صفة النزول

مسألة النزول وموقف الإمام الطبري منها، بحث ماتع ونافع وموسع في صفة النزول من رسالة دكتوراه أزهرية.

بحث ماتع ونافع وموسع في صفة النزول من 8 صفحات، وهو للدكتور محسن عبد الواحد سيد أحمد من رسالته للدكتوراة وهي بعنوان “جهود الإمام الطبري في الصفات الخبرية مقارنة بجهود السلفية المعاصرة”؛ أسوقه بتمامه لنفاسته

‘‘‘‘‘‘المبحث السابع:مسألة النزول وموقف الإمام الطبري منها

في هذا المبحث نتناول مسألة النزول ونعرض لاختلاف المختلفين فيها بين مثبت، ومؤول، ومشبه، ومفوض، منتهيين إلى مقالة الإمام الطبري في المسألة. ومعتمد المفترقين في هذه المسألة حديث النزول المشهور، فقد روى البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما (3)

__________

(1) فتح الباري 11/ 133 كتاب التهجد بالليل، باب الدعاء في آخر الليل، حديث رقم (6621)، ورواه أيضًا في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله} حديث رقم (7494)،3/ 473 – الريان.

(2) رواه في كتاب المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، حديث رقم (758)، 1/ 521.

(3) الحديث رواه أبو داوود في كتاب السنة، باب الرد على الجهمية، حديث رقم (4733)،4/ 234 – دار الحديث ـ القاهرة، والترمذي كتاب الصلاة، باب ما جاء في نزول الرب عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة، حديث رقم (2446)، وفي كتاب الدعوات باب رقم 79 حديث رقم (3498)، والدارمي 1/ 412 ـ 413، كتاب الصلاة، باب ينزل الله إلى السماء الدنيا، حديث رقم (1478)، وابن ماجه 1/ 435، كتاب الإقامة، باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل- ط الحلبي، ومالك في الموطأ 1/ 178، كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء، وأحمد في مسنده 2/ 264، مسند أبي هريرة – رضي الله عنه – ..

***********************

واللفظ للبخاري حيث قال:” حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) والحديث في أعالي درجات الصحة فلا مطعن فيه لأحد، خاصة وأن الحديث وارد في الصحيحين البخاري ومسلم، ولقد أجمعت الأمة على قبول مروياتهما بعد كتاب الله – عز وجل – (1) فلا سبيل للشك في صحة الحديث اعتمادًا على ما قيل في ضعف إسحاق بن يحيى (2) وهو وإن كان ضعيفًا إلا أن الحديث ورد من طرق أخرى صحيحة , وقد رأينا في سند الإمام البخاري السابق عدم ذكر إسحاق بن يحيى هذا وكذلك إسناد الإمام مسلم (3).

ولو كان في هذا الحديث شبهة مطعن لسارع إلي إنكاره كل من لا يألوا جهداً في تأويله أو السكوت على مضض أو سلوك مسلك التفويض فيه. ولكن مما يدل على قبوله لدى الجميع من مفوضة، ومؤولة، حتى المجسمة، والمشبهة، أنهم قبلوه , ولكل وجهة هو موليها، ونظر إليه الجميع على حسب آرائهم ومذاهبهم.

النزول في اللغة: ـ

__________

(1) انظر: مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، تحقيق: د/عائشة عبد الرحمن، ص160: 161،170 – ط دار المعارف.

(2) هو إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، ضعيف. تقريب التهذيب ص 103 برقم 390، وانظر تهذيب التهذيب 1/ 254: 255 برقم 479.

(3) فقد ساقه بسنده حيث قال:”حدثنا يحي بن يحي قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغر وعن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى … الحديث. حديث رقم1741 صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 154 – دار الغد.

*****************************

وأصل النزول في اللغة هو انحطاط من علو يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا أي حَط رحله فيه، وأنزله غيره (1).

والنزول أيضا الحلول تقول: نزل ينزل نزولاً ومنزلاً والتنزيل أيضا الترتيب، والتنزيل: النزول في مهلة (2). فالنزول في اللغة: يطلق ويراد به الحلول في مكان والآوي إليه , ومنه قولهم نزل الأمير المدينة، والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه: إحلال الغير في مكان وإيواءه به. ومنه قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} المؤمنون: 29. ويطلق النزول إطلاقًا آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل نحو ” نزل فلان من الجبل، والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشيء من علو إلى سفل , ومنه قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الأنعام: 99 (3).

