القضاء والقدر والجبر والاختيار

عن موت ريان وموقف ضعاف الإيمان (منقول)

عن موت ريان وموقف ضعاف الإيمان:
رأينا كثيرًا من الناس يسيء الظن بالله تعالى، ويحمل قضاءه وقدره على عقله، فيجعله حسن فعل الله تابعًا لتحسين عقله، وما استقبحه عقله استقبح تقدير الله له.
وما ذاك حال المؤمن.
واقرأ هذه النقول وتأملها جيدًا، وقد اكتفيت بثلاثة نقول، وإلا فكلام العلماء في هذا لا يحصى كثرة.
١- قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: “عدل الله عز وجل لا يدرك بالعقول، فلأجل ذلك كان من حمله على عقله: جوّره”.
-وشرح بعض أصحابه ذلك، فكان مما قال: مَن حمل الربوبية وصفاتها على عقله: رَجَعَ حسيرًا، ورام أمرًا ممتنعًا عسيرًا، والمخالفون بنوا أصولهم في التعديل والتجوير على عقولهم العاجزة عن درْك الربوبية، ففسد عليهم النظر
والطاعة والمعصية”.
٢- وقال ابن الجوزي:
(أحضر عقلك، واسمع ما أقول:
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك الحق أن يتصرف كيف يشاء!
أليس قد ثبت أنه حكيم، والحكيم لا يعبث!
وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئًا؛ فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال: ما أدري: أحكيم هو أم لا؟
والسبب في قوله هذا: أنه رأى نقضًا بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق، وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى= فليس بحكيم.
وجوابه لو كان حاضرًا؛ أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة؟
أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك؟
وكيف يهب لك الذهنَ الكامل ويَفوته هو الكمالُ؟!
وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس؛ فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله،
فلو تفكر= علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أوفى من كل حكيم؛ لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول.
فهذا إذا تأمله المنصف: زال عنه الشك.
فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى أنفسنا، ونقول: هذا فعل عالم حكيم، ولكن ما يَبِين لنا معناه.
وليس هذا بعجب؛ فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجهُ الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتْل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة؛ أذعن.
فليكن المرء مع الخالق= كموسى مع الخضر!
أوَلسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف، يقطع ويمضغ ويصير إلى ما نعلم!!
ولسنا نملك ترك الأفعال، ولا ننكر الإفساد له؛ لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه؟!
فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه؟!!).
٣- وقال أيضا الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
“من نظر إلى أفعاله بمجرد العقل: أنكر،
فأما من علم أنه مالك وحكيم، وأن حكمته قد تخفى: سلم لما لم يعلم علته بأفعاله مسلمًا إلى حكمته.
وقد قال بعض الحكماء: (من لم يحترز بعقله من عقله= هلك بعقله).
وهذا كلام في غاية الحسن؛ فإنا إذا قلنا للعقل: هو حكيم؟ قال: لا شك في ذلك؛ لأني قد رأيت عجائب أفعاله المحكمة، فعلمت أنه حكيم،
فإذا رأيتُ ما يصدر مما ظاهره ينافي الحكمة: نسبتُ العجز إليّ.
ولو لم يكن في ذلك إلا أن المراد تسليم العقول لِما ينافيها، وذلك عبادة العقول!
وصار هذا كما خفي عن موسى حكمة فعل الخضر،
وقد يخفى على العامي ما يفعله الملك، فقد قال المتنبي:
يدق عن الأفكار ما أنت فاعل”.
ثم قال:
“اعلم أن من طلب أفعاله من حيث العقل المجرد، فلم يجد: يعترض، وهذه حالة قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال!
أولهم إبليس؛ فإنه نظر بمجرد عقله، فقال: كيف يفضل الطين على جوهر النار؟!
وفي ضمن اعتراضه: أن حكمتك قاصرة، وأن رأيي أجود!!
فلو لقيتُ أنا إبليس كنت أقول له: حدثني عن فهمك هذا الذي رفعت به أمر النار على الطين؛ أهو وهبه لك، أم حصل لك من غير موهبته؟ فإنه سيقول: وهب لي، فأقول: أفيهبك كمال الفهم الذي لا تدركه حكمته، فترى أنت الصواب، ويرى هو الخطأ؟!
وتبع إبليسَ في تغفيله واعتراضه خلقٌ كثير، مثل ابن الراوندي، والمعري، ومن قوله:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل … وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ … رأى منك ما لا يشتهى فتزندقا


ورأيت آخر يتزيا بالعلم، إذا ضاق عليه رزقه يقول: أيش هذا التدبير؟!
وعلى هذا كثير من العوام؛ إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما قالوا: ما تريد نصلي!
وإذا رأوا رجلًا صالحًا يؤذَى قالوا: ما يستحق، قد حاف القدر.
وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة، فقال بعض من يتزيا بالدين: هذا حكم بارد!
وما فهم ذاك الأحمق أن الله يملي للظالم.
وفي الحمقى من يقول: أي فائدة في خلق الحيات والعقارب؟!
وما علم أن ذلك أنموذج لعقوبة المخالف. وبلغني عن بعض من يتزيا بالعلم أنه قال: اشتهيت أن يجعلني وزيرا فأدبر!!
وهذا أمر قد شاع، فلهذا مددت النفس فيه.
واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا، وعلا على الخالق بالتحكم عليه..
وهؤلاء كلهم كفرة؛ لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة،
وإذا كان توقف القلب عن الرضا بحكم الرسول ﷺ يخرج عن الإيمان؛ قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)= فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على الله تعالى؟!
وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم، فقال: وارحمتي لك، واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك!
فقال له ابن عقيل: إن لم تقدر على حمل هذا الأمر لأجل رقتك الحيوانية، ومناسبتك الجنسية: فعندك عقل تعرف به تحكم الصانع، وحكمته توجب عليك التأويل، فإن لم تجد= استطرحت لفاطر العقل، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك.
واعلم: أن رضا العقل بأفعال الخالق سبحانه وتعالى أوفى العبادات وأشدها وأصعبها”.
ثم ذكر كلام ابن عقيل وفيه:
“وقد نبهنا على العجز عن ملاحظة العواقب، فقال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم).
ففي عقولنا قوة التسليم، وليس فيها قدرة الاعتراض عليه.
وقد يدعو الإنسان فلا يجاب، فيندم، وهو يدعَى إلى الطاعة فيتوقف= فالعجب من عبيد يقتضون الموالي اقتضاء الغريم، ولا يقتضون أنفسهم بحقوق الموالي!”.

الرواق المنهجي والحنبلي( بإشراف الشيخ محمد عبد الواحد الأزهري الحنبلي).

السابق
القرافي: “والمصنفون لنفوسهم أحوال من القبض والبسط، بحسب عوارض الدنيا”
التالي
الأشعري في مناظرته للجبائي:.. لِأَن طريقى فى مَأْخَذ أَسمَاء الله الْإِذْن الشرعى دون الْقيَاس اللغوى فأطلقت حكيما لِأَن الشَّرْع أطلقهُ ومنعت عَاقِلا لَان الشَّرْع مَنعه