تفنيد الاعتداد
بغرائب ابن خويزمنداد
تأليف
الأزهري
عفا الله عنه
1424هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، والصلاة والسلام على من جاءت شرعته بحد السارق والمارق ، وعلى آله وصحبه وبعد ..
فمنذ أن كتب أحد المبتدعة كتابه في الطعن على أهل السنة، والحشوية مغرمون بالنقل من كتابه، على كثرة عاطله وباطله، وزيفه وخلله، وإن من الباطل الذي أكثر أهل الحشو من نقله عنه : كلمة منسوبة لأحد علماء المالكية يقال له ابن خويزمنداد، ففرحوا بها ـ وأساؤوا فهمها ـ وتركوا سائر أئمة المالكية وعلماءهم لا يقيمون لهم وزنا !! وقد تجدد من أحد أهل الحشو نقل كلام ابن خويزمنداد هذا، فكان لا بد من مقال يوضح الأمر ويزيل الإشكال، حتى لا يضلوا العوام، فننقل كلام هذا الحشوي ثم ننقضه عليه بحول الله تعالى وطوله لا بحولنا ولا بقوتنا، متوكلين عليه تعالى فنقول : قالت الحشوية :
روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداذ أنه قال في كتاب الشهادات شرحاً لقول مالك : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء ، وقال :
(( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً ، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها ))اهـ.
هذا ما نقله الحشوي، فما هي مصداقية هذا القول وذلكم الادعاء يا ترى ؟؟.
سنناقش هذا النقل في مباحث:
الأول : التعريف بابن خويزمنداد.
الثاني : مدى صحة القول المعزو إليه.
الثالث : معنى القول المعزو إليه.
الرابع : موقف ابن عبد البر من كلام ابن خويزمنداد.
الخامس : موقف علماء المالكية عموما.
السادس : مفهوم هذا القول عند الحشوية وبيان تناقضهم.
ثم الخاتمة.
المبحث الأول (التعريف بابن خويزمنداد)
ترجمته في ترتيب المدارك للقاضي عياض2/606
(( أبو بكر بن خويزمنداد رحمه الله
ويقال خوين منداد، إذ كذا كناه أبو إسحق الشيرازي، وسماه محمد بن أحمد بن عبدالله. ورأيت على كتبه تكنيته بأبي عبدالله، وفي نسبته : محمد بن أحمد بن علي بن إسحق، وقال الشيرازي أيضا : تفقه بالأبهري. وسمع الحديث، يروي عن أبي [ بكر بن ] داسة، وأبي الحسن التمار، وأبي الحسن المصيصي، وأبي إسحق التجيبي، وأبي العباس الأصم، وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وأحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك، وله اختيارات وتأويلات على المذهب في الفقه والأصول لم [ يعرج ] عليها حذاق المذهب، كقوله في بعض ما خالفه فيه من الأصول : أن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار، [ وإن خبر الواحد ] يوجب العلم، وفي بعض مسائل الفقه حكايته عن المذهب : أن التيمم يرفع الحدث، وأنه لا يعتق على الرجل سوى الآباء والأبناء، ولم يكن بالجيد النظر، ولا بالقوي الفقه، وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي، قال : إني لم أسمع له في علماء العراق بذكر. وكان يجانب الكلام جملة، وينافر أهله، حتى تعدى ذلك إلى منافرته المتكلمين من أهل السنة، وحكم على الكل بأنهم من أهل الأهواء الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وعيادتهم وجنائزهم ما قال . رحمه الله )) اهـ.
ترجمته عند الذهبي والحافظ ابن حجر في لسان الميزان5/329
(( محمد بن علي بن إسحاق بن خويزمنداد ويقال خوازمنداد الفقيه المالكي البصري يكنى أبا عبد الله، هذا الذي رجحه عياض، وأما الشيخ أبو إسحاق فقال في الطبقات: محمد بن أحمد بن عبد الله بن خوازمنداد، يكنى أبا بكر، تفقه بأبي بكر الأبهري، وسمع من أبي بكر بن داسة، وأبي إسحاق الهجيمي، وغيرهما، وصنف كتبا كثيرة منها: كتابه الكبير في الخلاف، وكتابه في أصول الفقه، وكتابه في أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك، واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب، كقوله: إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار، وإن خبر الواحد مفيد العلم، وإنه لا يعتق على الرجل سوى الآباء والأبناء. وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي، ولم يكن بالجيد النظر، ولا بالقوي في الفقه، وكان يزعم أن مذهب مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم، ولا يجوز شهادتهم، ولا مناكحتهم، ولا أمانتهم، وطعن ابن عبد البر فيه أيضا، وكان في أواخر المائة الرابعة ))اهـ.
ترجمته عند الإمام الشيرازي في الطبقات ص157
(( ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله المعروف بابن كواز، تفقه بأبي بكر الأبهري، وله كتاب كبير في مسائل الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وله أحكام القرآن )) اهـ.
ومع ما ترى من اختلاف في اسم ابن خويزمنداد عند الشيرازي ـ حتى كأنه شخص آخر ـ إلا أن عياضا يؤكد على أن الشيرازي قد ذكره في طبقاته، ولولا هذا لظننته شخصا آخر، وكذلك الذهبي قال في تاريخ الإسلام في وفيات 390هـ ما نصه : (( وذكره أبو إسحق في الطبقات فقال فيه المعروف بابن كواز )) اهـ .
وذِكْر وفاته عند الذهبي في وفيات سنة 390هـ تقديري كما يتضح من اللسان.
[ فائدة في ضبط خويزمنداد ]:
قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط 1/291 ط دار الحديث :
(( وخُوَيْزِمَنْدادُ بضم الخاء وكسر الزاي وفتح الميم وسكون النون والد الإمام أبي بكر المالكي الأصولي )) اهـ.
هذا ما ذكره المترجمون لابن خويزمنداد، وليس عند الذهبي ولا الصفدي ولا ابن فرحون في الديباج ولا ابن مخلوف في شجرة النور ولا غيرهم زيادة على الذي هنا.
فإن قال قائل :
فما تقولون فيما قاله القاضي عياض في مقدمة ترتيب المدارك ونصه1/51 :
(( وكذلك ذكر ـ [يقصد الإمام الباجي] ـ في ابن خويزمنداد وهو في شهرته وكثرة تصانيفه ـ حيث لا يذكر ـ أنه مجهول، وقال أن أحداً من أئمتنا البغداديين لم يذكروه، وهذا الشيرازي قد ذكره في كتابه، وهذا أبو محمد عبد الوهاب يحكي عنه ويقول فيه : قال أبو عبد الله البصري..))اهـ.
أفلا يتعارض القول بشهرته هنا مع ما تقدم في ترجمته ؟؟.
قلنا : هذا لا يتعارض مع ما تقدم ذكره في ترجمته، فالقاضي عياض الذي قال ما قال في المقدمة، هو الذي ترجم لابن خويزمنداد بما تقدم، فهو صاحب القولين، ولا تعارض بينهما، لأن كلام عياض في المقدمة هو اعتراض على دعوى (جهالة) ابن خويزمنداد، بينما كلامه في الترجمة فيما بعد لا علاقة له بدعوى الجهالة، بل بكون ابن خويزمنداد وإن كان معروفا ومذكورا لكنه قليل الشأن، خفيف الوزن، عفا ذكره، واندثر خبره، وانطفأت شهرته، وليس في ترجمته ما يعليه ويرفعه إلى درجة كبار أئمة المذهب، هذا مقصود عياض، ألا ترى أن عياضا قال : (حيث لا يذكر ـ أنه مجهول) ! يريد الاعتراض على دعوى الجهالة لعدم العلم بذكره، وأن كون الإمام الباجي لم يسمع لابن خويزمنداد بذكر لا يعني أنه مجهول، فبين عياض أنه مذكور عند الشيرازي وعبدالوهاب المالكي، فليس من عفا ذكره، وزالت شهرته بالمجهول ضرورة، هذا مراد عياض كما هو واضح، وانظر ترجمة أبي سعيد القزويني في الترتيب2/604ففيه ما يؤيد هذا، وليس دفع الجهالة عن ابن خويزمنداد بنافعه شيئا، لأنه وإن كان غير مجهول إلا أن عياضا وغيره بينوا أنه ضعيف الفقه والنظر، كثير الشذوذ والمخالفة، وقد زال ذكره حتى جهله الباجي. فهل من أجل هذا الضعف ذكره الذهبي والحافظ ابن حجر في اللسان أم من أجل الجهالة تقديما لقول الباجي فيه؟؟ الظاهر عندي أنه من أجل ضعفه لا جهالته.
فإن قال قائل:
ما قولكم في كلام العلامة محمد بن عبدالرحمن الغزي الشافعي المتوفى سنة 1167هـ في ديوان الإسلام ونصه : (( ابن خويزمنداد: محمد بن أحمد بن عبد الله، الإمام العلامة شيخ المالكية أبو بكر البغدادي، له مصنفات في الفقه والأصول توفي سنة 390 )) اهـ .
فالجواب : هذا فيه عدة ملاحظات منها أن شيخ مشايخنا الإمام الغزي من متأخري مشايخ الشام جدا، وقصاراه النقل، فكأنه أحب أن يمطط الترجمة بالألقاب الشائعة في عصره، فلم يسلم من المبالغة، وإلا فإن ابن خويزمنداد بصري وليس بغداديا، كما أن وفاته هذه تقديرية باتفاق، ولم يذكرها أحد على التحقيق، وأما وصفه بالإمام العلامة شيخ المالكية فلا مستند له ولا قائل به من معتمدي مذهب مالك، فهم الفيصل في هذا الشأن، ولكن الشيخ لم ينفرد بتلقيب ابن خويزمنداد بالإمامة، فقد تقدم نحوه عن الفيروزآبادي الشافعي صاحب القاموس، وهذا ابن تيمية يفعل ذلك أيضا بلا مستند فيقول ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 248 :
(( محمد بن خويزمنداد إمام المالكية في وقته في العراق )) اهـ.
وهذا كلام لا أصل له، فأصحاب الرجل من المالكية أعرف بصاحبهم من غيرهم، فهؤلاء فقهاء مذهب مالك والمصنفون في الطبقات قد تقدم كلامهم، فمن أين لابن تيمية أو غيره أن يزيد عليهم، وما حجته فيما ذكر ولا سبيل له أصلا للتعرف على منزلة ابن خويزمنداد إلا من خلال كتب تراجم المالكية أصلا كترتيب المدارك، أم سيكون ابن تيمية أعلم بالرجل من ابن عبدالبر أو أبي الوليد الباجي أو القاضي عياض ونحوهم ؟؟!! وعبارة الذهبي والصفدي أنه من أئمة المالكية في العراق أحسن بكثير من عبارة ابن تيمية وأقرب إلى الواقع، وأدق من ذلك قول القرطبي عنه أنه من (علمائنا) يعني المالكية.