مذاهب العلماء في مسألة النزول:

يمكننا أن نقول إن العلماء على اختلاف اتجاهاتهم في هذه المسألة قد جمعهم فيها أمر واحد وهو السعي نحو تنزيه الله – عز وجل – عما يستلزمه المعنى الحقيقي للنزول من الجسمية ولوازمها. فالذين نفوا النزول قد نفوه من منطلق ما يرونه من أن الله ـ تعالى ـ لا يجوز في حقه الحركة والسكون، والنقلة من الصعود إلى الهبوط وغير ذلك من لوازم الأجسام (4).

__________

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني ص 508 – دار الفكر.

(2) مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي؛ دراسة وتقديم: عبد الفتاح البركاوي ص 297.

(3) منة المنان في علوم القرآن: الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة 2/ 9.

(4) راجع دفع شبه التشبيه بحاشية السقاف ص195.

***********************************

ولهذا قال الأشعري فيما رواه عنه البيهقي: ” فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، والله ـ تعالى ـ أحد صمد ليس كمثله شيء. ثم نقل عنه أيضًا أنه قال: وهكذا قال في أخبار النزول إن المراد به فعل يحدثه الله – عز وجل – في السماء الدنيا يسميه نزولاً بلا حركة ولا نقلة تعالى الله عن صفات المخلوقين” (1).

ولهذا أيضًا قال ابن بطال: ” النزول محال على الله لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك فليتأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه , أو يفوض مع اعتقاد التنزيه” (2).

ويقول الإمام القرطبي: ” فلا يقدر في صفته حركة، ولا سكون، ولا ضياء، ولا ظلام، ولا قعود، ولا قيام، ولا ابتداء، ولا انتهاء؛ إذ هو – عز وجل – وتر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى:11 {لعلكم تذكرون} النحل: 90 ” (3).

وقد نقل ابن حجر عن البيضاوي ما يؤكد به هذا المعنى إذ يقول: ” ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة ” (4).

ولعل هاجس الجسمية هذا، هو الذي دفع الخوارج والمعتزلة إلى إنكار صحة أحاديث الصفات جملة (5).ولأن المذاهب الإسلامية المختلفة لم تتعامل مع حديث النزول وأمثاله من أحاديث الصفات بمعيار واحد , فقد اختلفت معالجتها لهذه النصوص كلٌ حسب مشربه.

أ ـ فأما المشبهة:

__________

(1) الأسماء والصفات للبيهقي ص 448: 449.

(2) فتح الباري 11/ 133.

(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/ 53 – دار الشعب.

(4) فتح الباري لابن حجر 3/ 37.

(5) نفس المصدر والصفحة.

********************************

فقد حملوا حديث النزول على حقيقته فأثبتوا لله تعالى نزولاً حقيقيًا وفق ما يوجبه ظاهر اللغة. يقول الإمام ابن حجر في ذلك:” فمنهم مَنْ حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم ” (1).

وقد عدَّ ابن الجوزي (2): تفسير النزول بالانتقال من قبيل التشبيه. وقد عاب على ابن حامد قوله: … ” إنما ينزل بذاته بانتقال، ورد عليه قائلاً: وهذا الكلام في ذاته تعالى بمقتضى الحس كما يتكلم في الأجسام

قال ابن عقيل في قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الإسراء: 85: الله كفَّ خلقه عن السؤال عن مخلوق , فكفهم عن الخالق وصفاته أولى , وأنشدوا:

حقيقة المرء ليس المرء يدركها … فكيف يدرك كنه الخالق الأزل” (3)

ولذا فقد أوجب ابن الجوزي على الخلق اعتقاد التنزيه، وامتناع تجويز النقلة؛ لأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال، وهو مكان الساكن، وجسم سافل , وجسم ينتقل من أعلى إلى أسفل , وهذا لا يجوز على الله قطعًا ” (4).

ولهذا فقد حكم ابن العربي بالتكفير على مَنْ اثبتوا الصفات على مقتضى الحس فقال: ” فيأتيهم في صورة ثم يأتيهم في أخرى أفلا يحمل ذلك على أن الله يتنزل وينتقل؟ أو يتحول؟ تعالى الله عن ذلك , فإن قالوا بالصوت والصورة والتعابير التي هي مختصة بالحوادث لم يكونوا من أهل القبلة وحكم بخروجهم أصلاً وفرعًا من الملة” (5).

