لأن حديث الجارية الذي اعتمدتم عليه في ذلك قد قيل إنه مروي بالمعنى لأنه روي بعدة روايات و”اختلفت ألفاظه”([1]) فقد روي بلفظ “من ربك”، وبلفظ “أتشهدين أن لا إله إلا الله” كما سيأتي، وروي أن الجارية كانت خرساء([2])، وقيل كانت أعجمية حيث جاء في بعض الروايات “جاء رجل إلى رسول الله بجارية أعجمية.. فقال لها رسول الله أين الله فأشارت إلى السماء “([3]) وبلفظ “بجارية سوداء لا تفصح .. فأشارت بيدها“([4])، وبلفظ “بجارية عجماء لا تفصح“([5])، وروي بلفظ “فمدّ النبيُ صلى الله عليه وسلم يده إليها وأشار إليها مستفهما من في السماء؟ قالت: الله”([6])، وبالتالي يكون لفظ “أين الله.. قالت في السماء” هو “لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم”([7])، “وقد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما تراه من الاضطراب“([8]) وبالتالي فقد أعل بالاضطراب في المتن([9]) وفي السند أيضا([10])، وأُعلّ بعلل أخرى([11])، ومنهم من شكّك في إخراج مسلم له أصلا([12]).
ولكن السلفية جادلوا في كل ذلك([13]) وتمسكوا بالحديث وبلفظ “أين الله” حتى قال الألباني بأن الحديث “صحيح بلا ريب، لا يشك في ذلك، إلا جاهل أو مغرض من ذوي الأهواء”([14]) بل زعم أن لفظة “أين الله” من” المتفق على صحتها بين المحدثين“([15])، بيد أن هذا لم يسلّم للألباني فانبرى للرد عليه آخرون في كتب مفردة ([16]).
ولسنا في معرض الأخذ والرد في حديث الجارية وما قيل فيه سندا ومتنا، رواية ودراية فقد “تكلم الناس عليه قديماً وحديثاً؛ والكلام عليه معروف”([17]) طويل الذيل، ولا هو محل بحثنا هنا، وإنما المقصود أن هذا الحديث مع كل هذه العلل وهذا الجدل الذي دار حوله تمسكتم به للقول بأن عبارة “أين الله.. قالت في السماء” دليل على إيمان صاحبها، فكان من باب أولى أن تكون عبارة “ربنا الله” دليلا على إيمان صاحبها لأن هذه العبارة جاءت في ثلاث سور وهي الحج وفصّلت والأحقاف وكلها جاءت في سياق الثناء على قائلها أجمل الثناء وأعطره كما سبق، ولا مجال للطعن فيها بمثل تلك الطعون التي قيلت في حديث الجارية بالقول مثلا بأن تلك الآيات الثلاثة مضطربة أو مروية المعنى أو مطعون في رواتها أو نحو ذلك، بل هي آيات متواترة شأنها شأن تواتر القرآن كله، فهي ثابتة قطعا ولا مجال للشك فيها أصلا، أما أن تتمسكوا بحديث الجارية وبلفظ معين منه وبفهم معين ثم تقولوا بأن من ينكر ما دل عليه “فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم”([18]) مع كل ما قيل فيه، ثم تتركوا وتنكروا دلالة ثلاثة آيات صريحات دلت على أن قائل ربنا الله من التوحيد والإيمان والجنة، بل تصفون من قال بموجب تلك الآيات وجعل عبارة “ربنا الله” إيمانا أو فسّر كلمة التوحيد بذلك بأنه قد بلغ الغاية القصوى من الضلال و”الجهالة والعماية”[19]، وأنه قد “ارتكب حمقا جليا“[20]!! فهذا من أعجب العجب الذي لم نسمع به قط..!!!
([1]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل للعلامة الكوثري (ص: 109).
([2]) مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (ص: 160)ط/ عالم الكتب، أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدي (2/ ، 44، 47، 48، 111)، ط دار الكتب بالقاهرة.
