بمناسبة نشر الفتاوى الحنفية المنسوبة للإمام السعد رضي الله عنه، وأقول المنسوبة لأنني لم أتأكد إلى الآن صحة نسبتها لعدم اطلاعي عليها
.
فإنني قد تكلمت سابقا في منشوري الأول عن كون السعد التفتازاني قد نشأ حنفيا ثم اطلع على المذهب الشافعي وتوسع فيه. ولكن حقيقةً بعد البحث الطويل في المخطوطات وكتب التراجم، تغير رأيي، وعلى كل حال لا شك أنه متمكن غاية التمكن والإتقان في كلا المذهبين.
دليلي على تمكنه في المذهب الحنفي أصولا وفروعا أنه شرح كتب أصول وعقائد الحنفية في كتب تعتبر من عمد المذهب الحنفي، وفي الفروع قد ثبت عنه كتابة فتاوى على نفس المذهب، وشرح تلخيص الجامع ولم يتمّه.
وأما دليلي على تمكنه في المذهب الشافعي فلا يخفى تحشيته على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب في الأصول، وقد وقفت أخيرا -وهذه بشرى – على كتاب له من أنفس ما وقفت عليه ، <مفتاح الفقه> (رفعته على رابط في أسفل المنشور ويمكنكم تحميله) وهو مختصر صنّفه في الفقه الشافعي من مخطوطات برلين، والنسخة هذه نادرة ونفيسة منسوخة في القرن التاسع الهجري، وبينها وبين وفاة المصنف أقل من سبعين سنة، وقد كتب في آخره أن الكتاب لم يتمّه المصنف وأتمّه حفيده يحيى بن محمد بن مسعود التفتازاني شيخ الإسلام وهو والد شيخ الإسلام الشهيد أحمد بن يحيى الهروي التفتازاني المعروف بـ حفيد السعد صاحب الحواشي المعروفة.
ومما يقطع بصحة نسبة هذا الكتاب أنه قد ذكر في مصنفات التفتازاني، نقلها فتح الله الشرواني وغيره (ذكر طاشكبري زاده أن شيخه السيد الشريف)، عند زيارته لقبر التفتازاني بسرخس وقد وُضِعَت قائمة مؤلفات السعد بصندوق قبره، وهذه القائمة تطابق ما ذكره حفيده في آخر مخطوط <مفتاح الفقه> من معلومات دقيقة مثل تاريخ ولادة السعد في سنة 722 هـ وتصنيفه الكتاب بسرخس سنة 782 هـ ووفاته بسمرقند سنة 792 هـ ثم نقله إلى سرخس لكي يدفن بها بناء على طلبه في وصيته. إضافة إلى أن تاريخ إتمام حفيده للكتاب سنة 857 هـ على حسب المخطوط، يتطابق أيضا مع حياة يحيى بن محمد بن مسعود التفتازاني، حيث أورد اللكنوي في كتابه <الفوائد البهية> أنه توفي 887 هـ وقد تولى منصب شيخ الإسلام وخلفه ولده الشهيد الهروي.
بعد ما اطمأنت نفوسنا إلى تمكن السعد في المذهبين الشافعي والحنفي وتأكدنا من صحة نسبة كتاب <مفتاح الفقه> إليه، يأتي تحديد المذهب الذي نشأ فيه، ومع أنني سابقا قلت أنه يغلب على ظني المذهب الحنفي، لكن كما ذكرت في بداية هذا المنشور اكتشفت ما يصعب علي تجاهله وأنا الآن أظن أنه نشأ شافعي الأصول والفروع مع إتقان للمذهب الحنفي وتوسع وغلبة اشتغال في البلدان التي عاش فيها، وسأرتب الأدلة على كلامي وأسردها لكم:
1- المكان الذي ولد فيه التفتازاني قرية تفتازان والمنطقة شافعية في الأصل، وهذا الأمر مهم، وقد وضعت خريطة وفيها أسماء المدن التي ستواجهنا في هذا البحث لكي يسهل على القارئ التتبع، وتفتازان تتبع مدينة نسا المشهورة، وهذه المنطقة قد نص المقدسي في كتابه <أحسن التقاسيم> على أنها شافعية، قال بالنسبة لإقليم خراسان والذي منه العلامة السعد:
“والغلبة في الإقليم لأصحاب أبي حنيفة، إلا في كورة شاش، وإيلاق، وطوس، ونسا، وأبيورد فإنهم شفعوية كلهم…” اهـ
إضافة إلى أن تفتازان وراء نسا فهي أوغل في بلاد الشافعية، لأن بلاد الحنفية تبدأ بشكل ظاهر شمال نسا في بلاد خوارزم وهم حنفية كما نص صاحب <مراصد الاطلاع> (ت 739 هـ) إلا مدينة واحدة.