__________

(1) نفس المصدر والصفحة.

(2) راجع دفع شبه التشبيه بحاشية السقاف ص 141: 142.

(3) نفس المصدر ص 141: 142.

(4) دفع شبه التشبيه ص 196.

(5) من حاشية الإمام الكوثري على الأسماء والصفات للبيهقي ص 374: 375.

******************************

واعتقاد هذا الظاهر جعل بعضهم يعتقد أن الله تعالى يملأ العرش فإذا نزل إلى السماء الدنيا خلا منه العرش , يقول الإمام ابن الجوزي عن ابن حامد: ” قال وذهبت طائفة إلى أن الله ـ تعالى ـ على عرشه قد ملأه ” (1). فهنا العرش ممتلئ بالله ثم يصير خاليًا أو لا بحسب الاجتهاد.

وهنا نرى الإمام ابن تيمية قد انزلق إلى بحث هذه المسألة فقال: ” والصواب قول السلف أنه ينزل ولا يخلو العرش ” (2).

ب ـ المثبتة

وبعيدًا عن هذا الإغراق في الجسمية فإن هناك مَنْ اثبتوا هذه الصفات لله عز وجل متجردين عن هذه المعاني التي لا تليق بذاته تبارك وتعالى وفي نفس الوقت إعمالاً للنصوص الدالة على هذه الصفات. قال ابن حبان: ” ينزل بلا آلة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان ” (3).

__________

(1) دفع شبهة التشبيه بحاشية السقاف , ص 135.

(2) مجموع الفتاوى 5/ 132.

(3) صحيح ابن حبان , تحقيق شعيب الأرنؤوط 3/ 200.

****************************

وقال البيهقي: ” يجب أن يعلم أن استواء الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس استواء اعتدال عن اعوجاج، ولا استقرار في مكان، ولا مماثلة لشيء من خلقه، لكنه مستو على عرشه كما أخبر بلا كيف، بلا أين، بائن من جميع خلقه، وأن إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأن نزوله ليس بنقلة، وأن نفسه ليس بجسم، وأن وجهه ليس بصورة، وأن يده ليست بجارحة، وأن عينه ليست بحدقة، وإنما هذه أوصاف جاء بها التوقيف فقلنا بها ونفينا عنها التكييف ” (1) وقال أبو جعفر الترمذي وقد سأله سائل عن حديث النزول كيف هو يبقى فوقه علو؟ فقال: ” النزول معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ” (2).وقد علق الذهبي على هذا الكلام بقوله: “صدق فقيه بغداد وعالمها في زمانه إذ السؤال عن النزول ما هو (عي)؛ لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها مَنْ ليس كمثله شيء، فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة للبشر” (3).

ولو أن المسألة توقفت عند هذا القدر من الإثبات إعمالاً للنصوص الدالة عليها , لكان الأمر هينًا، لكن البحث تدرج إلى ما هو أبعد من ذلك.

ينقل ابن تيمية أقوال المثبتين وافتراقهم في هذا الأمر حيث يقول: ” واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان، والمجيء هل يقال أنه بحركة وانتقال؟ أم يقال بغير حركة وانتقال؟ أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال ذكرها القاضي أبو يعلى في اختلاف الروايتين والوجهين

فالأول قول أبي عبد الله بن حامد وغيره

والثاني قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته

__________

(1) الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة: الأمام البيهقي ص 52:53 – ط مكتبة السلام العالمية: القاهرة.

(2) نقله الذهبي في العلو وصحح الألباني سنده انظر: مختصر العلو 231.

(3) نفس المصدر والصفحة.

*****************************

والثالث قول أبي عبد الله بن بطة وغيره” (1).

ويبين لنا ابن تيمية موقفه من هذه المسألة فيقول: ” إن الصواب الذي هو مأثور عن سلف الأمة وأئمتها، أنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه، وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة ” (2).

