الاجتهاد والتقليد واللامذهبية عند الوهابية

مع ابن مفلح وشيخه (ابن تيمية) مرة ثانية:

مع ابن مفلح وشيخه مرة ثانية:


كان العلامة شمس الدين ابن مفلح -رحمه الله- تعالى من أنبه تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، وأفقههم، وأعرفهم: بمذهب الإمام أحمد، وبأقوال شيخه ابن تيمية،
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى فقهه ويقول له: (ما أنت ابن مفلح، أنت مفلح)!

وكان العلامة ابن القيم يراجعه، ويستفيد منه، ويقر له بالفقه والتقدم فيه.

ومكانة ابن مفلح في المذهب الحنبلي لا تخفى على طالب علم، بل هو أهم شخص على الإطلاق في سياق ترجيح معتمد المذهب ومعرفته عند العلامة المرداوي، كما نص عليه.

وكانت لابن مفلح عناية كبيرة باختيارات شيخه ابن تيمية، الأصولية والفروعية، فهو أهم من ذكرها وبثها في مواضعها، وعنده اختيارات ليست موجودة في الكتب المصنفة لجمع اختيارات الشيخ خاصة.

 ولكن يميز ابن مفلح -كما قلت مرارا-: أنه راسخ القدم و(ثقيل)، فهو يعظم شيخه، ويذكر اختياراته وينشرها، بل هو من أكبر المراجع في ذلك.
ولكنه لا يذوب في شيخه، ولا ينبهر به الانبهار الذي يذهل الشخص عن التحرير والمراجعة.

وهو أيضا هادئ النفس في تأييده وفي مخالفته، لا تشعر به، ولا تتوتر ولا تتحفز وأنت تقرأ عرضه للأقوال وانتصاره لبعضها أو رده عليها، وليس ممن يسلك مسلك التهويل والمبالغة.

ولهذا كان لابن مفلح مكانة كبيرة في المذهب؛ لرسوخه التام، واستفادته العظيمة من شيخه ابن تيمية، مع تمام تمكنه وقوة شخصيته العلمية، واستقلاليته.

وكتاباه (الفروع) و (الآداب الشرعية)؛ شاهدان على: إمامته، وذكائه الحاد، وتمكنه في كثير من العلوم، ولا سيما الأول، فلا نظير له.

  • وسأذكر مثالين لما أقول عند ابن مفلح، تطبيقا لما ذكرته، وليرى الإخوة الكرام نماذج عملية له،
    وقد سبق ونقلت هذا قبل ثلاث سنوات، وكنت آمل أن يفهم بعض المتعصبين ويتغير حالهم، ومن عجب: أن كثيرا منهم كان معجبا بهذه الأمثلة يومها، وبهذا الطرح حين ذكرته، لكن لم يكن لهذا أي أثر في العمل والفكر!

١- قال في الفروع نقلا عن شيخه الإمام ابن تيمية:
(وفي رده على الرافضي، في بيع: سلاح في فتنة، وعنب لخمر: يتصدق بثمنه، [وأنه قول محققي الفقهاء]، كذا قال! وقوله مع الجماعة أولى).
فهنا: ذكر اختيارا لشيخه موافقا للجمهور، وأتبعه بذكر اختيار آخر له في نفس المسألة..
ثم قال: (كذا قال! وقوله مع الجماعة أولى). وأطال في الاستدلال بما يخالفه.

  • ولنا مع هذا ثلاث وقفات:
    الأولى: أن كلمة: “كذا قال”؛ تعني: الاستنكار.
    فهو يرأى أن هذا الرأي منكر.
    الثانية: التأدب مع شيخه، ومعرفة مكانته، فقد أنكر دون تشنيع وحط من مكانة الشيخ، واستدل لقول الجمهور وأطال النفس.
    الثالثة: لم يغتر بقول الشيخ: “إن هذا قول محققي الفقهاء”.
    وكم يغتر بهذا القول ونظائره: قصيرو العلم، قاصرو الاطلاع، ضعفاء العقول، ويوهمون
     الناس أنهم أتوا بجديد، ويتوهمون أن جماهير العلماء خفي عليهم هذا التحقيق والتجديد، وما هم إلا عالة على ابن تيمية، ولولاه ما عرفوا هذه الأقوال ولا حججها أصلا!
    بل لو قالها غير ابن تيمية= لرموه بالضلال، وطعنوا في ديانته ونيته.

وأما ابن مفلح: فاستنكر هذا القول، ثم قال قولا ذهبيا يبين لك رسوخه:
(وقوله مع الجماعة أولى).
وهذا التعقيب: مدرسة. فتمهل.

٢- في مسألة سفر المرأة بمحرم، ذكر الروايات عن الإمام أحمد، والأقوال داخل المذهب وخارجه -على عادته في ذكر الخلاف واستيعابه-، ثم عرض قول ابن تيمية المخالف للجمهور، فقال:
(وعند شيخنا: تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم, وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة). ثم قال معقبا: (كذا قال!).
وهي عبارة -كما قلنا- تدل على: إنكار القول.

ومما يلحظ: أنه لم يذكرها عقب أي قول آخر من الأقوال التي ذكرها في هذه المسألة ولو خالفت مذهب الحنابلة، وإنما عقب بها على قول شيخ الإسلام، وهو هنا مخالف لمعتمد المذاهب الأربعة. فتأمل!

Telegram الرواق المنهجي والحنبلي( بإشراف الشيخ محمد عبد الواحد الأزهري الحنبلي)

السابق
عن الجدل الدائر حول الحنابلة والأشاعرة …والحاصل: نعم ليس الحنابلة أشاعرة، مع شدة تقاربهم. لكن الأهم: أنهم ليسوا تيميين، ولا وهابية. (منشور للشيخ محمد عبد الواحد الحنبلي الأزهري)
التالي
بين ابن مفلح وابن القيم في فقه الحنابلة