بمولد النبي ﷺ أن يشيعوا بين العوام أن الشيخ ابن تيمية (ت:728هـ) رحمه الله تعالى يحرم هذا الاحتفال؛ مستغلين شهرة هذا العالم وحب الكثيرين له.

نعم، قد يقف الباحث المنصف في تراث ابن تيمية على نصوص يفهم منها تبدعيه لهذا الاحتفال مما قد يلزم منه تحريمه، لكنه يقف أيضًا على نصوص يفهم منها تجويزه لهذا الاحتفال!

فمن النصوص التي تدل على التحريم قوله في “مجموع الفتاوى” (ج25:ص298): ((وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ .. فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا ..)).

ومن النصوص التي تدل على التجويز قوله في “اقتضاء الصراط المستقيم” (ج2:ص126: تحقيق: ناصر العقل): ((فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..)).

وحيث وقع التعارض في كلام ابن تيمية في مسألة الاحتفال بالمولد، فالأصل -تبعًا لقواعد علم أصول الفقه- أن يصار إلى الجمع، فإن تعذر فيصار إلى النسخ إن عُلِم المتقدم والمتأخر منهما، وإلا فيصار إلى الترجيح، وليس من مقصود هذا المقال المختصر رفع هذا التعارض ، لكننا سنمهد الطريق لذلك بتسليط الضوء على موقف أكبر تلميذين من تلاميذ الشيخ ابن تيمية -بعد ابن القيم طبعًا- من الاحتفال بالمولد وهما الحافظ المؤرخ الذهبي (ت:748هـ) والمفسر الحافظ المؤرخ ابن كثير (ت:774هـ) رحمهما الله تعالى.

وموقف هذين الحافظين من الاحتفال بالمولد يتجلى في ثنايا ترجمتهما لـلأمير مُظَفَّرِ الدِّيْنِ، أَبي سَعِيْدٍ كُوْكْبُرِي بن عَلِيِّ بن بكتكين بن مُحَمَّدٍ التُّرُكْمَانِيّ، صَاحِب إِرْبِل [أربيل اليوم وتقع في كردستان العراق]، توفي سنة 630هـ عن اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ سَنَةً، ودفن في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [النجف اليوم وتقع في العراق].
والأمير كُوْكْبُرِي [ومعناه بالتركية ذئب☺️ أزرق] هو صِهْر صلاح الدين الأيوبي – زوج أخته ربيعة خاتون- وجاهد معه في معركة حطين التي تحررت على إثرها القدس من الصليبين، وهو أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف كما نص على ذلك الإمام أبوشامة المقدسي [شيخ الإمام النووي]، والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي [ صاحب كتاب: الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيخ الإسلام كافر ] والحافظ السيوطي، بل نقل الشوكاني الإجماع على ذلك.