وقد حاول ابن تيمية أن يخرج من إشكالية خلو العرش بالنزول متعللاً بالقدرة الإلهية وأنه … سبحانه يفعل ما يشاء (3)، وبأن هذا القول معروف عند الأئمة كحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما. فقد سأل بشر السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل: الحديث الذي جاء ينزل الله إلى السماء الدنيا … أيتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال: هو فى مكانه يقرب من خلقه كيف شاء، … وقال: إسحاق بن راهويه: دخلت على عبد الله بن طاهر فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا!! قلت: نعم رواها الثقات الذين يروون الأحكام، قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن العرش منه خال قال: نعم قلت: ولم تتكلم في هذا (4).

__________

(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 5/ 89.

(2) شرح حديث النزول لابن تيمية ص66.

(3) نفس المصدر ص 42 ـ 43.

(4) المصدر السابق ص 40 – 41.

******************************

ومما يؤكد لنا أن ابن تيمية يقصد النزول الحقيقي ما نقله غير منكر ما يرويه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه … أنه يتكلم. ويتحرك , بل نقل أيضًا عن نقض الدارمي ساكتًا أو مقراً بهذا الكلام: ” بأن الحي يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، وكل حي يتحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة ” (1).

بل إنه ذكر كلاماً يثير العجب حيث قال:” قال أبو عبد الله الرباطي: حضرت يوماً مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول أصحيح … هو؟ فقال: نعم، فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب! أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ فقال نعم، قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق حتى أصف لك النزول فقال له الرجل: أثبته فوق. فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} الفجر: 22 ,فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: هذا يوم القيامة!! فقال إسحاق: أعز الله الأمير. ومن يأتي يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (2). ويوضح لنا ابن تيمية هذا الأمر بما يزيد الحيرة من أمره وذلك فى صورة محاورة حيث يقول: ” إذا قال لك السائل: كيف ينزل أو كيف يستوي أو كيف يعلم أو كيف يتكلم؟ … فقل له كيف هو نفسه؟ فإذا قال أنا لا أعلم كيفية ذاته فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف (3).

__________

(1) شرح العقيدة الأصفهانية: ابن تيمية، قدم له الشيخ حسنين محمد مخلوف ص 38 – 40 – ط دار الكتب الإسلامية: القاهرة.

(2) شرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوى 4/ 239.

(3) المدرسة السلفية وموقف رجالها من المنطق وعلم الكلام: د/ محمد عبد الستار نصار ص 688، ونحن نقول: إن كان هو لا يدري كيفية صفاته فلم تكلم فيها.

*******************************

بل إنه Tضرب الأمثلة على ذلك ليؤكد ما ذهب إليه حيث يقول:”والصواب قول السلف” (1) أنه ينزل ولا يخلو منه العرش , وروح العبد في بدنه لا تزال ليلاً ونهاراً إلى أن يموت، ووقت النوم تعرج، وقد تسجد تحت العرش وهى لم تفارق جسده , وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وروحه في بدنه وأحكام الأرواح مخالف أحكام الأبدان، فكيف بالملائكة؟ فكيف برب العالمين؟ (2).

ولكي يخرج من إشكال أن النزول إذا كان في الثلث الأخير من الليل فإنه يلزم أن هذا النزول مستمر ليل نهار، فنراه يقول: ” ونزوله الذي أخبر به رسوله إلي سماء هؤلاء في ثلث ليلهم، وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم لا يشغله شأن عن شأن (3) وكذلك سبحانه لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ولا يشغله هذا عن هذا” (4).

فهذا مجمل لأقوال الإمام ابن تيمية، وتتلخص في أنه يرى أن النزول الوارد في الحديث هو النزول الحقيقي

__________

(1) سيأتي بيان القول الصحيح للسلف الصالح.

(2) مجموع الفتاوى 5/ 132، ط الرياض الحديثة.

(3) نفس المصدر والصفحة.

(4) سيأتي الرد ع

لى هذا.