وتفتازان أيضا على مقربة من شروان وهذه منطقة في الغالب شافعية أيضا. ومعلومات المقدسي تطابق واقع التراجم في زمن التفتازاني بشكل كبير، فإن تلميذ السعد حسام الدين الأبيوردي، شافعي المذهب (راجع الضوء اللامع للسخاوي) من مدينة أبيورد التي نص المقدسي على أنها تتبع المذهب الشافعي.
2- اتفاق المترجمين الذين نسبوه إلى مذهبٍ، على نسبته إلى المذهب الإمام الشافعي إلى نهاية القرن العاشر الهجري، باستثناء ابن تغري بردي فقد نسبه إلى المذهب الحنفي، وكلامه لا يعتمد عليه لكثرة شذوذاته وأخطائه في تراجمه، وقد أخطأ في ترجمة السعد حيث نص على ولادته سنة 712 هـ متابعا في ذلك المقريزي، وهذا مخالف لما حكاه حفيده ولما هو موجود على تابوته، ومخالف لكلام المؤرخين المحققين، ومن هؤلاء الحافظ السخاوي والذي أدرك طلبة السعد بمصر وطلبة طلبتهم وطلبة السيد الشريف أيضا، وقد نسبه السخاوي إلى المذهب الشافعي والسخاوي وزنه ثقيل لدى المهتمين بالتراجم والطبقات، ووافقه على ذلك السيوطي، وممن نص أيضا على شافعيته طاشكبري زاده (مفتاح السعادة) والكفوي (كتائب أعلام الأخيار) وقد نزل في بلادهما بلاد الروم العديد من مدرسة السعد وطلبة طلبته مثل العلاء الطوسي وغيره.
3- توافق طلبة طلبته في بلدان مختلفة نزل فيها تلاميذ السعد على نسبته إلى المذهب الشافعي، ففي مصر الإمام البقاعي، وهو تلميذ العلامة الشمس القاياتي (ت 850 هـ)، وهو تلميذ العلاء البخاري وفي الأغلب لقي غيره أيضا، تلميذ السعد التفتازاني.
نسب البقاعي التفتازاني إلى المذهب الشافعي في مقدمة حاشيته <النكت والفوائد> على شرح العقائد النسفية، وقد فرغ من مسودته (كما نص على ذلك في نهاية كتابه) سنة 846 هـ أي بعد وفاة التفتازاني بأقل من ستين سنة، ونص البقاعي عليه أيضا في تفسيره <نظم الدرر>.
وفي بلاد الروم والدولة العثمانية، نص عليه المولى خسرو (ت 885 هـ) ، وشيخه العلامة برهان الدين حيدر (راجع الضوء اللامع) تلميذ السعد التفتازاني، في حاشيته على المطول، قال: “قوله (ولا يبعد على المذهب الصحيح) يريد الإمام الشافعي فإن الشارح شافعي المذهب.” اهـ
ووافقه المولى حسن جلبي حفيد الشمس الفناري (ت 886 هـ) صاحب الحاشية الشهيرة على شرح المواقف، أيضا في حاشيته على المطول (استفدت كلام حسن جلبي من اللكنوي في الفوائد البهية).
4- قرائن من كلام السعد نفسه، القرينة الأولى كلامه في المطول، فإنه في أثناء كلامه في مسألة، قال: “ولا يبعد على المذهب الصحيح، وهو كون التسمية من السورة…” اهـ
قصد بـ “السورة” سورة العلق، ومعلوم أن التسمية جزء من كل سورة سوى سورة براءة في المذهب الشافعي فقط من بين المذاهب الأربعة.
قوله في شرحه (البعض يسميه حاشية) للكشّاف وهو آخر كتبه:
“ومعنى في الحج: في وقت الحج؛ إذ نفس الفعل لا يصلح ظرفا، لكن عند أبي حنيفة المراد أشهر الحج، حتى يصح قبل إحرام الحج، وعندنا وقت الإتيان بأفعال الحج، وفي أثناء أفعاله، فلا يصح قبل الإحرام به” اهـ
قوله: “وعندنا” أي الشافعية كما هو معلوم.