أمثلة تؤكد شذوذات ابن خويزمنداد :
وإذا كان ابن خويزمنداد قد ذكر ونعت بالشذوذ عن المذهب في مسائل شتى مع ضعف الفقه فلنذكر أمثلة تؤيد ذلك:
قال القرطبي في تفسيره 6/105 :
(( قال أبو عمر بن عبد البر ما أعرف كيف أقدم ابن خويزمنداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر وعلى خلاف جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين!! .. ))اهـ .
وعبارة الإمام العيني في عمدة القاري 4/12 :
(( قال أبو عمر : كيف أقدم على أن جعل هذا صحيحا وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين !! ))اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره 8/173 :
(( قاله ابن خويزمنداد وحكاه عن المذهب وهذا لا ينبغي أن يعول عليه )) اهـ.
ولما عزى ابن خويزمنداد لمالك أن خبر الواحد يفيد العلم :
(( نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه )) اهـ.
كما في تدريب الراوي 1/75
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 2/223 عن رفع اليدين مع التكبير في المواطن الثلاثة:
((وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك وهو شاذ )) اهـ .
وقال الحافظ 4/122 :
((ونقل ابن خويزمنداد عن الشافعي مسألة ابن سريج، والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور))اهـ.
وقال ابن حزم في (الأصول والفروع) على عادته في طول اللسان ص150 :
(( وقد أدى السخف والضعف والجهل بحدود الكلام ممن يقع في نفسه أنه هو عالم وهو المعروف بخويزمنداد المالكي أن جعل للجمادات تمييزا ))اهـ.
وقال في (الإحكام) 4/441 :
((وقد ذكر رجل من المالكيين [ من أهل البصرة] يلقب [يعرف بابن ] خويزمنداد أن للحجارة عقلا!! ولعل تمييزه يقرب من تمييزها، وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى [إذ قضى] أنهم أضل سبيلا [منها] .. )) اهـ . وقد تناوله بالطعن في غير هذين الموضعين أيضا على عادته.
[ الخلاصة ]:
يظهر الآن من خلال هذه الترجمات عدة أمور يعنينا منها التالي :
1 ـ الاختلاف في اسمه.
2 ـ الاختلاف في كنيته.
3 ـ عدم تحديد تاريخ وفاته.
4 ـ عنده شذوذات عن مالك.
5 ـ له اختيارات وتأويلات لم يعول عليها محققو المذهب.
6 ـ لم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي الفقه.
7 ـ تكلم فيه أبو الوليد الباجي ولم يسمع له بذكر في علماء العراق.
8 ـ تعصبه على متكلمي أهل السنة.
9 ـ طعن عليه ابن عبدالبر .
ومن هنا يتضح أن ابن خويزمنداد لا يعدو أن يكون أحد علماء المالكية بالعراق، وأنه ليست له تلك القيمة الكبيرة عند المالكية، وليس بالذي يعول على كلامه، فيهجر كلام أئمة المذهب من أجل خلافاته وشذوذاته، ومن ثم فإن ما ينقل عنه من شذوذ ـ كالنقل الآتي ـ مما لا قيمة له سواء صح عنه أم لم يصح، لكننا مضطرون للتعريج على مدى صحة النقل عنه لاستيفاء المباحث.
المبحث الثاني ( مدى صحة القول المعزو إليه )
نظرنا في هذا المبحث منحصر في مطلبين:
الأول : في مصدر هذا النقل.
الثاني : في مدى صحة نسبته لابن خويزمنداد في ذلك المصدر.
الأول : مصدر النقل عن ابن خويزمنداد
ربما تقف على النص المنقول عن ابن خويزمنداد في أكثر من كتاب، ككتب ابن تيمية، أو(صون المنطق) للسيوطي، أو مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده، أو غيرها، وأغلبهم قد نقله من كتاب (جامع بيان العلم وفضله) لأبي عمر يوسف بن عبدالبر النمري القرطبي المتوفى سنة 463هـ، أو نقله عن ناقل عنه، حتى أن ظاهر كلام ابن تيمية يفهم منه أن ابن عبدالبر هو المصدر الأوحد لكلام ابن خويزمنداد ! بدليل أن الإمام أبا حامد الغزالي لما نقل في قواعد العقائد من كتابه (إحياء علوم الدين) قول مالك إذ قال أبو حامد (إتحاف السادة المتقين)2/76:
(( وقال مالك رحمه الله أيضا : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء .. ))اهـ.
لما نقل أبو حامد هذا ـ دون أن يعزوه إلى مصدر ـ جاء ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 7/156 فقال تعليقا على نقل أبي حامد السالف :
(( وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر الذي سماه فضل العلم وأهله وما يلزمهم في تأديته وحمله …))
وقال أيضا:
(( هكذا ذكره عنه ابن عبد البر ومنه نقل ذلك أبو حامد لكن كنى عن التصريح بذلك)) اهـ.
فلم يحتط ابن تيمية لنفسه أن يقول قائل : لعل أبا حامد نقل ما نقل من غير كتاب ابن عبدالبر!.
فأشبه هذا الصنيع من ابن تيمية أن النقل المذكور منقول عن ابن عبدالبر حيثما وجدته من كتاب تقدم أو تأخر، وفيه نظر سيأتي بيانه.
وهذا ابن تيمية ينقل النص مستشهدا به فيعزوه أيضا لابن عبدالبر، قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 248 :
(( قال محمد بن خويزمنداد إمام المالكية في وقته في العراق في الكلام الذي ذكره عنه أبو عمر ابن عبد البر قال : أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام قال : فكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء أشعرياً كان أو غير أشعري)) اهـ.
وابن القيم لم يشذ عن شيخه في شيء كما في الصواعق المرسلة 4/1270 فلا حاجة لتكرير النقل.
فإذا تقرر هذا، وتبين أن كتاب ابن عبدالبر المترجم بـ(جامع بيان العلم وفضله) هو المصدر لأغلب النقلة لهذا النص عن ابن خويزمنداد، فهل يعني هذا أن ابن عبدالبر متفرد بالنقل عنه والوقوف على كتابه، وأننا لا نجد سبيلا إليه إلا ويكون منقولا عن ابن عبدالبر؟!! نعم هذا ما يفهم من عبارة ابن تيمية المتقدمة حيث قطع بأن أبا حامد الغزالي إنما نقله عن ابن عبدالبر ولم يضع أي احتمال لكون الغزالي نقله عن غيره أو أنه اطلع على كتاب ابن خويزمنداد نفسه فنقل منه! لكن في هذا نظر كما قلنا، فأي بعد في أن يقف غير ابن عبدالبر على كتاب ابن خويزمنداد فينقل منه؟؟ وإذا كان ابن خويزمنداد قد قال ذلك في كتاب من كتبه فلا ينبغي الجزم بأن كل ناقل إنما نقله عن ابن عبدالبر، فقد رأيت الإمام العلامة الفقية ابن حجر الهيتمي الشافعي نقل كلام ابن خويزمنداد في الفتاوى الحديثية بصورة أتم مما عند ابن عبدالبر، وسيأتي التفصيل.
المطلب الثاني : في مدى صحة نسبته لابن خويزمنداد في مصدره
بعد الفحص والتنقيب لم أجد النص المذكور منقولا من كلام ابن خويزمنداد مباشرة إلا في موضعين اثنين، أحدهما كتاب (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبدالبر كما مر، وثانيهما كتاب (الفتاوى الحديثية) للفقيه الهيتمي، ولا أزعم أن النص لا يوجد في غيرهما، ولكن هذا ما تيسر لنا الآن، فننظر في هذين النصين ونتكلم على كل واحد منهما على حدة، ونبدأ بنقل ابن عبدالبر:
النص عند ابن عبدالبر:
هو في موضع واحد فقط من كتاب جامع بيان العلم وفضله، وهذه صورة الموضع المقصود [ طبعة دار الكتب الإسلامية ـ القاهرة ـ ط2 ـ 1402هـ ص416 ـ 417 ] :
(( أخبرنا إسماعيل بن عبدالرحمن قال حدثنا إبراهيم بن بكر قال سمعت أبا عبدالله محمد بن أحمد بن إسحق بن خويزمنداد المصري المالكي قال في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف قال مالك : لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم ـ وذكر كتبا ـ ثم قال : وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك، قال : وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزايم الجن وما أشبه ذلك.
وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك : (لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء) قال : أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها ))اهـ.
سنغض الطرف ابتداء عن تحريف كلمة (البصري) إلى (المصري) في هذه الطبعة، فإن التركيز على ذلك ليس بذي قيمة، ولنلج فيما يجدي فنقول :
إن ابن عبدالبر يسوق النص هنا بإسناده، هذا الإسناد الذي عناه الدكتور سفر الحوالي ـ وغيره ـ حينما قال في (منهج الأشاعرة) ص70 :
(( روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبدالبر بسنده عن فقيه المالكية .. ))اهـ.
ها نحن ذا أمام السند الذي يعنيه الدكتور سفر الحوالي، ومن المعلوم أن كلمة (بسنده)!! في تعبير الدكتور سفر لها مدلولها وأهميتها، فهو يلمح إلى أن ابن عبدالبر لم يلق الكلام على عواهنه، بل رواه مسندا شأن أهل الحديث في الحرص على الاتصال، وقد قال السلف : (الإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء) فمن غير الإنصاف أن نتجاوز هذا الإسناد الذي ساقه ابن عبدالبر وجعله سلما للنقل عن ابن خويزمنداد دون أن نعطيه ما يليق به من الاهتمام على رسم أهل الحديث الذين يعتزي إليهم ابن عبدالبر نفسه، ولا من العدل أن نهمل لفتة الدكتور سفر الحديثية الأثرية حينما قال : (بسنده)! إذن فلنلق نظرة على هذا الإسناد ..
يقول ابن عبدالبر : (( أخبرنا إسماعيل بن عبدالرحمن قال حدثنا إبراهيم بن بكر قال سمعت..)) اهـ.
يتوسط بين ابن عبدالبر وابن خويزمنداد في هذا الإسناد رجلان :
أما الأول الذي هو شيخ ابن عبدالبر فقد عرفناه فهو :
إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن أحمد القرشي الزمعي ثم العامري المصري المتوفى سنة 421هـ، قال عنه الحميدي في جذوة المقتبس 1/251 وابن بشكوال في الصلة 1/176 والضبي في بغية الملتمس 1/282 : (ثقة مأمون).