***************************

وتبقى إشكالية دائرة في مذهب ابن تيمية في مسألة الصفات على وجه العموم، وهي رغبته في إثبات الصفات على حقيقتها , مع التمسك بأن هذا الإثبات بلا كيف، وهو متمسك أبدًا بأن ما يثبته هو مما يخالف ما عليه البشر. قال في شرح حديث النزول: ” وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك” (1). وهو باق كذلك على قوله بعدم جواز تأويل هذه النصوص على المعنى اللائق، بل إنه قال ينزل مع عدم خلو العرش، ولا شك أن هذا القول فيه جمع بين النقيضين، وهو القول بوجود الشيء الواحد في مكانين مختلفين في آن واحد، وهذا مستحيل … عقلاً. وعلى هذا فإما أن يقول بأن هذا النزول هو نوع من التجلي الإلهي – كما تجلى للجبل – وهو لاشك ليس فيه حركة ولا انتقال , وإما أن يقول بالنزول أي الهبوط الحقيقي من الأعلى إلى الأسفل، وإما أن يسكت فلا يتكلم فيها أصلاً كما سكت السلف مع اعتقادهم بأن الله منزه عن الظاهر من هذا الحديث.

__________

(1) الكتاب المذكور ص 66.

******************************

فإن قال بالأمر الأول فهو بلا شك مؤول للفظ النزول الحقيقي في اللغة إلى المعنى المجازي بمعنى التجلي و الإقبال، وإن قال بالأمر الثاني وهو السكوت عنها فإن هذا أسلم لكن هذا لا يتفق مع مذهبه حيث يعد هذا بالنسبة له تعطيلاً , ولما كانت كل الدلائل توحي بأن ابن تيمية إنما قصد المعنى الحقيقي للنزول وأنه لم يمرر القول في مذهب التأويل إن كان مؤولاً أو مذهب التفويض إن كان مفوضاً. وإنما ظهر من كلامه ما فهمه العلماء ولم يستطع هو أن يرد هذا الفهم أو أن يصححه، فإننا لا ندري ماذا يقول عن حديث “مرضت فلم تعدني ” (1) هل له أن يقول: أن المراد منه في حق الله عز وجل هو نفس المراد منه في حقنا , وبأن قوله: (مرضت) هو مثل ما وصف به نفسه من أنه حي عليم قادر، أم لابد أن يصير إلى التأويل فإن المريض في الحقيقة هو العبد كما بينه الحديث بعد ذلك.

جـ – المؤولة

ذهب فريق من العلماء إلى تأويل حديث النزول على معنى تقره اللغة، ويكون لائقًا بذات الباري تبارك وتعالى. يقول الإمام ابن حجر: ” ومنهم من أوّله على وجه يليق، مستعملاً في كلام العرب، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملاً في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا فأول في بعض، وفوض في بعض، وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد” (2). وقال الإمام النووي في شرحه لحديث النزول: ” هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء، ومختصرهما أن:- أحدهما وهو مذهب جمهور السلف، وبعض المتكلمين أننا نؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق، وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق.

__________

(1) رواه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم (517) ص 158 – طبعة بيروت.

(2) فتح الباري 3/ 37.

*******************************

والثاني: مذهب أكثر المتكلمين، وجماعات من السلف، وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها , وعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين:

أحدهما: تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يقال: فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره.

وثانيهما: أنه على الاستعارة، ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف، والله أعلم” (1).

وقد ذهب الإمام الأشعري إلى أن المراد من حديث النزول: ” فعل يحدثُه الله – عز وجل – في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولا بلا حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين ” (2).

ومما يجدر ذكره هنا أن تأويل حديث النزول ليس قاصرًا على الخلف وحدهم، وإنما من أئمة السلف من أوله , فقد روى الحافظ ابن عبد البر بسنده عن مالك – رضي الله عنه – قال: ” يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره، فأما هو فدائم لا يزول ” (3).

__________

(1) مسلم بشرح النووي، شرح الحديث رقم 1741، كتاب الصلاة، باب الترغيب في الدعاء، 3/ 154 – دار الغد , بتصرف

(2) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 448: 449.

(3) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 105.

**************************

والذين أولوا النزول في الحديث على أنه نزول الملك قد أيدوا قولهم بما رواه النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله – عز وجل – يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادي يقول: هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى؟) (1). وقد حكى أبو بكر بن فورك: أن بعض المشايخ ضبط الرواية التي تقول: يُنزل ربنا بضم الياء في كلمة ينزل بدلا من فتحها، وهذا يعني أن النازل ملك من الملائكة (2)، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال (3).

د-المفوضة

قال ابن حجر: ” ومنهم من أجراه على ما ورد، مؤمنًا به على طريق الإجمال، منزهًا الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي عن الأئمة الأربعة، والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهما ” (4). وقال السيوطي عن حديث النزول:” هذا من المتشابه الذي يسكت عن الخوض فيه ” (5).