(استفدته أولا من مقدمة <المسائل الأصولية المتعلقة بالبلاغة العربية في كتب التفتازاني> للفيفي ، ثم رأيته في المخطوط)
قوله في <شرح المقاصد> في السمعيات: “إذ كل مجتهد مصيب في الفروع عندنا، ومن قال أن المصيب واحد فهو غير متعين عنده” اهـ
قد نسب المذهب الثاني الذي لم يختاره إلى الحنفية في <التلويح> وصوّبه عندما كان يتكلم بلسانهم فيه (بغض النظر عن صحة نسبة هذه الأقوال إلى أصحابها)
وقد علّق الناسخ أحمد بن حمزة القرماني في نسخة قديمة لـ <شرح المقاصد> تعود إلى عام 872 هـ على قول التفتازاني “عندنا” ، بقوله:
“أي عند الشافعي، وفيه إشارة إلى أن التفتازاني شافعي” اه
ـ
ونقلت هذا التعليق أيضا من مخطوطة متأخرة (أرفقت الصور لمن أرادها).
وغير ذلك من القرائن الكثير، ففي شرح الكشاف ينتصر السعد في الغالب للشافعية في مسائل متعددة، وكذلك في كتبه الكلامية نجده ينتصر للأشعرية ويميل إليهم ولا يخفى ارتباط الأشعرية بالمذهب الشافعي، ومن تلك المسائل التي هي متجاذبة بين الفقه والعقائد، مسألة الاستثناء في الإيمان، فنجد التفتازاني يجوّزه ويستند إلى الشافعي وغيره، بينما الحنفية كما هو معلوم يفزعون من ذلك وينصون في كتبهم الفقهية على خلافه مع التشديد في هذه المسألة، حتى أن حفيد السعد أحمد بن يحيى الهروي لم يستسغ رأي جده في هذه المسألة (أرفقت كلامه من أحد حواشيه) وعدها مخالفة لمذهب القوم (الحنفية).
ومن أسباب خطأ منشوري السابق أنني أعطيت ميل الحفيد الظاهر إلى مذهب أبي حنيفة وتمذهبه به وانتصاره له وزنا كبيرا في تحديد مذهب جده، وفي الحقيقة أن هذا لا يدل على موافقته لمذهب جده الأصلي، فالحفيد مولود في بلاد الحنفية فمن الطبيعي (وأسرته على كل حال متقنة للمذهبين) أن يميل أكثر إلى مذهب البلاد التي ولد فيها ونشأ، فالحفيد يرد على المخالفين للحنفية في كثير من المسائل العقدية والفقهية، هذا مع اهتمامه بالتعليق على أكثر من كتاب حنفي في الفروع، وفي الأصول كذلك، بينما لا نجد أي اهتمام له بكتب الشافعية على الإطلاق سوى الإطلاع والنقل منها على خلاف جده الذي ألّف في مذهب الشافعي وانتصر له كثيرا.
وحواشي الحفيد على جده توحي بأنه مخالف له في المذهب، ومن القرائن الدالة على ذلك أن الحفيد لم يذكر مذهب جده ولو لمرة واحدة، هذا مع توافر الدواعي لذلك (خاصة في حاشيته على التلويح لجده)، ومع أنه قد أشار مرات عديدة إلى مذهب الحنفي لأصحاب المتون، وهذا ليس له سبب وجيه في ظني إلا لعلمه وعلم غيره بأن مذهب جده في الأصل هو المذهب الشافعي وأنه كثيرا كان ما ينتصر لهم.
بعد كل هذه القرائن الدالة على شافعية التفتازاني، كيف نضع جهوده في المذهب الحنفي في سياقها المناسب؟
في ظني وبكل بساطة، الإمام السعد لظروف معينة اشتغل بالتدريس والتعليم في بلاد حنفية مثل بلاد خوارزم وما وراء النهر، فمن الطبيعي جدا أن يشتغل بالفقه الحنفي حتى لو كان شافعيا في الأصل، ويجب أن يعلم أن مثل حالته من أهالي فارس وخراسان في التمكن من المذهبين كثير.فبسبب غلبة الحنفية على تلك البلاد التي درّس بها السعد وألّف فيها أكثر كتبه، مع تمكنه في المذهب الحنفي، قام بشرحِ كتبهم بلسانهم في الغالب، واهتم بتدريسها وإفادة الطلبة منها، لكن تجد مع ذلك آثار شافعيته واضحة، فهو في التلويح كثيرا ما ينتصر للشافعية، قال الإمام المحقق العطار في حاشيته على شرح جمع الجوامع: “وفيه تأييد لما ذكره كثير كالسيوطي فى طبقات النحاة من أن السعد التفتازاني شافعي المذهب، وكلامه فى حاشية التلويح يؤيد ذلك فإنه كثيرًا ما ينتصر للشافعية، وأما السيد فحنفي باتفاق” اهـ
وكذلك في شرح العقائد يميل وينتصر للأشعرية في أكثر من مسألة مع أن المتن في عقائد الحنفية.