وأما الثاني الذي هو شيخ إسماعيل القرشي العامري وتلميذ ابن خويزمنداد في الإسناد فهو :
إبراهيم بن بكر بن عمران بن عبدالعزيز اللخمي الألبيري، يكنى أبا إسحق، ويعرف أيضا بإبراهيم بن بكر الموصلي، رحل إلى المشرق ودخل العراق فلقي الأبهري وسمع منه، وسمع بالموصل من أبي الفتح الأزدي ورجع الأندلس وحدث بأشياء، وتوفي بإشبيلية سنة 385هـ، ذكره ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس 1/54، والحميدي في جذوة المقتبس1/237، وابن بشكوال في الصلة1/168، ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره الضبي في بغية الملتمس 1/263 ففرق بين إبراهيم بن بكر الموصلي وإبراهيم بن بكر بن عمران الألبيري!! ولم يذكر في أحدهما جرحا ولا تعديلا، ولم أقف على ذكر له في غير هذه المصادر.
فهذا الإسناد لا يمكننا الحكم بصحته ما لم نسمع كلمة توثيق لإبراهيم بن بكر، فهو الآن في حد مجهول الحال عندنا، ولا يصحح أهل الحديث خبرا يرويه مجهول الحال لا سيما في المتأخرين، وما ذكره الضبي من التفريق مقلق بعض الشيء، ويزيدنا قلقا أن وفاة إبراهيم بن بكر متقدمة على وفاة ابن خويزمنداد حسبما تفيده التواريخ! فمن كان لديه خبر عن وثاقة هذا الرجل فليفدنا به، وليس لنا الآن الحكم بصحة هذا النقل عن ابن خويزمنداد أصلا مادام في الإسناد إليه من نجهل ـ نحن ـ حاله.
فالنتيجة ـ عندنا ـ الآن من هذا المطلب أن الإسناد لا يصح فلا يثبت النص المذكور عن ابن خويزمنداد ـ عندنا ـ حتى نقف على توثيق ذي الحال المجهول، لاسيما ـ ونحن ـ أمام نقل يتفرد به هذا المجهول، ولا نجد له أثرا عند غيره بسند آخر يعضده ـ اللهم إلا ما سيأتي عن ابن الهيتمي ـ بل ولم نقف على كتاب معروف لابن خويزمنداد يصرح فيه بذلك، فما حيلتنا إذن غير ترك التعويل على هذا النص ..
النص عند ابن حجر الهيتمي:
وقفنا على نص كلام ابن خويزمنداد بصورة أخرى غير التي عند ابن عبدالبر وبشكل أوفى وأكثر دقة، وجدناه عند الفقيه ابن حجر الهيتمي الشافعي في كتابه (الفتاوى الحديثية) ص275 ـ طبعة إحياء التراث ـ بيروت ـ قال :
(( وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو آلاته فيجب عينا على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين.
فإن قلت : كيف هذا مع قول ابن خويزمنداد : كتب الكلام لا يجوز تملكها، والإجارة فيها باطلة، ومتى وجدت وجب إتلافها بالغسل والحرق ومثله كتب الأغاني واللهو وشعر السخفاء من المتأخرين وكتب الفلاسفة والعزائم، ـ وعدَّى ذلك إلى كتب اللغة والنحو وبين ما فيهما من خوض أهلهما فيهما في أمور لا يعلمون صحتها ـ ثم قال : وكتب الكلام فيها الضلالة والبدع والإلحاد في أسماء الله وصفاته، والكفر بتأويل القرآن وتحريفه عن موضعه، فلا يجوز بقاؤها في ديار المسلمين لئلا تضل الجاهل، فإن قيل : بعضها حق لأنكم لا بد لاحقون ببعض أقسام أهل الكلام؟ فجوابه: إن هذا خطأ علينا لأنا لا ننسب إلى الكلام ولا أهله ونحن منهم براء، ولو تشاغل سني بالكلام لكان مبتدعا، والسني هو المنتسب للسلف الصالح، وكلهم زجروا عن الخوض في مثل هذا، والخائضون في هذا من سائر أهل البدع، ويكفي في الخروج إلى البدعة مسألة واحدة فكيف وقد أوقروا ظهورهم وأجمعوا نفوسهم. انتهى كلام ابن خويزمنداد. ))اهـ.
هذا ما نقله العلامة ابن حجر الهيتمي في فتاواه، ويظهر منه أن النص منقول عن مصدر آخر غير ابن عبدالبر، فهذا هنا سياقه أتم وأدق كما ترى، والاختلاف بينه وبين النص الذي عند ابن عبدالبر واضح، لكنه لم يسق له سندا، ولم يذكر لنا الهيتمي المرجع الذي نقل منه، ومهما يكن فلن يكون المصدر المنقول عنه هو كتاب ابن عبدالبر لما لا يخفى.
لكن الهيتمي قال بعد أن ذكر كلام ابن خويزمنداد ما نصه:
(( قلت : قال ابن برزة شارح (إرشاد) إمام الحرمين : هذا النقل عنه باطل، فإن صح عنه فالحق حجة عليه .. )) اهـ.
(ابن برزة) تحرفت عن (ابن بزيزة) ! وقد ذكره الهيتمي على الصحيح في موضع آخر من فتاواه صفحة 152 فقال : ((ابن بزيزة)) اهـ.
و(بزيزة) على وزن (سفينة) كما في إيضاح المكنون 1/581، وهو :
أبو محمد عبدالعزيز بن إبراهيم القرشي التميمي التونسي عرف بابن بزيزة، الإمام العلامة المحصل المحقق الفهامة الحافظ للفقه والحديث والشعر والأدب الحبر الصوفي من أعيان أئمة المذهب المالكي المعتمدين، وكان في درجة الاجتهاد، له تآليف منها (الإسعاد في شرح الإرشاد) .. توفي سنة 662 أو 663هـ. انظر شجرة النور الزكية ص190 وإيضاح المكنون 1/581.
فيجوز أن يكون الهيتمي نقل نص ابن خويزمنداد من هذا الشارح ويكون ابن بزيزة هو المطلع على كلام ابن خويزمنداد، ومهما يكن فهذا العلامة المالكي أيضا قد أحاط علما بما قاله ابن خويزمنداد كما يظهر من كلامه في شرح الإرشاد الذي نقل منه الهيتمي، ويحكم ابن بزيزة ـ وهو أحد أئمة المالكية المعتمدين ـ على هذا المنقول عن ابن خويزمنداد بالبطلان عنه، وأنه على فرض صحته فلا عبرة به ولا حجة فيه.
نعم قد يقول قائل : لم لا يكون اشتهار ابن خويزمنداد بمجانبة الكلام وأهله مؤيدا لصحة هذا النقل ؟!.
فالجواب : نعم هذا صحيح، لكن من أين لنا أن هذه الشهرة ليست مبنية على هذا النص المنقول عنه بعينه؟! فقد يجوز أن يكون هذا النص هو منشأ ذلكم التصور عنه، ومن أين لنا أن ذلكم التصور عنه لا يكون مبنيا على أشياء أخرى لم تبلغنا غير هذا النص؟.
[ الخلاصة ]:
يتبين لنا من خلال هذا المبحث أن هذا النص المنقول عن ابن خويزمنداد عند ابن عبدالبر في كتاب جامع بيان العلم وفضله في إسناده رجل لم نقف على تعديل أو تجريح له، وليس هذا رسم الصحيح الذي يعول عليه وتقوم به الحجة، وأن النص المنقول عن الهيتمي في فتاواه لا سند له أيضا، وهو مختلف لفظا عما عند ابن عبدالبر، وهذا موجب للاضطراب المنتج للضعف، فلا يصلح هذا النقل مستمسكا في شيء لو كان صحيحا لما مر من حال ابن خويزمنداد، فكيف وهو الآن ـ عندنا ـ خارج عن دائرة الصحة!!.
المبحث الثالث ( معنى كلام ابن خويزمنداد )
تكلمنا عن ابن خويزمنداد فعرفناك به، وظهر أنه ليس بحد الحجة، وتكلمنا على النص المنقول عنه من جهة مصدره وسنده، والآن لنا أن نتساءل عن أمر لا يقل أهمية عما مضى فنقول : ما هو مغزى ابن خويزمنداد حقيقة؟؟ أو ما هو المعنى الدقيق الذي يحمله نص ابن خويزمنداد؟؟!! لا بد لنا من نظرة على مقصود الرجل حتى لا نظلمه فنحمل كلامه فوق ما يحتمل ونقوله ما لم يقل، فهذه وقفة إنصاف من خلال فحص وتحليل كلام ابن خويزمنداد :
يقول النص المنقول عنه عند ابن عبدالبر ص416 ـ وقد ذكرناه سابقا ـ :
(( لا تجوز شهادة أهل البدع و أهل الأهواء، قال : أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها )) اهـ.
هذا هو النص، وقد جاء من المبتدعة من بنى عليه أن الأشاعرة من أهل الأهواء عند المالكية !!! وسنرى.
فنلاحظ في هذا النص أن ابن خويزمنداد مصمم على اعتبار كل من يخوض في الكلام مبتدعا ومن أهل الأهواء، سواء كان أشعريا أم لا !! وحتى يتضح المغزى منه لا بد أن يدرك القارئ أن تاريخ هذا الكلام كان قبل سنة 390هـ التي هي سنة وفاة ابن خويزمنداد التقريبية، بل ينبغي أن يكون قبل سنة 385هـ التي هي سنة وفاة إبراهيم بن بكر الراوي عن ابن خويزمنداد، وإذا كان ابن خويزمنداد يتحدث في ذلك التاريخ، فمن الضروري جدا أن ندرك بأن شهرة الإمام أبي الحسن الأشعري كمنافح عن أهل السنة كانت قد أخذت طريقها في الانتشار بين أهل السنة عموما، وقد عاصر ابن خويزمنداد كبار تلاميذ الأشعري وتلاميذ تلاميذه الذين من أشهرهم منافسه الكبير ـ وقرينه في التلمذة على أبي بكر الأبهري شيخ المالكية في العراق ـ الإمام القاضي أبو بكر الباقلاني الذي لمع نجمه وخرج من ديوان الخلافة تلقيبه بشيخ السنة ولسان الأمة، وكان ينافسه في العراق فيجتذب الأضواء، وتضرب إليه أكباد الإبل، ويؤم مدرسته طلاب العلم من كل صوب، خصوصا المالكية بالمغرب والمشرق، وصار ابن خويزمنداد يرى بأم عينيه كيف يترقى أصحاب الأشعري وينالون كل احترام وتقدير بين أهل السنة والجماعة، على اعتبارهم الذائدين والمنافحين عن عقيدة أهل السنة المتصدين لهجمات أهل البدع من القدرية والمعتزلة وأصناف الشيعة ونحوهم .
وكان السلاح المضاء الذي تميز به أصحاب الأشعري فبهروا العالم، والذي اندحرت الفرق المخالفة أمامه، هو سلاح الحجة العقلية المعبر عنه بعلم الكلام، لقد استطاع أصحاب الأشعري أن يلقنوا المعتزلة دروسا سجلها التاريخ، باستعمال سلاحهم الفتاك، وأثر ذلك الانتصار على عامة أهل السنة، فاتخذوا الأشعري وأصحابه أئمة يقتدون بهم، ويلوذون بعلمهم وفهمهم في مهامه العقيدة، فلا يبعد مع هذا المجد الصاعد للأشعرية أن يكون داء المنافسة قد سرى لابن خويزمنداد، مما جرأه على أصحابه فقصد إلى ما يسقطهم به ويصرف وجوه الناس عنهم، فتوهم أنهم بخوضهم في الكلام قد صاروا من أهل الأهواء!!.
