كنت كتبت هذا تعليقًا على وصف ابن عوض لابن تيمية بالزندقة في حاشيته على شرح كبرى السنوسي.
———
قال ابن عوض:
(لأن ابن تيمية القادح فيه-أي في الرازي- لم يرضَ حاله كثير من الأيمة لأنه نقل عنه ما يدل على بدعته أو زندقته).
هنا ينتهي كلام ابن عوض وينتقل للتعليق على شيء آخر، ثم هو لا يهتز له جفن وهو يصف إمام أئمة حنابلة زمانه بالبدعة أو الزندقة، والزندقة دالة على النفاق وإبطان الكفر أو هي النفاق.
ولي تعليقات:
أولًا: ابن عوض نشأ في بيت حنبلي، وهو نفسه له تجريد لحاشيتين لوالده على كتابين من كتب الحنابلة، فلا احتمال لأن يكون جاهلًا بتعظيم الحنابلة لابن تيمية إمامهم، وأضعف الإيمان أن يكون قد اطلع على كلام البهوتي في كشاف القناع في ثنائه ومدحه لابن تيمية الذي منه: (وامتُحن بمحن وخاض فيه أقوام حسدًا، ونسبوه للبدع والتجسيم، وهو من ذلك بريء، وكان يرجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين، فكان من أمره ما كان وأيده الله عليهم بنصره، وقد ألف بعض العلماء في مناقبه وفضائله قديمًا وحديثًا -رحمه الله- ونفعنا به).
وابن عوض الأشعري قد نقل في حاشيته عن شرح المنتهى وكشاف القناع في أول واجب، وفي المعرفة ووجوبها بالشرع.
فأنت ترى تبرئة البهوتي لابن تيمية في أول شرحه على الإقناع من البدع والتجسيم، بينما ابن عوض لم يقتنع بذلك وراح ينقل عن اليوسي الأشعري وغيره تلك الفرية العظيمة في حق ابن تيمية.
والملاحظ أن اليوسي كان أكثر أدبًا وديانة في هذا الموضوع من ابن عوض، فإنه حاول التماس عذر-وهو الأشعري المالكي- لابن تيمية فقال: (هو من المشاهير لكن لم يرتضِ حاله كثير من الأئمة ونقلوا عنه أشياء تؤذن ببدعته أو بزندقته أو بعداوته للدين وأهله، فلا يلتفت إلى قوله، {ولعل ذلك لم يثبت عنه} والله أعلم). حاشية اليوسي 1/237.
وهذا الموضع من شرح السنوسي ستجد المحشين يقعون في ابن تيمية ويتهمونه بالزندقة، كما فعل الدسوقي مثلًا حيث قال: ( تقي الدين ابن تيمية، الحنبلي المشهور ولم يرض حاله المحققون، بل هو زنديق، وبغضه في الدين وأهله لا يخفى فلا عبرة بكلامه في الفخر).
أقول: وقد كان الواجب على ابن عوض الذي نشأ في بيت حنبلي أن يدعوه هذا الهجوم الظالم على ابن تيمية أن يدافع عنه، فما كان منه إلا أن نقل عنهم ولم يلتمس له أي عذر.
ثانيًا: قد يُقال: إن ابن عوض قد ألف هذه الحاشية في مقتبل عمره قبل أن يشتد عوده الحنبلي، وتحت وطأة وتأثير مشايخه الأشعرية لم يسعه إلا أن يتابعهم على كلامهم في ابن تيمية وفي أئمة مذهبهم ممن يسمونهم الحشوية، فربما رجع عن ذلك مثلًا في كتبه الأخرى؟
أقول لك: للأسف إن حاشيته هذه قد ألفها في أواخر عمره، وهي آخر ما ألف من كتبه التي نعرفها، فقد انتهى من (تبييضها) وتأمل في كلمة (تبييضها)، أقول انتهى من تبييض حاشيته التي وصفها بأنها تقييد مبارك في 23 من ربيع الأول سنة 1182.
فهو قد ألفها في تمام نضجه العلمي، ومن يقرأ الحاشية يعرف ذلك.
ثالثًا: إن قال قائل: لعل ابن عوض كان مقصده مجرد جمع وبيان لمراد السنوسي في شرحه على كبراه، ولم يكن يعقتد ما نقله في حق ابن تيمية، وفي أئمة الحنابلة من شتم وسوء أدب، ومن تقرير للعقائد الضالة والانتصار لها.
فالجواب على هذا الكلام المهترئ بالآتي:
1- ابن عوض لم يكن صنيعه مجرد تجريد لكلام شيوخه ولا إيضاح لما أبهم مثلًا في عبارة السنوسي، بل إن ابن عوض الأشعري قد سلك مسلك الناقد المناقش للسنوسي في حاشيته، يوافقه حينًا ويعترض عليه حينًا، ويصف كلامه بالتناقض في مواضع، وبالركاكة في مواضع أخرى، وبأن كلامه في غاية الإشكال ولا جواب عنه، وأن عبارته قلقة التركيب وأمثال ذلك.
وهو في حاشيته ينقل ويناقش ويصحح ويضعف، فينقل عن المنجور وعن اليوسي والعكاري ومجدولي على الصغرى واللقاني في كبيره على الجوهرة والشمسية ومختصر السنوسي في المنطق، وغيرها كثير، وإن كان عامة مناقشاته هي نقل لردود بعض على بعض.
2- مثال على هذا عندما اختار السنوسي القول بتكفير المقلد في أصل الدين، لم يوافق ابن عوض على هذا ووصف عبارة السنوسي بالشدة، لكنه وصفه بأدب، ويا ليت شعري أين كان هذا الأدب مع شيخ الإسلام ابن تيمية، ونص عبارة ابن عوض في انتقاد السنوسي في هذا الموضع: ( وهذا تشديد كثير من الشيخ رحمه الله تعالى ونفعنا به على المقلد).
ثم إنه حاول التماس العذر للسنوسي فقال: (ويقال إن كبراه هذه هي أول ما ألف من عقايده وقد رجع في شرح الصغرى والمقدمات عن هذا التشديد فراجعه).
فليت شعري أين كان التماس هذه الأعذار لابن تيمية عندما وصفه بالبدعة أو الزندقة دون تقديم أي عذر.