ومن الأدلة كذلك على كونه شافعي الفروع في الأصل، أنه في الكتب التي لا يتكلم فيها بلسان أحد، ينتصر كثيرا لمذهب الشافعية ويقرره، كما في <المطول> وقد رأينا كلامه، وفي <شرح الكشاف> و<شرح المقاصد>، وحتى في تآليفه في الفروع عَامَلَ المذهب الشافعي مذهبه معاملة خاصة، فقد ألّف كتابا مفردا فيه وهذه دلالة قوية على تأصله في المذهب وميله إليه، وبالنسبة لفروع الحنفية فلم يقم إلا بجمع الفتاوى وشرح الكتب وهذا يستطيعه من درس وأتقن مذهبا إضافة إلى مذهبه الأصلي، ولكن تأليف المختصرات والمتون لا يقوم به إلا من كان داخل البيت حتى قال في مقدمة <مفتاح الفقه> : “فهذا مختصر في المذهب” هكذا من غير ذكر المذهب الذي ألّف لأجله، فتكون اللام عهدية لمذهبه الذي نشأ عليه ومال إليه طول عمره.
وقد ذكرنا وجود حالات مشابهة لحالة السعد، منها أذكر على سبيل المثال الشيخ ضياء الدين العفيفي القزويني الشافعي (ت 780 هـ)، وقد أخبر المقريزي وهو ممن أدركه وأخذ عنه أن التفتازاني درس عليه قديما
والشيخ ضياء الدين حالة مشابهة ومعاكسة للسعد، فقد نشأ حنفي الفروع والأصول مع إتقان للمذهبين الشافعي والحنفي، وهو مع اشتغاله بالمذهب الشافعي بمصر إلا أنه لم يزل يتعبد الله بمذهب أبي حنيفة مع انتصاره لعقائد الحنفية كما حكى المقريزي في <عقود الدرر>، وممن ترجمه ولقيه ولي الدين العراقي، قال في <الذيل على العبر> ص 481: “وأخبرني أنه كان يفتي على مذهب أبي حنيفة أيضا وكان يستحضره، وكان يقول: أنا حنفي الاعتقاد والعبادات، ربّاني أبي على ذلك، ولذلك كان لا يرفع يديه في ركوع الصلاة وسجودها…” اهـ
قد يقال: لم لا يكون التفتازاني مثل الشيخ ضياء الدين العفيفي؟ أي أنه نشأ حنفيا واشتغل بالمذهب الشافعي.
أقول: هذا لا داعي له بالنسبة للسعد، فإن البلاد التي مكث فيها بعد دراسته الغلبة فيها للحنفية في الأصول والفروع، أقصد بلاد ما وراء النهر وما جاورها مثل خوارزم وغيرها، فلا داعي لأن يشتغل بالمذهب الشافعي هناك فيحسب على الشافعية وهو ليس منهم، إنما الذي تدل عليه القرائن المختلفة المتكاثرة أنه كان شافعي الاعتقاد (أشعري) والفروع، ولد في منطقة شافعية، ولكن اطلع على أصول وفروع الحنفية حتى بلغ المراتب العليا في ذلك، وهذا كما قلنا حصل لكثير من أهل خراسان وفارس كما تدل عليه كتب التراجم.
قد يقال: لكنه اشتغل مبكرا في شبابه بشرح كتب الحنفية في العقائد وأصول الفقه، ومن البعيد تمكنه في مثل هذا السن المبكر بشرح هذه الكتب بهذا الإتقان إلا لو كان حنفيا في الأصل.
أقول: للأسف لم يراجع كثير من الإخوة تواريخ تآليف السعد، فقد ابتدأ تأليف أول كتاب حنفي وهو <التلويح> وعمره 36 سنة، وابتدأ شرحه على العقائد النسفية وعمره 46 سنة (راجعوا تاريخ مصنفات السعد كما أوردها طاشكبري زاده نقلا عن فتح الله الشرواني وغيره)، فهو لم يبدأ شرح كتب الحنفية إلا وقد استوى في عمره وعلمه، وكان لديه مدة كافية لكي يتقن هذه العلوم ولو كانت لمذهب آخر غير مذهبه الذي نشأ عليه.
والله أعلم