وقد يجوز أيضا أن يكون ابن خويزمنداد قد خاف عاقبة الخوض مع أهل البدع ألا تكون حميدة فتنقلب هزيمة على أهل السنة ـ ربما لضعف ثقته بأصحابه ـ فرأى حسم الباب، فأفتى ببدعية الخوض في الكلام!!.
وهناك احتمال ثالث : وهو أن يكون ابن خويزمنداد بلغ مبلغا من التعصب بحيث صار يرى كثيرا من العلوم الإسلامية النافعة المفيدة التي نضجت في عصره بدعة وضلالة، ويؤيد هذا ما ورد في كلامه المنقول عند الهيتمي من أن ابن خويزمنداد لم يقف عند حد النهي عن كتب الكلام بل :
((عدَّى ذلك إلى كتب اللغة والنحو وبين ما فيهما من خوض أهلهما فيهما في أمور لا يعلمون صحتها))اهـ.
وكذلك شمل الأمر عنده كتب الشعر والأدب!! بل إن من الغريب جدا الذي يؤيد هذا أيضا ما وقفت عليه في كلام لابن تيمية في مجموع الفتاوى قال 20/327 :
(( وما أحسن ما قال ابن خويزمنداد فى مسألة بيع كتب الرأي والاجارة عليها: لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم )) اهـ .
وكتب الرأي هذه التي يعنيها ابن تيمية هي كتب الفقه !! قال أبو العباس بن تيمية في الفتاوى الكبرى 2/230 :
(( فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمى كتب الفقه))اهـ.
فلا أدري على أي وجه يستحسن مثل هذا الهذيان من ابن خويزمنداد رحمه الله، فإذا كان هذا كلامه ورأيه فأي عجب إذن ممن يرى كتب الفقه والنحو واللغة والأدب والشعر كتب بدع وضلالة أن يضيف إليها كتب الكلام؟؟!!.
ومهما تكن نية ابن خويزمنداد فإن الرياح لم تجر حسب مشتهاه، فقد تعلقت الناس بالأشعرية حتى صارت الأشعرية رمزا لأهل السنة والجماعة، حتى إنك لتجد الحنابلة يعتضدون بهم، قال الحافظ ابن عساكر في التبيين 163 ما نصه :
((ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم ))اهـ.
وروى الحافظ ابن عساكر بسنده في التبيين 390 عن الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي أنه قال : (( حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم ))اهـ..
فأين ابن خويزمنداد من هذا المجلس العلمي المجيد ؟؟!
بل وأئمة أصحاب الحديث يجلونهم ويبجلونهم، وليس أبلغ في الدلالة على ذلك مما صح عن الحافظ أبي ذر الهروي راوي صحيح البخاري :
ففي تذكرة الحفاظ 3/1105 وسير أعلام النبلاء 17/558 :
(( قال أبو الوليد الباجي في كتاب (اختصار فرق الفقهاء) من تأليفه، في ذكر القاضي ابن الباقلاني: لقد أخبرني الشيخ أبو ذر وكان يميل إلى مذهبه، فسألته: من أين لك هذا؟ قال: إني كنت ماشيا ببغداد مع الحافظ الدارقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الشيخ أبو الحسن، وقبل وجهه وعينيه، فلما فارقناه قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه وأنت إمام وقتك؟؟؟!! فقال هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب. قال أبو ذر: فمن ذلك الوقت تكررت إليه مع أبي، كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يشار فيها إلى أحد من أهل السنة إلا من كان على مذهبه وطريقه )) اهـ .
فدونك إمام أهل الحديث في عصره أبا الحسن الدارقطني المتوفى سنة 385هـ فانظر إلى صنيعه بابن الباقلاني ـ وهو يومئذ شاب ـ نجم الأشاعرة في وقته، وأحد تلاميذ تلاميذ مدرسة أبي الحسن الأشعري، وتمعن في تلقيب الدارقطني إياه بـ(إمام المسلمين)!! فما عسى ابن خويزمنداد صانع مع هذا الجاه الذي ناله أصحاب الباقلاني في بغداد ؟!!.
ومهما تكن دوافع ابن خويزمنداد فإن أمرا بالغ الأهمية يجب أن نضعه في عين الاعتبار، وهو أن عبارة ابن خويزمنداد التي تقول :
(( فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري )) اهـ.
هذه العبارة وإن كانت صريحة في اعتبار المتكلم مبتدعا لكنها ليست صريحة في اعتبار كل أشعري مبتدعا، فليس بالضرورة أن يكون كل أشعري متكلما، فعبارة ابن خويزمنداد تتعرض لمن خاض في الكلام فحسب، ولا تتجاوز ذلك.
وهذا الذي فهمناه من كلام ابن خويزمنداد هو ما فهمه الإمام أبوحامد الغزالي من كلامه أيضا حينما قال في الإحياء كما في (إتحاف السادة المتقين)2/76 :
(( فقال بعض أصحابه في تأويله إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا )) اهـ. الضمير في كلمة (أصحابه) يرجع إلى الإمام مالك، والمقصود هنا ببعض الأصحاب عند الإمام الغزالي هو ابن خويزمنداد كما جزم به ابن تيمية .
بل إن قول ابن خويزمنداد : (أشعريا كان أو غير أشعري) يدفعنا إلى التساؤل : لم خص ابن خويزمنداد الأشعرية بالذكر من بين سائر المتكلمين في عصره، لا سيما والعراق في عصره كانت مليئة بالمعتزلة وأهل البدع !!.
وهنا أجدني أقول وبكل ثقة : إن هذا الكلام من ابن خويزمنداد أحد الأدلة الصارخة على أن الأشاعرة في عهده هم الآخذون بزمام أهل السنة والذائدون عن حياض الدين حتى استقر في نفوس الكافة أنهم أعيان أهل السنة ونصار الجماعة، فاحتاج ابن خويزمنداد إلى التنبيه على أن هؤلاء الأعيان الذين هم من أهل السنة لا يستثنون من النهي عن الخوض في الكلام، فإن كونهم أنصار السنة والجماعة لا يشفع لهم ويجيز لهم ما يحرم على غيرهم، بل الخوض في الكلام مع المبتدعة بدعة، والخائض مبتدع وإن كان رأسا في تحقيق التوحيد ونصرة العقيدة كالأشاعرة، فلن يستثنى من هذا الحكم أحد، فالرجل له رأي خاص بتحريم الاشتغال بعلم الكلام وأن من اشتغل به فهو آثم مبتدع حتى ولو كان من الأشاعرة !!!!! هذا قصده، وإلا فلم خص الأشاعرة بالذات؟؟! فهو كالصريح إذن في أن الأشاعرة لا يكونون عنده من أهل الأهواء إلا إذا خاضوا في الكلام، وهذا عام عنده يشمل الأشاعرة وغيرهم، وإنما خص الأشاعرة بالذكر حتى لا يتوهم متوهم عليه أنه يستثنيهم لما ظهروا به من نصرة الدين.
ومما يعين هذا المعنى أنه لم يرد أي ذكر للأشاعرة في النص المنقول عن ابن خويزمنداد لدى ابن حجر الهيتمي، ولكننا نجد في مقابلة ذكر الأشعرية شيئا آخر مساويا حينما نقل عنه أنه قال:
((ولو تشاغل سني بالكلام لكان مبتدعا)) اهـ.
فهذا النص نجده لا يذكر الأشعرية بل يذكر بدلا منهم السنية، مما يعين ما قلناه من أن مراد ابن خويزمنداد أن السني الأشعري إذا تشاغل بالكلام كان مبتدعا، وليس بمبتدع إذا لم يتشاغل به.
والخلاصة العادلة :
أن الأشاعرة الذين هم أهل السنة ـ عند ابن خويزمنداد ـ لا يستثنون من هذا الباب ليقال : يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم . هذا رأي ابن خويزمنداد بوضوح، وليس لأحد أن يحمّل كلامه فوق هذا، فمن ادعى عليه فوق ذلك فعليه بالدليل، ومع هذا كله يبقى رأي ابن خويزمنداد الذي لم يلتفت إليه أحد من أهل المذهب ولا غيرهم رأيا باطلا كما قال الإمام ابن بزيزة المالكي، ورحم الله العلامة ابن حجر الهيتمي إذ يقول في فتاواه الحديثية ص275 :
(( وكيف يُرجع لابن خويزمنداد ويُترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من الصحابة ومن بعدهم كالأشعري والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والإسفراييني والباقلاني وغيرهم من أهل السنة !! .. ))اهـ.
فتبين أن من بنى على قول ابن خويزمنداد تبديع الأشاعرة عموما إنما بناه على شفا جرف هار فانهار به.
لكن يبقى ههنا سؤال مطروح : هل هذا الحكم ينسحب عند ابن خويزمنداد على حالات الضرورة أيضا حيث يكون أهل السنة في أمس الحاجة لمن يدفع عنهم من يصول عليهم ويفسد عقائدهم؟؟ إن كلام ابن خويزمنداد ساكت عن هذا، وإذا كان كذلك فلعلنا نستشف الجواب من خلال المبحث التالي.
المبحث الرابع ( موقف ابن عبدالبر من كلام ابن خويزمنداد )
من المعلوم أن ابن عبدالبر أشهر من نقل نص ابن خويزمنداد، وذلك في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وهو من كبار علماء المغرب وفقهاء المالكية أيضا، ويبني المخالفون على هذا أن ابن عبدالبر موافق لابن خويزمنداد فيما ذهب إليه! ونحن قد بينا ما يمكن أن يحتمله كلام ابن خويزمنداد وما لا يحتمله، وقد أوضحنا أن غاية ما يدل عليه كلامه هو بدعية الكلام عموما، والنهي عن الخوض فيه حتى ولو كان الخائض فيه أجل الناس وأصفاهم عقيدة !! وكنا تساءلنا عما إذا كان هذا يتناول حتى حالات الضرورة عند ابن خويزمنداد أيضا؟؟ أم أن ابن خويزمنداد إنما يتحدث عن حالات اختفاء الشبهات، واستقرار أهل السنة، وأمنهم من سطوة أهل البدع عليهم، فحينئذ يكون من يشيع فيهم الكلام مبتدعا، لا حالة الضرورة ؟؟.
وبمعنى أقرب : هل يرى ابن خويزمنداد تبديع من تكلم من الأئمة غير ملتفت إلى اضطرارهم آنذاك، وإلى حاجة أهل السنة الملحة إلى من يرد عنهم شبهات أهل الباطل التي أحدقت بالعلماء ذلك الزمان فضلا عن العوام؟؟!! .