قول الطبري في مسألة النزول

__________

(1) السنن الكبرى للنسائي 6/ 124 برقم 10616 – دار الريان للتراث: القاهرة، سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة برقم 1367 – 1/ 435.

(2) تنوير الحوالك: شرح على موطأ مالك: الأمام السيوطي 1/ 215 – مطبعة إحياء الكتب العربية: القاهرة.

(3) راجع فتح الباري 3/ 37.

(4) نفس المصدر والصفحة.

(5) تنوير الحوالك، 1/ 167، كتب البيوع.

***********************************

ذهب الطبري إلى إثبات النزول لله – عز وجل -، وذكر في معرض هذا الإثبات ثلاثة نصوص قرآنية هي قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} الفجر: 22 وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} البقرة: 210 وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} الأنعام: 158وقد ساق خطابه في شكل مناظرة قال فيها لمنكر هذه الصفة: ” هل أنت مصدق بهذه الأخبار – يعني النصوص الثلاثة التي أوردها آنفًا – أم أنت مكذب بها؟ فإن زعم أنه بها مكذب سقطت المناظرة بيننا وبينه من هذا الوجه، وإن زعم أنه بها مصدق قيل له فما أنكرت من الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها. فإن قال أنكرت ذلك لأن الهبوط نقلة، وإنه لا يجوز عليه الانتقال من مكان إلى مكان؛ لأن ذلك من صفات الأجسام المخلوقة، قيل له: فقد قال جل ثناؤه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فهل يجوز عليه المجيء؟ فإن قال لا يجوز ذلك عليه وإنما معنى هذا القول وجاء أمر ربك. قيل قد أخبرنا تبارك وتعالى: أنه يجيء هو والملك، فزعمت أنه يجيء أمره لا هو، فكذلك تقول أن الملك لا يجيء، وإنما يجيء أمر الملك لا الملك، كما كان معنى مجيء الرب ـ تبارك وتعالى ـ مجيء أمره.

فإن قال لا أقول ذلك في الملك ولكني أقول في الرب، قيل له فإن الخبر عن مجيء الرب – تبارك وتعالى – والملك خبر واحد، فزعمت في الخبر عن الرب – تعالى ذكره – أنه يجيء أمره لا هو وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره.

*****************************

فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك؟ … فإن زعم أن الفرق بينه وبينه أن الملك خلق لله، جائز عليه الزوال والانتقال، وليس ذلك على الله جائزًا، قيل له وما برهانك على أن معنى المجيء و الهبوط والنزول هو النقلة والزوال، ولا سيما على قول من يزعم منكم أن الله – تقدست أسماؤه – لا يخلو منه مكان، وكيف لم يجز عندكم أن يكون معنى المجيء والهبوط والنزول بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم الصانع، وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالِم والقادر منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه، بأنه عالِم لا علم له وقادر لا قدرة له، وإن كنتم لم تعقلوا عالمًا إلا له علم، وقادرًا إلا له قدرة، فما تنكرون أن يكون جائياً لا مجيء له، وهابطًا لا هبوط له ولا نزول له … فإن قال لنا منهم قائل: فما أنت قائل في معنى ذلك؟ قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به” (1).

ويفهم من كلام الطبري- الذي سقناه آنفًا – أنه يثبت لله ـ تعالى ـ صفة هي النزول، وأنه يثبتها على حقيقتها بل إنه صرح بمعنى هذه الصفة فقال: ” إنه يهبط في كل ليلة إلى السماء الدنيا ” وهذا تصرف من الطبري ليس له عليه مستند فيما ندري لاسيما أن لفظ الحديث الصحيح ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، لا يهبط، ولولا ما هو معروف عن الطبري من تنزيه لقلنا إنه قد ولج في باب القول بالجسمية.’’’’’

__________

(1) التبصير في معالم الدين لابن جرير الطبري ص 145: 148 بشيء من الاختصار، تحقيق علي بن عبد العزيز بن علي الشبل مع حواشي وتعليقات للشيخ بن باز.

https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/764510886949822

السابق
هل الله تعالى مركب عند ابن تيمية؟
التالي
لَأَنْ آكُلَ الدُّنْيَا بِالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ آكُلَهَا بِالدِّينِ