([3]) التوحيد لابن خزيمة، ت عبد العزيز الشهوان (1/ 285)
([4]) التوحيد لابن خزيمة (1/ 285)
([5]) التوحيد لابن خزيمة(1/ 286)
([6])العلو للعلي الغفار للذهبي (ص: 15)، ط أضواء السلف. وانظر رفع الغاشية عن التأويل والمجاز وحديث الجارية لنضال آل رشي ص174.
([7]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل للعلامة الكوثري (ص: 109)، وانظر رفع الغاشية ص174.
([8]) حاشية الكوثري على الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 390)، رفع الغاشية ص172.
([9])رفع الغاشية ص172، تنقيح الفهوم العالية (ص: 3، و8) .
([10]) وذلك لأن مالكا رواه عن عمر بن الحكم وهو تابعي لا صحابي، وباقي الرواة يروونه عن الصحابي معاوية بن الحكم، وكان مالك يصرّ على أنه عمر لا معاوية، و”هذا اضطراب في السند” انظر رفع الغاشية ص171.
([11]) فأُعلّ حديث الجارية فضلا عما سبق:
- أن فيه يحيى ابن أبي كثير وهو مدلس وقد عنعن. انظر حاشية الكوثري على الأسماء والصفات (ص: 390).
- وبأن عطاء بن يسار تفرد به. نفس المرجع السابق (ص: 390).
- وبأن في إسناده هلال بن أبي ميمونة الذي يقول فيه أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه، ومثل هذا ينزل حديثه إلى الحَسن إذا سلم من الاضطراب والنكارة. انظر رفع الغاشية ص179، تنقيح الفهوم العالية ص9.
- وأعلّ وبأن مالكا رواه بلفظ “وعليّ رقبة فأعتقها؟”، ورواية مسلم تختلف لأن فيها أنه إنما أعتقها تبرئة لذمته من ضربها ليكافئ الضرب بالعتق فقد رواها بلفظ “فعظم ذلك علي قلت : يا رسول الله أفلا أعتقها”، ولكن على هذه الرواية لا يشترط الإيمان كما هو ظاهر، فما وجه قوله في رواية مسلم “فإنها مؤمنة” مع أن هذا اللفظ لم يذكر في أكثر الروايات بل في رواية عبد الرزاق “أعتقْ أو أمسكْ”.. “وهذا اضطراب في المتن كما لا يخفى”. انظر رفع الغاشية ص172.
([12]) محتجا بقول البيهقي: “أخرجه مسلم ..دون قصة الجارية وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه. وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث”. قال الكوثري: “قصة الجارية مذكورة فيما بأيدينا من نسخ مسلم، لعلها زيدت فيما بعد إتماما للحديث أو كانت نسخة المصنف ناقصة، وقد أشار المصنف (أي البيهقي) إلى اضطراب الحديث بقوله: وقد ذكرت في كتاب الظهار..” . قال السقاف“فالبيهقي يرى بكل صراحة ووضوح بأن قصة الجارية ليست في صحيح مسلم، ونسخة البيهقي لم يشترها من المكتبة الفلانية أو المكتبة الفلانية إنما هي نسخة قرأها على مشايخه الحفاظ فينبغي التنبه إلى هذا جيدا” انظر: الأسماء والصفات للبيهقي بتحقيق الحاشدي (2/ 326)، وبتحقيق الكوثري (ص: 391)، ورفع الغاشية لآل رشي ص181، وتنقيح الفهوم العالية للسقاف (ص: 20).
([13]) انظر تعليق الحاشدي محقق الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 326)
([14]) مختصر العلو للعلي العظيم للألباني (ص: 82)
([15]) مختصر العلو للعلي العظيم للألباني (ص: 82)
([16])رفع الغاشية لآل رشي ص178 وما بعدها، تنقيح الفهوم العالية للسقاف (ص: 8) وما بعدها.
([17]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل للتقي السبكي (ص: 112).
([18])مختصر العلو للعلي العظيم (ص: 81)
[19] جهود علماء الحنفية (1/ 204).
[20] عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 3 / 180