لعلنا بعون الله تعالى نجد الإجابة على هذا هنا حينما نسلط الضوء على كلام ابن عبدالبر وموقفه فنقول : قال ابن عبدالبر في الجامع ص415 :
(( قال أبو عمر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده يعني العلماء منهم رضي الله عنهم، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا فقال ” نحو قول جهم والقدر ” والذي قاله مالك رحمة الله عليه قاله جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا ))اهـ.
فالناظر في كلام ابن عبدالبر هذا يلاحظ وبجلاء أنه يفرق بين وقت لا حاجة للكلام فيه، وبين آخر يُضطر فيه إلى الكلام فيصير فرض كفاية أو فرض عين، وذلك إذا طمع المتكلم برد الباطل أو هداية الزائغ، أو خشي ضلال عامة، ونحو هذا مما فيه استجلاب مصحلة أو درء مفسدة، مما يستوجب وجود متكلم يذب عن أهل السنة.
فهذا هو رأي ابن عبدالبر يسجله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) وهو نفس الكتاب الذي استشهد فيه بكلام ابن خويزمنداد السالف، وعليه فلا يكون ابن عبدالبر حينما استشهد بكلام ابن خويزمنداد يقصد التعميم به والإطلاق، وإذا كان ذلك كذلك فكيف استشهد ابن عبدالبر بكلام ابن خويزمنداد وعلى أي وجه؟؟
جوابنا : أن ابن عبدالبر مادام قد صرح بالاحتياج إلى الكلام لدرء مفسدة أو جلب مصلحة إذن فموقفه من كلام ابن خويزمنداد لا يخرج عن أحد احتمالين:
الأول : أن نتصور اتحاد الفكرة والرأي بين ابن عبدالبر وابن خويزمنداد، وأن كلام كل منهما إنما يخرج من مشكاة واحدة، فما أهمل ابن خويزمنداد ذكره من قيد واستثناء من حالات الحاجة إلى الكلام نبه عليه ابن عبدالبر، وعلى هذا الاحتمال فلنا أن نفهم كلام ابن خويزمنداد في ضوء كلام ابن عبدالبر، ومن ثم لا يكون في كلام ابن خويزمنداد حجة لمن حرم ومنع الكلام على وجه الإطلاق والتعميم، بل ولا يكون ابن خويزمنداد شاذا في قوله هذا أصلا لوجاهته بحصول قيد معتبر فيه.
الثاني : أن نتصور اختلاف الرأي بينهما في محل الإطلاق والتقييد، وأن مراد ابن خويزمنداد حقيقة هو الإطلاق والتعميم، وهو ما لا يراه ابن عبدالبر المصرح بالقيود والاستثناءات السالفة، وعلى هذا القول يكون ابن خويزمنداد قد شذ، وإنما نقل ابن عبدالبر كلامه ليأخذ منه موضع الاتفاق بينهما فقط، وهو النهي عن الكلام في حالات الاستغناء عنه، وهنا يبقى ابن عبدالبر أيضا موافقا لكلام كثير من العلماء، وهم كلهم صف واحد يقابلهم ابن خويزمنداد في زاوية التفرد والشذوذ.
والخلاصة من هذا أن ابن عبدالبر على كلا الاحتمالين السالفين لا يقول بتحريم الخوض في علم الكلام متى مست إليه الحاجة لجلب مصلحة أو درء مفسدة، فلا حجة للمخالفين في استشهاد ابن عبدالبر بكلام ابن خويزمنداد، لأنه كما سلف لا يريد الإطلاق الذي يرمون إليه، بل حينما نفهم كلام ابن خويزمنداد على ضوء تفصيل ابن عبدالبر، فإن المخالفين ساعتها يقفون معزولين لا يسندهم قول أحد، لا ابن خويزمنداد ولا غيره.
براءة ابن عبدالبر من الحشو:
ربما يستروح بعض أهل الحشو إلى بعض ما قاله ابن عبدالبر في شرح حديث النزول من كتاب التمهيد، وربما يعتضدون بكلام من نقده من أئمة التنزيه كالإمام ابن الجوزي الذي قسى عليه في صيد الخاطر إذ قال :
(( ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر صنف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال : هذا يدل على أن الله تعالى على العرش، لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى. وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام، فقاس صفة الحق عليه، فأين هؤلاء واتباع الاثر؟! ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين..))اهـ.
قلت : وليس هذا الكلام بشيء عند التحقيق، لأن ابن عبدالبر لا يعني النزول من جهة الحس فإن كلامه الموهم لذلك مدفوع بكلام له آخر أوضح، فإليك نبذا من كلامه توضح لك منهج ابن عبدالبر على وجه الإجمال لا التفصيل، ولا يمنع ما تراه هنا من كلامه أن يكون له بعض ما ينتقد عليه، فإن أحدا من أهل العلم لم يسلم من كلام متكلم ونقد ناقد.
ما يدفع تهمة الحشو عن ابن عبدالبر من بعض نصوص كلامه :
قال رحمه الله في كتابه (الاستذكار) 5/213 : باب ما جاء في صلاة الليل، عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يمل حتى تملوا قال :
(( أي من مل فقطع عمله ، انقطع عنه الجزاء ، ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء ، جل عن ذلك وتعالى علوا كبيرا ، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب ، فإنهم إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له أو جزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه )) اهـ .
وتأويله هنا حسن موافق لكلام الجمهور، مخالف لكلام أهل الحشو.
وقال رحمه الله في كتابه (التمهيد) 7/144 ردا على من فسر حديث النزول بنزول الذات :
(( ليس هذا- يعني قول من قال ينزل بذاته – بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة لأن هذا كيفية وهم يفزعون منها )) اهـ .
ونفيه لتقييد النزول بالذات موافق أيضا لكلام الجمهور مباين لكلام أهل الحشو.
وقال في كتابه (الاستذكار) 2/530 ما يلي :
(( وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة : إنه ينزل بذاته ! ، وهذا قول مهجور، لأنه تعالى ذكره ليس بمحل للحركات ولا فيه شيء من علامات المخلوقات )) اهـ .
وهذا منه تنزيه لله تعالى عن حلول الحوادث بالذات وموافقة لأصل عظيم من أصول أهل السنة ومخالفة لأصول الحشو.
وذكر الرواية في (التمهيد) 7/143 عن مالك (بأنه ينزل أمره ورحمته) فلم يستبعدها لا من حيث السند ولا من حيث المتن ، بل قدمها أولاً بقوله :
(( وقد قال قوم من أهل الأثر أيضا أنه ينزل أمره وتنزل رحمته )) اهـ.
ثم ذكر إسنادها إلى مالك .. وعقب عليها بقوله :
(( وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله على معنى أنه تتنزل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك من أمره أي أكثر ما يكون في ذلك الوقت ، والله أعلم…)) اهـ.
وهذا صريح في تجويزه هذا التأويل .
وقال في (التمهيد) أيضا 7/137 :
(( وليس مجيئه حركة ولا زوالاً ولا انتقالاً، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر، لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة، ولو اعتبرت ذلك بقولهم : جاءت فلاناً قيامته، وجاءه الموت، وجاءه المرض، وشبه ذلك، مما هو موجود نازل به، ولا مجيء، لبان لك، وبالله العصمة والتوفيق )) اهـ.
وهنا يعبر ابن عبدالبر باصطلاحات المتكلمين من ذكر الجوهر والعرض والجسم ونفيها عن الله، كما نفى الحركة والنقلة، وهذا منه موافقة للجمهور مباينة لكلام أهل الحشو.
وقال رحمه الله في (الاستذكار) 8/596 :
(( وروى معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال : إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه .. وأما قوله : يأخذها بيمينه، فهذا مجاز وحسن عبارة عن قبول الله تعالى للصدقة، ومعنى أخذ الله لها، قبوله تبارك وتعالى، لا يشبهه شيء، وليس كمثله شيء، وهو السميع العليم ))اهـ .
وحيث اتضح موقف ابن عبدالبر ومنهجه فقد تبين أنه لا مستند للحشوية فيما توهموه على ابن عبدالبر، ذلك الوهم الذي لا يتفق مع كلامه لا على الإجمال ولا التفصيل.
المبحث الخامس ( موقف علماء المالكية عموما )
إن كلمة (المالكية) كادت تكون مرادفة للأشعرية، هذه حقيقة تاريخية وواقعية تكاد تكون رأي العين، فكل من اطلع على بعض من طبقات الأئمة والعلماء عموما والمالكية خصوصا، وأحاط علما بشيء من تاريخ الإسلام ومدارسه الفكرية، ونظر على عجل في تراث هذه الأمة العريض، لم يشك لحظة واحدة أن الأشعرية دم يجري في عروق مذهب المالكية، ولا ارتاب في أن منكر ذلك إما جاهل أو كذاب، يجادل في وجود الشمس وهي مشرقة في رابعة النهار.
لقد شهد الموافق والمخالف بهذه الحقيقة الناصعة، فيقول الإمام الحافظ ابن عساكر الدمشقي في التبيين 410 وهو يذكر الأشعري :
(( وهل من الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق له أو منتسب إليه))اهـ.
ونقل التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 2 / 259 ذلك أيضا عن أئمة منهم الإمام شيخ الإسلام سلطان العلماء العز بن عبدالسلام فقال :
(( وحكينا لك مقالة الشيخ ابن عبد السلام ومن سبقه إلى مثلها وتلاه على قولها حيث ذكروا أن الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون، هذه عبارة ابن عبد السلام شيخ الشافعية وابن الحاجب شيخ المالكية والحصيرى شيخ الحنفية، ومن كلام ابن عساكر حافظ هذه الأمة الثقة الثبت: هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق الأشعرى ومنتسب إليه وراض بحميد سعيه فى دين الله ومثن بكثرة العلم عليه ))اهـ.
ويقول الإمام التاج السبكي في طبقاته 2/261 :
(( أنا أعلم أن المالكية كلهم أشاعرة ولا أستثني أحدا .. )) اهـ.
وقال في 2/256 :
(( أئمة المالكية كانوا يناضلون عن مذهب الأشعرى ويبدعون من خالفه ولا حاجة إلى شرح ذلك فإن المالكية أخص الناس بالأشعرى إذ لا نحفظ مالكيا غير أشعري ..))اهـ.