  1. قال الحافظ الذهبي في ترجمة الأمير كُوْكْبُرِي في “سير أعلام النبلاء” (ج22:ص334-337):
    -السُّلْطَانُ الدَّيِّنُ ، الـمَلِك الـمُعَظَّمُ، مُظَفَّر الدِّيْنِ، أَبُو سَعِيْدٍ كُوْكْبُرِي..
    -وَكَانَ مُحِبّاً لِلصَّدقَة، لَهُ كُلّ يَوْم قنَاطير خُبْز يُفرِّقهَا، وَيَكسو فِي العَامِ خلقًا وَيُعْطِيهُم دِيْنَاراً وَدِيْنَارَيْنِ..
    -وَبَنَى مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّة وَالحَنَفِيَّة، وَكَانَ يَمدّ بِهَا السِّمَاط، وَيَحضر السَّمَاع كَثِيْراً ، لَمْ يَكُنْ لَهُ لَذَّة فِي شَيْءٍ غَيْره [انتبه!].
    -وَكَانَ يَمْنَع مِنْ دُخُوْلِ مُنْكَرٍ بَلَدَهُ [انتبه!]، وَبَنَى لِلصُّوْفِيَة رِبَاطَينِ، وَكَانَ يَنْزِل إِلَيْهِم لأَجْل السَّمَاعَات.
    وَأَمَّا احتفَاله بِالمـَوْلِدِ، فَيَقْصُر التَّعْبِيْر عَنْهُ ؛ كَانَ الْخلق يَقصدُوْنَهُ مِنَ العِرَاقِ وَالجَزِيْرَة، وَتُنْصَب قِبَاب خَشَب لَهُ وَلأَمرَائِهِ وَتُزَيَّن، وَفِيْهَا جوق المغَانِي وَاللّعب، وَيَنْزِل كُلّ يَوْمٍ العَصرَ، فَيَقِف عَلَى كُلّ قُبَّة وَيَتفرج، وَيَعْمَل ذَلِكَ أَيَّاماً، وَيُخْرِجُ مِنَ البَقَر وَالإِبِل وَالغَنَم شَيْئاً كَثِيْراً، فَتُنْحَر، وَتُطْبَخ الأَلوَان، وَيَعْمَل عِدَّة خِلَع لِلصُّوْفِيَة، وَيَتكلَّم الوُعَّاظ فِي الـمَيْدَان، فَيُنفق أَمْوَالاً جَزِيْلَة. وَقَدْ جَمَعَ لَهُ ابْن دِحْيَة (كِتَاب الـمَوْلِد)، فَأَعْطَاهُ أَلف دِيْنَار.
    وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، خَيِّراً، سُنِّيّاً [انتبه شديدًا هنا!]، يُحبّ الفُقَهَاء وَالـمُحَدِّثِيْنَ، وَرُبَّمَا أَعْطَى الشُّعَرَاء، وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ انْهَزَم فِي حَرْب، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا وَأَمثَاله ابْنُ خَلِّكَانَ، وَاعْتَذَرَ مِنَ التَّقْصِير.
  2. وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الأمير كُوْكْبُرِي في “تاريخ الإسلام” (ج13:ص930: تحقيق بشار عواد):
  • ولم تكن لَهُ لذّةٌ سوى السَّماع ، فإنَّه كَانَ لا يتعاطى الـمُنكر ، ولا يمكن من إدخاله البلد . وبنى للصّوفية خانقاتين، فيهما خلقٌ كثير، ولهما أوقافٌ كثيرة، وكان ينزل إليهم ويعمل عندهم السَّماعات.
    • وأمَّا احتفالُه بالـمَولد، فإنَّ الوَصْف يَقْصُر عن الإحاطة به، كَانَ الناسُ يقْصدُونه من الـمَوْصِل، وبغداد، وسِنجار، والجزيرة، وغيرها خلائق من الفُقهاء والصُّوفية والوعّاظ والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرَّم إلى أوائل ربيع الأوّل ثمّ تُنْصب قِباب خَشب نحو العشرين، منها واحدةً لَهُ، والباقي لأعيان دولته، وكلُّ قبة أربع خمس طبقات ثمّ تزيّن من أوّلِ صفر، ويقعد فيها جَوْق المغاني والـمَلاهي وأَرْبابُ الخَيال، ويبطل معاشُ النَّاس للفُرجة..
      -وكان كريمَ الأخلاق، كثيرَ التواضع، مائلًا إلى أهل السُّنَّة والجماعة [انتبه هنا!]، لا يَنْفُقُ عنده سوى الفقهاء والمحدّثين، وكان قليلَ الإقبال على الشِّعر وأهلِه. ولم يُنقل أنَّه انكسر في مصافٍّ.
  1. وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة الأمير كُوْكْبُرِي في “البداية والنهاية” (ج13:ص136-137):
    -الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أبو سعيد كُوْكْبُرِي .. أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالسَّادَاتِ الْكُبَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ ، لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَقَدْ عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.. وَكَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شهمًا شجاعًا فاتكًا بطلًا عاقلًا عالـمًا عادلًا رحمه الله وأكرم مثواه.
    -قَالَ السِّبْطُ [أي شمس الدين سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان]: وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ فَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلِقُ لَهُمْ وَيَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ [انتبه هنا!].

الخلاصة:
الأمير كُوْكْبُرِي:
[1] صوفي، [2] يعمل المولد وينفق عليه الأموال الطائلة، و[3] يحب السماع (الإنشاد) بل لَمْ يَكُنْ لَهُ لَذَّة فِي شَيْءٍ غَيْره، و[4] يرقص مع الصوفية.

ومع ذلك فهو عند الحافظ الذهبي:
[1] لا يتعاطى المنكر ويَمْنَع مِنْ دُخُوْلِ مُنْكَرٍ بَلَدَهُ [ يعني عمل المولد والرقص الصوفي ليس منكرًا ].
و[2] سُنِّي [يعني ليس مبتدعًا ]،
و[3] يُحبّ الفُقَهَاء وَالـمُحَدِّثِيْنَ.

وعند الحافظ ابن كثير:
[1] أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالسَّادَاتِ الْكُبَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ، و[2] شهم عاقل عالـم عادل .

تنبيه مهم :

وصف الحافظ ابن كثير الشافعي الأمير كُوْكْبُرِي بأنه شهم عاقل عالم عادل مع أنه نقل عنه أنه كان يرقص مع الصوفية، ومعلوم أن الرقص حرام عند الشافعية إذا كان بتكسُّرٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمُخَنَّثِينَ، أما رقص الصوفية فحمله الإمام ابن حجر الهيتمي في “تحفة المحتاج” (ج10:ص222) على ((.. مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وارد أو تجل لا يعرفه إلا أهله ..)).

السابق
ترجمة موجزة لسيدي الشيخ عمر عطار رحمه الله تعالى (منقول)
التالي
مسألة اعتقاد تجسيم الإله هي مسألة خلافية بين طوائف بني آدم ففيها مذهبان (منقول)