“إذ لو قيل لها في تلك الحالة: الله تعالى يستحيل عليه المكان والزمان، لخيف عليها أن تعتقد النفي الْمَحْض والتعطيل؛ إذ ليس كل عقل يقبل هذا، ويعقله على وجهه، بل إنما يعقله العالمون الذين شرح الله صدورهم لهدايته، ونوّر قلوبهم بنور معرفته، وأمدّهم بتوفيقه ومعونته، وأكثر الخلق تغلب عليهم الأوهام، وتَكِلّ منهم الأفهام”
كلام نفيس للحافظ أبي العباس القرطبي رحمه الله حول حديث الجارية ….
وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي (ت656هـ) في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه: وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله هذا السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُظهر منها ما يدلُ على أنها ليست ممن يعبُدُ الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض، فأجابت بذلك وكأنها قالت إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض. وأين ظرف يسأل به عن المكان كما أن متى ظرف يُسأل به عن الزمان ـ وهو مبنيٌ لما تضمنه من حرف الاستفهام وحُرّك لالتقاء الساكنين وخُصَّ بالفتح تخفيفا وهو خبرُ المبتدأ الواقع بعده ـ وهو لا يصحُّ إطلاقه على الله تعالى بالحقيقة إذ الله تعالى منـزه عن المكان كما هو منـزه عن الزمان بل هو خالق الزمان والمكان ولم يـزل موجودا ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان. ولو كان قابلا للمكان لكان مُختصا به ويحتاج إلى مخصص ولكان فيه إما متحركا وإما ساكنا وهما أمران حادثان وما يتصف بالحوادث حادث على ما يُبسط القول فيه في علم الكلام ولَمَا صَدَقَ قوله تعالى: {ليس كمثله شئ} إذ كانت تماثله الكائنات في أحكامها والممكنات في إمكانها وإذا ثبت ذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أطلقه على الله بالتوسُّع والمجاز
لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم، الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم، فأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتعرّف منها: هل هي ممن يعتقد أن معبوده في بيت الأصنام، أم لا؟ فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، فقنع منها بذلك، وحكم بإيمانها؛ إذ لم تتمكن من فهم غير ذلك. وإذ نزَّهت الله تعالى عن أن يكون من قبيل معبوداتهم وأصنامهم، ورفعته عن أن يكون في مثل أمكنتهم، وحملها على ذلك: أنها رأت المسلمين يرفعون أبصارهم وأيديهم إلى السماء عند الدعاء، فتُركت على ذلك في تلك الحال لقصور فهمها، إلى أن يتمكن ففهمها وينشرح صدرها؛ إذ لو قيل لها في تلك الحالة: الله تعالى يستحيل عليه المكان والزمان، لخيف عليها أن تعتقد النفي الْمَحْض والتعطيل؛ إذ ليس كل عقل يقبل هذا، ويعقله على وجهه، بل إنما يعقله العالمون الذين شرح الله صدورهم لهدايته، ونوّر قلوبهم بنور معرفته، وأمدّهم بتوفيقه ومعونته، وأكثر الخلق تغلب عليهم الأوهام، وتَكِلّ منهم الأفهام*[1].
وقيل في تأويل هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألها بأين عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها باين كلَّ مَن نُسبت إليه الإلهية وهذا كما يقال: أين الثريا من الثرا ؟! والبصر من العمى؟! أي بعُدَ ما بينهما واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة على هذا يكون قولها في السماء أي في غاية العلو والرفعة وهذا كما يقال: فلان في السماء ومناط الثريا. وهذا كما قال:
وإن بني عَوفٍ كما قد علمتم مناطُ الثُريّا قد تعالت نُجومها
أقول هذا والله ورسوله أعلم؛ والتسليم أسلم.اهـ
————–
[1] قال وليد ابن الصلاح: قد يستغل مثل هذا النص بعض الوهابية ليزعموا أن هذا يلزم منه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للجارية على الباطل ـ عندكم ـ وهو اعتقاد المكان والتجسيم، فضلا عن أن فيه اعترافا بأن نفي العلو مخالف للفطرة، وقد رأيت فعلا الشيخ عبد الرحمن دمشقية قد نقل في كتابه موسوعة أهل السنة (ص: 695) قولا مماثلا للقرطبي وهو قول العز بن عبد السلام حيث قال في قواعد الأحكام الكبرى ص170 : “اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا سان ولا منفصل عن العالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم”.اهـ ثم نقل نحوه عن الإمام الغزالي ثم علق على ذلك دمشقية بقوله ” فقد اعترف كلاهما – ولله الحمد – بعسر مدارك طريقة أهل الكلام ومخالفتها لما فطر الله عليه البشر”..اهـ
قال وليد: أما الجواب عن الأول: فليس فيه إقرار على باطل لأن كلمة “أين الله”؟ محتمِلة لمعانٍ أصلا وليست متعينة في السؤال على المكان كما قرر الشارح، وكما هو مذهب الخصم نفسه في قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فلم يفهم الخصمُ من “أين” في هذه الآية المكان ولا أنه تعالى في كل مكان.
وكذا قولها “في السماء” أيضا محتمل لمعان عديدة كما فصلها الشارح أيضا، تماما كالاحتمالات الموجودة في آيات الباب كقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } [الأنعام: 3]، فأيضا الخصم هنا لم يفهم من الآية المكان ولا أنه تعالى في كل المكان، وما هو جوابه هو جوابنا.
نعم لو أنها قالت: الله مكانه في السماء وأقرها لأمكن أن يقال: هذا إقرار على باطل حينئذ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
وأما الجواب عن الثاني فلا نسلم أصلا بوجود معلومات فطرية تولد مع الإنسان ومنها الاعتقاد بوجود الله كما يزعم ابن تيمية رحمه الله، بل يولد الإنسان ولا يعلم أي شيء مطلقا بصريح قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78]، غاية ما في الأمر أن العقيدة التي يعتقدها العامي يأخذها من مجتمعه وممن حوله وسيكون حسب مذهبهم وعقيدتهم من أي مذهب أو دين كانوا، وإن كانوا ملحدين فسيكون ملحدا أيضا ـ اللهم إلا إن بحث ونظر وهداه الله ووفقه لاختيار الدين والمذهب الصحيح ـ وهذا شيء مشاهد محسوس لا داعي للاستدلال عليه، ولبسطه موضع آخر.
ثانيا: ليس كل ما لا يدركه العوام فهو باطل، وإلا لبطلت معظم العلوم الإنسانية والتجريبية فضلا عن الدينية لأن العامي ولاسيما الأمّي أو الصغير لا يدرك شيئا منها وإذا حدثته بشيء منها ربما يحسبك تهذي، وإنما تؤخذ العلوم بالتعلم على درجات وفي أوقات مديدة حتى يستطيع إدراكها المتعلم.
ثالثا: نسأل الشيخ دمشقية وأمثاله هل العامي يدرك بأن العالَم قديم النوع أو الجنس، حادث الأفراد؟ وهل يعقل وجود حواث لا أول لها؟ وأنه تعالى على العرش في جهة حسية عدمية؟!! فكيف هي حسية وكيف هي عدمية؟ وأنه تعالى ينزل بذاته من العرش في الليل بنقلة ولا يخلو منه العرش؟ كما يعتقد ابن تيمية، وهل هذه العقائد موافقة للفطرة ؟!!!! فما هو جوابه هو جوابنا. والله الموفق
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/922880317825991/