نبذة تاريخية عن المدرسة المالكية الأشعرية :
لو رحنا نتكلم عن الأشاعرة كلهم فهذا يعني أننا نحاول سرد أسماء أغلب علماء أهل السنة الأفذاذ، ولو قصرنا ذلك على علماء المالكية لطال الأمر أيضا، ولكن لنقم بإطلالة تاريخية سريعة على أهم المدارس المتمثلة في كبار الأئمة من المالكية الذين كانوا على رأي الأشعري ومذهبه:
لا أحد من أهل العلم يجهل منزلة الإمام أبي بكر الأبهري شيخ المالكية في العراق على الإطلاق المتوفى سنة 375هـ، وهذا الإمام كان مجلسه يضم كوكبة من علماء المالكية أشهرهم القاضي الباقلاني ذو الحظوة لدى الأبهري حتى أنه أوصى له بمائة وخمسين مثقالا وكان الأبهري إذا فضل أحدا أعطاه مائة فقط، وهذا الإمام هو الذي تعلم عنده ابن خويزمنداد .. ومع ذلك لا نرى شيخه الأبهري مباينا للكلام والمتكلمين من أهل السنة، بل كان يحضر مجالس النظر بين أهل السنة والمعتزلة، ويخبر عنها بنفسه كما في ترتيب المدارك2/472 أن الأبهري قال :
(( اجتمعنا في جماعة من أهل العلم والصلاح، وقد تناظر رجل من أهل السنة مع رجل معتزلي، فطال بينهما الكلام، فجاء المساء فلم يظهر أحدهما على صاحبه، فقال السني : هذا مجلس انقضى على غير فلح، وقد حضرنا قوم صالحون فلنخلص الدعاء للمحق منا بأن يثبت الله تعالى القرآن في صدره، وينسيه المبطل، فدعونا، قال الأبهري : فأقرَّ لي المعتزلي بعد ذلك أنه نسي القرآن حتى كأنه ما رآه ))اهـ.
وأما شيخ المالكية الثاني وقرين الأبهري فهو:
الإمام أبوعبدالله محمد بن أحمد بن محمد بن مجاهد مقدم المالكية وهو تلميذ أبي الحسن الأشعري، وعليه درس الباقلاني الكلام، أثنى عليه الأئمة ومنهم شيخ أهل الحديث الحافظ البرقاني ثناء حسنا كما في الترتيب 2/476 وتاريخ بغداد، وكان طلاب العلم من المالكية من أصحاب ابن أبي زيد القيرواني في المغرب وغيره يرحلون إليه في العراق ليأخذوا عنه وعن الأبهري وأصحابهم، وكانت المراسلات تدور بينه وبين ابن أبي زيد القيرواني شيخ المالكية كما سيأتي.
ثم كان مقدم المالكية وشيخهم في العراق بعد الأبهري وابن مجاهد تلميذهما :
الإمام الكبير نادرة الوجود القاضي شيخ السنة ولسان الأمة أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403هـ، الذي شهد له الموافق والمخالف، ومن طالع ترجمته في تاريخ بغداد أو ترتيب مدارك القاضي عياض قضى العجب، وقد كان هذا الإمام مقدما لدى شيخ المالكية بالعراق أبي بكر الأبهري كما مر، وهو وارث علم ابن مجاهد أيضا كما تقدم، وقد كان هؤلاء ومن حولهم من الأصحاب هم من يشار إليهم بأنهم المالكية وأعيان أهل السنة في بغداد، وقد كان ما بينهم وبين مشايخ أهل الحديث والشافعية والحنابلة عامرا طيبا، يدلك على هذا ما رواه الحافظ ابن عساكر بسنده إلى الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي قال :
(( حضرت دار شيخنا أبي الحسن عبد العزيز بن الحرث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسن شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة يشبه واحدا منهم ))اهـ. تبيين 390.
ثم لم تزل فرق أهل السنة تعظم الباقلاني من بعد هؤلاء وتجله، خاصة مشايخ الحنابلة، وقد قال الإمام أبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني الحنفي :
(( لما قدم القاضي الإمام أبو بكر الأشعري بغداد دعاه الشيخ أبو الحسن التميمي الحنبلي رحمهما الله إمام عصره في مذهبه وشيخ مصره في رهطه وحضر الشيخ أبو عبد الله بن مجاهد والشيخ أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون وأبو الحسن الفقيه فجرت مسئلة الاجتهاد بين القاضي أبي بكر وبين أبي عبد الله بن مجاهد وتعلق الكلام بينهما إلى أن انفجر عمود الصبح وظهر كلام القاضي عليه رحمهما الله وكان أبو الحسن التميمي الحنبلي يقول لأصحابه تمسكوا بهذا الرجل فليس للسنة عنه غنى أبدا، قال وسمعت الشيخ أبا الفضل التميمي الحنبلي رحمه الله وهو عبد الواحد بن أبي الحسن بن عبد العزيز بن الحارث يقول : اجتمع رأسي ورأس القاضي أبي بكر محمد بن الطيب على مخدة واحدة سبع سنين، قال الشيخ أبو عبد الله : وحضر الشيخ أبو الفضل التميمي يوم وفاته العزاء حافيا مع إخوته وأصحابه وأمر أن ينادى بين يدي جنازته هذا ناصر السنة والدين هذا إمام المسلمين هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار ))اهـ. التبيين 221.
ففي هذه النقول ما يدلك على ما كان بين هؤلاء من التصافي والود والاجتماع، وأنهم أعيان أهل السنة في العراق بلا خلاف، وأنت لا ترى أي أثر لابن خويزمنداد هنا؟؟.
فإذا انتقلنا إلى المغرب وشيخها الإمام أبي محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 386هـ عمدة المالكيين هناك وجدنا ما بينه وبين المدرسة العراقية متصلا وثيقا، تجري بينهم المراسلات والمكاتبات وبعثات الطلبة كما مر، وها هو ابن مجاهد يكاتب ابن أبي زيد بكتاب ملؤه الاحترام والإعزاز يصفه بما هو أهله ويثني على تصانيفه ويطلب إجازته بها فيقول :
(( وقد وقع إلينا من تصنيفه ـ أيده الله ـ قطع من المختصر، وجدناه قد أحسن في نظمه، وألطف في جمع معانيه، وكشف ما كانت النفوس تتوق إليه، وكفى مؤونة الرحلة، وطلب المصنفات، بالكلام السهل، والمعاني البينة، التي تدل على حسن العناية، وكثرة المعرفة، والحرص على منافع الراغبين في العلم، والمتعلقين به، فأحسن الله أيها الشيخ جزاءك، وأجزل ثوابك ))
ثم ذكر له ما بلغه من تصنيف النوادر ثم قال :
(( وما يتصل بنا من فضل الشيخ أيده الله قد نشطني إلى تعريف ما بنا من الحاجة إلى هذين الكتابين، وتطلع من قِبَلي من الطالبين لها، والشيخ أيده الله يتفضل في ذلك بما هو أهله، ويمن علي بذلك، فإني إليه وجماعة قِبَلي من إخوانه والراغبين في مذهب الإمام رضوان الله عليه يتطلعون إليه، فإن رأى الشيخ أيده الله ، أن يتفضل بإنفاذها، بعد عرضها بحضرته وإجازتها لي ولغيري من أصحابنا ممن آثر ذلك وأحبه )) اهـ ثم سأله الدعاء وأرخ الكتاب بسنة 368هـ.
فأجابه الشيخ ابن أبي زيد القيرواني قائلا : (( وعندنا من أخبار الشيخ الطيبة ما تعم مسرته من نصرته في هذا المذهب وذبه عنه ومحاماته عليه حماه الله عز وجل مكروهه من صحته))اهـ. ثم شكره وأبدى سروره بكتابه ومودته له، كما أجازه حسب طلبه، انظر ترتيب المدارك 2/477.
وكان تنقل الطلبة المالكية من أصحاب ابن أبي زيد بينه وبين ابن مجاهد مشهورا، وإلى ابن مجاهد والأبهري والباقلاني وأصحابهم كانت رحلة طلبة العلم من المالكية آنذاك، وقد أرسل ابن أبي زيد مختصره الفقهي مقرونا بالإجازة للشيخ ابن مجاهد وطلابه مع الشيخين محمد بن خلدون وإسماعيل بن عذرة المالكيين وقد حضرا لدى ابن مجاهد ودرسا عنده العقيدة، انظر الترتيب 2/478.
وقد كانت المناظرات تجري في مجلس ابن أبي زيد على رسم أهل الكلام ويقوم بذلك أصحابه منهم الإمام المقدم :
أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالمؤمن المكي ثم القيرواني المالكي، تلميذ ابن مجاهد وصاحب ابن أبي زيد القيرواني وشيخهم، فيستفيدون منه ويقدمونه.
وقد كان أحد المعتزلة كتب من بغداد كتابا وجهه إلى المالكية بالقيروان يطعن فيه على الإمام الأشعري ويكفره فأجابه الإمام ابن أبي زيد القيرواني فقال :
(( .. وذكرت الأشعري فنسبته إلى الكفر وقلت إنه كان مشهورا بالكفر وهذا ما علمنا أن أحدا رماه بالكفر غيرك ولم تذكر الذي كفر به وكيف يكون مشهورا بالكفر من لم ينسب هذا إليه أحد علمناه في عصره ولا بعد عصره، وقلت إنه قدم بغداد ولم يقرب أحدا من المالكيين ولا من آل حماد بن زيد لعلمه أنهم يعتقدون أنه كافر ولم تذكر ما الذي كفروه به ))
ثم ذكر ابن أبي زيد تشنيع المعتزلي على الأشعري في مسئلة التلاوة والمتلو والقراءة والمقروء ثم قال ابن أبي زيد في الرد على المعتزلي :
(( والقارىء إذا تلا كتاب الله لو جاز أن يقال أن كلام هذا القارىء كلام الله على الحقيقة لفسد هذا، لأن كلام القارىء محدث ويفنى كلامه ويزول، وكلام الله ليس بمحدث ولا يفنى وهو صفة من صفاته، وصفته لا تكون صفة لغيره، وهذا قول محمد بن إسماعيل البخاري وداود الأصبهاني وغيرهما ممن تكلم في هذا، وكلام محمد بن سحنون إمام المغرب، وكلام سعيد بن محمد بن الحداد، وكان من المتكلمين من أهل السنة وممن يرد على الجهمية ))
ثم ذكر ابن أبي زيد حكاية أحمد بن حنبل رحمه الله مع أبي طالب فعن أبي محمد فوران قال :
(( جاءني صالح بن أحمد ـ وأبو بكر المروروذي عندي ـ فدعاني إلى أبي عبد الله وقال لي: إنه قد بلغ أبي أن أبا طالب قد حكى عنه إنه يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق فقوموا إليه فقمت واتبعني صالح وأبو بكر فدار صالح من بابه فدخلنا على أبي عبد الله ووافانا صالح من بابه فإذا أبو عبد الله غضبان شديد الغضب يتبين الغضب في وجهه فقال لأبي بكر اذهب جئني بأبي طالب فجاء أبو طالب وجعلت أسكن أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب وأقول: له حرمة. فقعد بين يديه وهو يرعد متغير الوجه فقال له أبو عبد الله حكيت عني أني قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ قال: إنما حكيت عن نفسي، فقال له: لا تحك هذا عنك ولا عني فما سمعت عالما يقول هذا. وقال له: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف فقلت لأبي طالب ـ وأبو عبد الله يسمع ـ : إن كنت حكيت هذا لأحد فاذهب حتى تخبره أن أبا عبد الله قد نهى عن هذا ))
قال ابن أبي زيد :
(( وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل به يقتدى وقد أنكر هذا وما أنكر أبو عبد الله أنكرناه فكيف يسعك أن تكفر رجلا مسلما بهذا ولا سيما رجل مشهور أنه يرد على أهل البدع وعلى القدرية الجهمية متمسك بالسنن مع قول من قاله معه من البخاري وغيره!!! فلو ذكرت أمرا يجب تكفير قائله عند أهل السنة كان لك ذلك لأنا لا نعتقد أنا نقلد في معنى التوحيد والاعتقادات الأشعريَّ خاصة، ولكن لا يحل لنا أن نكفره أو نبدعه إلا بأمر لا شك فيه عند العلماء وإذا رأينا من فروع أقاويله شيئا ينفرد به تركناه ولا نهجم بالتضليل والتبديع بما فيه الريب، وكل قائل مسؤل عن قوله ))اهـ. التبيين 405.
فقد أبان ابن أبي زيد القيرواني شيخ المالكية في المغرب عن عقيدته الأشعرية، وأن على عقيدته جبالا من المالكية نسبهم إلى المعرفة بالكلام والجدل والمناظرة لأهل البدع منهم :
إمام المغرب محمد بن الإمام شيخ المالكية سحنون، والإمام سعيد بن محمد بن الحداد المالكي، وقدرهما عظيم في مذهب مالك لا يخفى على مطلع.
هذا وقد نبغ جماعة من أصحاب ابن أبي زيد القيرواني المالكية ورثوا عنه علمه منهم: أبو بكر ابن عبدالرحمن، وأبو القاسم البرادعي، واللبيدي، وابنا الأجدابي، وأبو عبدالله الخواص، وأبو محمد مكي المقرئ المشهور، وأبو عبدالله بن الحذاء، وأبو بكر بن موهب المقبري، وأبو مروان القنازعي، وأبو عبدالله ابن العجوز، وأبو محمد بن غالب، وخلف بن ناصر، وغيرهم من أهل القيروان والأندلس، والمغرب الأقصى.
وهذا الإمام شيخ المالكية وعالمهم من أهل المغرب في عصره، البارع في شتى العلوم والفنون من الكلام والحديث والتفسير والفقه وغيرها الإمام أبو الحسن علي بن محمد القابسي المالكي المتوفى سنة 403هـ له رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه أحسن الثناء عليه فيها وذكر فضله وإمامته وقد قال في جواب لبعض أهل تونس :
(( واعلموا أن أبا الحسن الأشعري رضي الله عنه لم يأت من هذا الأمر يعني الكلام إلا ما أراد به إيضاح السنن والتثبيت عليها ودفع الشبه عنها فهمه من فهمه بفضل الله عليه وخفي عمن خفي بقسم الله له، وما أبو الحسن الأشعري إلا واحد من جملة القائمين بنصر الحق، ما سمعنا من أهل الإنصاف من يؤخره عن رتبته تلك، ولا من يؤثر عليه في عصره غيره، ومن بعده من أهل الحق سلكوا سبيله في القيام بأمر الله عز وجل والذب عن دينه حسب اجتهادهم، قال وأما قولكم : (وإن كان التوحيد لا يتم إلا بمقالة الأشعري) فهذا يدل على أنكم فهمتم أن الأشعري قال في التوحيد قولا خرج به عن أهل الحق، فإن كان قد نُسِب هذا المعنى عندكم إلى الأشعري فقد أبطل من قال ذلك عليه، لقد مات الأشعرى رضي الله عنه يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مستريحون منه فما عرفه من وصفه بغير هذا ))اهـ. تبيين 123.
وهذا الإمام من مشاهير رواة صحيح البخاري في المغرب، وقد تخرج على الإمام القابسي جمع من نبلاء المالكية منهم : أبو بكر عتيق السوسي، وأبو القاسم بن الحساري، وابن سمحان، وابن أبي طالب العابد، وأبو عمرو بن عتاب، وابن محرز، وابن سفيان، وأبو محمد اللوبي، وأبو حفص العطار، وأبو عبدالله الخواص، والمهلب بن أبي صفرة، وحاتم بن محمد الأطرابلسي وغيرهم من شتى البلاد المشرقية والمغربية.
وقد كان من أصحاب هذا القابسي الإمام المحدث أبو محمد عبدالله بن إبراهيم الأصيلي المالكي المتوفى سنة 392هـ، وهو من علماء الكلام والنظر، والمبرز في الحديث، وهو من تلاميذ الأبهري، وهو شيخ الإمام المتكلم أبي عمران الفاسي، ومما عرف به روايته الشهيرة لصحيح البخاري من طريق المروزي عن الفربري عن البخاري، ولما طلب من أبي يحيى بن الأشج إسماع صحيح البخاري قال:
(( لا يراني الله أحدث به والأصيلي حي أبدا ))اهـ.
أما حافظ المشرق وأشهر رواة صحيح البخاري وهو الذي اعتمد على روايته الحافظ ابن حجر فهو الإمام الحافظ عبد بن أحمد أبو ذر الهروي المالكي الأشعري المتوفى سنة 434هـ، الآخذ هو وكريمة بنت أحد المروزية تلميذة الباقلاني عن الكشميهني والمستملي عن الفربري عن البخاري، وهو مالكي المذهب أشعري الاعتقاد، وله في ذلك قصة :
(( قال أبو الوليد الباجي في كتاب (اختصار فرق الفقهاء) من تأليفه، في ذكر القاضي ابن الباقلاني: لقد أخبرني الشيخ أبو ذر وكان يميل إلى مذهبه، فسألته: من أين لك هذا؟ قال: إني كنت ماشيا ببغداد مع الحافظ الدارقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الشيخ أبو الحسن، وقبل وجهه وعينيه، فلما فارقناه قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه وأنت إمام وقتك؟؟؟!! فقال هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب. قال أبو ذر: فمن ذلك الوقت تكررت إليه مع أبي، كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يشار فيها إلى أحد من أهل السنة إلا من كان على مذهبه وطريقه )) اهـ .
انظر تذكرة الحفاظ 3/1105 وسير أعلام النبلاء 17/558 وغيرهما.
فهذا أبو ذر الهروي يشهد بأنه لم ير أحدا من أهل السنة يشار إليه إلا من كان على طريقة الباقلاني الأشعري، وقد رأيت ما صنع الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطني به من التبجيل، فأي شيء هو ابن خويزمنداد؟؟!!.
ومن علماء الأشاعرة المالكية الكبار القاضي الإمام أبو محمد عبدالوهاب بن علي بن نصر البغدادي المتوفى سنة 422هـ، الآخذ عن طبقة تلاميذ الأبهري ومن أشهر شيوخه القاضي الباقلاني، درس عليه الكلام والأصول وصحبه، وصنف التصانيف المفيدة الشهيرة في المذهب، وعليه تخرج جماعة منهم : ابن عمروس ، وأبو الفضل مسلم الدمشقي، وأبو العباس بن قشير الدمشقي، وعبدالحق بن هارون الفقيه، وأبو عبدالله المازري البغدادي، وأبو بكر الخطيب الحافظ، والقاضي ابن شماخ الغافقي، ومهدي بن يوسف وغيرهم.
أما أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المالكي شيخ المقرئين في عصره الأشعري الشهير المتوفى سنة 440هـ فحدث ولا حرج، وكتبه معروفة مشهورة، رحل إلى الإمام الباقلاني وأخذ عنه الاعتقاد، وربما نقل عنه في كتبه نصوصا كاملة كما في الرسالة الوافية له، ولا حاجة للإطالة في مثله.
ومنهم أبو الفضل بن عمروس البغدادي المالكي وكان فقيها أصوليا صالحا مات سنة 452هـ .
وأبو الطاهر البغدادي الواعظ ثم القيرواني الذي يقول فيه أبو عمران الفاسي : ((لو كان علم الكلام طيلسانا ما تطيلس به إلا أبو الطاهر البغدادي))اهـ. التبيين 121.
ثم منهم الإمام ذو الشأن الكبير أبو عمران موسى بن عيسى الفاسي المتوفى سنة 430هـ رحل وطوف وأخذ عن جلة الأئمة والعلماء ودرس الأصول على الإمام القاضي الباقلاني ، وكان الإمام الباقلاني يقدمه ويجله ويعجبه حفظه ويقول له :
(( لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبدالوهاب بن نصر ـ وكان إذ ذاك بالموصل ـ لاجتمع فيها علم مالك، أنت تحفظه وهو ينصره، ولو رآكما مالك لسر بكما ))اهـ.
وهذا الإمام قد تخرج به خلق كثير من أئمة المالكيين من الفاسيين والسبتيين والأندلسيين فطارت فتاويه في المشرق والمغرب، واعتنى الناس بقوله، وكان يجلس للمذاكرة والسماع في داره من غدوة إلى الظهر، فلا يتكلم بشيء إلا كتب عنه إلى أن مات رحمه الله وترجمته في الترتيب 2/703 لطيفة حسنة.
وأما الإمام الهمام الحافظ الفقيه المتكلم الكبير أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474هـ فسبحان من أمده بمدد العلم، وكمله بزينة الفهم، فلله دره من إمام يضيق عن جملة من فضائله المقام، فهو أشهر من الاشتهار، طوف البلاد ورحل وتزود، ودرس الأصول على طبقة أصحاب الباقلاني كالسمناني وغيره، وتلاميذه أئمة الأقطار والأمصار، ولو لم يكن فيهم إلا أبو الوليد الطرطوشي المالكي الشهير لكفى، وحسبه أن الخطيب البغدادي نزل للرواية عنه، ويقول القاضي عياض بن موسى : سألت عنه شيخنا قاضي قضاة الشرق أبا علي الصدفي الحافظ صاحبه فقال لي : (( هو أحد أئمة المسلمين لا يسأل عن مثله، ما رأيت مثله))اهـ .
وأنا أقول لك طالع ترجمته وأرحنا .
نعم، ولو رحنا نتكلم عن طبقات المالكية الأشاعرة على التفصيل لانعقدت الألسن، وتكسرت الأقلام ونفد المداد، ولو قصدنا إلى من بعد هؤلاء لعظم الخطب وباد الصبر وعدم الاستعداد، فكيف ترى لو صرنا إلى طبقة الإمام الحافظ أبي علي الغساني وأبي علي الصدفي وابن سعادة ثم القاضي الإمام أبي بكر بن العربي المالكي ثم القاضي عياض بن موسى اليحصبي وابن بشكوال وابن حمدين وأبي عبدالله المازري وأبي الأصبغ بن أبي البحر وأبي بكر بن أحمد بن طاهر وأبي بكر يحيى بن موسى .. ومررنا بابن خير الإشبيلي وطبقته وأقرانهم وطبقات من بعدهم حتى نصل إلى طبقة أبي عمرو بن الحاجب ثم طبقة ابن دقيق العيد فمن بعدهم؟؟!!! كيف ترى يكون الحال؟؟!!.
ولكن على الإجمال نقول الآن :
قال الإمام أبو عبدالله محمد بن موسى بن عمار الكلاعي المايرقي الفقيه المالكي الأشعري إجمالا عن الإمام الأشعري : (( فلما كثرت تواليفه ونصر مذهب السنة وبسطه تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية فأهل السنة بالمغرب والمشرق بلسانه يتكلمون وبحجته يحتجون .. فنسب من تعلق اليوم بمذهب أهل السنة وتفقه في معرفة أصول الدين من سائر المذاهب إلى الأشعري .. ))اهـ. التبيين 117.
وعلى الإجمال أيضا يقول عنه الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأشعري في العواصم من القواصم 27 :
(( واحتاج شيخ السنة وصاحبه لسان الأمة ومن دارت عليه من طبقاتهم الملة وأعيان السنة الجلة إلى أن يعقدوا في ذلك أبوابا ويجمعوه كتابا فأحسنوا عن الحق منابا .. )) ثم قال 71 :
(( ولم يتعرض لحماية الدين إلا آحاد اختارهم الله له، ونصبهم للذب عنه، فأولهم أبو الحسن الأشعري ـ وعارضه ابن ورقاء أمير البصرة ـ فقام به، وجرت بينهما حروب وجدال مذكورة، وتواتر بعده الأصحاب في الأحقاب على الأعقاب فحفظ الله دينه على من أراد هدايته، فلم يبق وجه من البيان إلا أوضحوه، ولا سبيل من الأدلة إلا نهجوها )) ثم قال 80 :
(( وعلى كل حال فالذي أراه لكم على الإطلاق أن تقتصروا على كتب علمائنا الأشعرية وعلى العبارات الإسلامية والأدلة القرآنية ))اهـ.
وعلى الإجمال أيضا يقول الإمام القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المالكي الشهير المتوفى سنة 474هـ يقول في المنتقى شرح الموطأ 7/204 ما نصه :
((وقد بلغ القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي في كتبه من هذا الباب ما لا مزيد عليه، ولا حاجة بالطالب إلا اليسير منه، وكان الشيخ أبو ذر [عبد] بن أحمد الهروي مالكيا وكان على مذهبه وممن أخذ عنه، وكان الشيخ أبو عمران موسى بن حاج الفاسي قد رحل إليه وأخذ عنه وتبعه، وكان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد والشيخ أبو الحسن علي بن محمد القابسي يتبعان مذهبه، وقرأ عليه القاضي أبو محمد عبدالوهاب بن نصر وهو ممن أخذ عنه واتبعه، وعلى ذلك أدركت علماء شيوخنا بالمشرق، وأهل هذه المقالة هم الذين يشار إليهم بأنهم أهل السنة))اهـ.
ونختم هنا بما سأل به عليُّ بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين بمراكش وثاني ملوك دولة المرابطين المتوفى سنة 537هـ الإمامَ القاضي الأوحد ابن رشد الجَدَّ القرطبي المالكي رحمه الله تعالى الملقب عند المالكية بشيخ المذهب عن رأي المالكية في السادة الأشاعرة وحكم من ينتقصهم .
[ وهذا نص السؤال والجواب ] :
ما يقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبوالوليد وَصَل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقَه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فُوْرَك، وأبي المعالي، وأبي الوليد البَاجي، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام ويتكلم في أصول الديانات ويصنف للرد على أهل الأهواء؟ أهم أئمة رشاد وهداية، أم هم قادة حَيْرة وعَمَاية ؟ وما تقول في قوم يسبونهم ويتنقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم ويتبرؤون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضون في جهالة، فماذا يقال لهم ويصنع بهم ويعتقد فيهم ؟ أيتركون على أهوائهم، أم يُكفّ عن غُلوائهم ؟ وهل ذلك جَرحة في أديانهم ودَخَل في إِيمانهم ؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا ؟ بين لنا مقدار الأئمة المذكورين، ومحلهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المتنقِصِ لهم، والمنحرف عنهم، وحال المتولي لهم المحب فيهم، مجمَلاً مفصَّلاً، ومأجورا إن شاء الله تعالى .
[ فأجابه ابن رشد رحمه الله ] :
تصفحت عصمنا الله وإياك سؤالك هذا، ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سمَّيْتَ من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات ، وبينوا ما يجب أن يدان به مِنَ المعتقدات، فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماءُ على الحقيقة، لعلمهم بالله عز وجل وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه، إذ لا تُعْلَمُ الفروع إلا بعد معرفة الأصول، فمن الواجب أن يُعترف بفضائلهم، ويُقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( يحمِل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين ) .
فلا يَعْتَقِدُ أنهم على ضلالة وجهالة إلا غَبِيٌّ جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق، وقد قال الله عز وجل: ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) .
فيجب أن يُبَصَّرَ الجاهلُ منهم، ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهلا ببدعة، فإن تاب وإلا ضرب أبدا حتى يتوب، كما فعل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه بصَبِيغ المتهم في اعتقاده، من ضربه إياه حتى قال: ( يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دوائي فقد بَلَغْتَ مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهِز عَلَيّ ) فخلى سبيله، والله أسأله العصمة والتوفيق برحمته، قاله: محمد بن رشد.
من فتاواه المطبوعة ( 2 / 802 ) ط1/ دار الغرب الإسلامي / بيروت / 1407هـ .
أفلا يستحيي من الله من يدع كل أئمة المذهب ويتشبث بسراب بقيعة يعزى لابن خويزمنداد؟؟!!
المبحث السادس ( مفهوم النص عند الحشوية وبيان تناقضهم )
بعد كل ما قدمناه يتضح لنا أن المتمسك بالمفهوم الخاطئ الجانح لنص كلام ابن خويزمنداد ـ والذي بات شذر مذر ـ إنما يهدف إلى تبديع أتباع الأئمة الأربعة عامة وأتباع مذهب الإمام مالك رضي الله عنهم خاصة، هذا واضح جلي بعد الذي تقدم إن شاء الله تعالى.
لكن لنا أن نتعجب كل العجب ممن يبني على كلام ابن خويزمنداد تبديع المتكلمين عموما بحيث يكون كل من خاض في الكلام مبتدعا، من العجيب أن من يتمسك بهذا تراه هو نفسه يمجد المتكلمين ويثني عليهم ويصفهم بأعلى الأوصاف وأفخمها !!.
نعم إن أول من يندرج ضمن المتكلمين، هو سيد المتكلمين في عصره والقائم بنصرة السنة على أتم وجه هو الإمام الأكبر شيخ أهل السنة أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، وكلام ابن خويزمنداد الذي لا يفرق بين أشعري وغير أشعري ـ حسب المفهوم الجانح ـ يشمل بظاهره وعمومه هذا الإمام الهمام، فيلزم من اعتد بالمفهوم الخاطئ لكلام ابن خويزمنداد أن يعتبر هذا الإمام رأس المبتدعين في عصره !! ولكن الذي حدث أن المؤسسات العلمية المتعصبة في هذا العصر لمثل كلام ابن خويزمنداد ناقضت نفسها فجعلت من رأس المتكلمين ما تراه في هذه الصورة :
http://forum.rayaheen.net/attachment.php?s=&postid=40468
الإبانة عن أصول الديانة
لإمام المتكلـمـين، ناصر سنة سيد المرسليـن، والذاب عن الدين، الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله ابن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشـــعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفى سنة بضع وعشرين وثلاثمائة.
فانظر واعجب كيف صار إمام المتكلمين بهذه المنزلة !! مع أن من بنى منهجه على المفهوم المغلوط لنص ابن خويزمنداد لا يمكن أن يصل إلى هذه النتيجة أبدا، ذلك أن كل متكلم عنده فهو مبتدع ولو كان سنيا !! أوليس هذا إذن من التناقض الذي تحمله هذه الفئة المتأخرة الجامعة لأصناف من الشذوذات والغرائب؟؟!!.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن المباحث الفلسفية الكلامية صارت شائعة وذائعة في كثير من نشراتهم ومطبوعاتهم، ومنها كتب ابن تيمية التي تعج بهذه اللغة الكلامية والآراء الفلسفية وإن كانت تلبس عنده ـ بشيء من الالتفاف ـ لبوس النصوص السلفية!!.
إن القول بأن كلام الله تعالى مثلا : ( قديم النوع حادث الآحاد ) !! بدعة كلامية وفكرة فلسفية، لا أثر لها في أي تراث سلفي، ولا تمت إلى القرون المفضلة بصلة، ومع هذا نراها ماثلة لدى الفئة الثملة من الحشو يتصورونها فكرة سلفية !! أضف إلى ذلك أمثلة أخرى ونماذج شتى لدى هذه الزمرة التي توهمت أنها تنتفع شيئا بما يعزى لابن خويزمنداد ولا تدري أنها ـ وحسب توهماتها ـ ممن يشملهم ما توهموه !! ولو كان ابن خويزمنداد على ما توهموه وظنوه لكان حكمه عليهم وعلى كتبهم بالبدعة والضلال أمرا لا مفر منه، وقد تكون لهم محاولات للجواب على مثل هذا للتملص من اللوازم الواضحة ولكن دون جدوى.
الخاتمة
بتوفيق من الله وفضل انتهى ما قصدت من الكلام والانتقاد، على نص ابن خويزمنداد، وقد تبين لكل منصف ذي رأي رشيد، أن مثل هذا النص لا يركن إليه إلا كل جاهل عنيد، وشيطان مريد، يهدف من ورائه إلى إضلال العوام وإفساد كل إمعة، ويسعى إلى تضليل أئمة الدين والعلماء العاملين من أتباع المذاهب الأربعة، وخاصة أئمة السادة المالكية، ذوي الرتب العلية، فقد أبنا ما فيه سندا ومتنا، وأشبعنا الكلام عليه مضمونا ومعنى، واتضح لكل إنسان فاضل ماجد، أن الأئمة والعلماء المالكية إنما هم والأشاعرة شيء واحد، وأن مذهبهم مبني على تعظيم الأشعري وتبجيل أصحابه، وتضليل المنحرفين عنهم وإخراجهم عن المذهب من أوسع أبوابه، وقد أشرق الحق، وظهر الصدق، وما كان والله خفيا، فليحذر المسلم أن يعادي لله وليا، فيؤذن من الله بحرب وما كان ربك نسيا، فالله العظيم نسأل التوفيق والثواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وسائر الأصحاب.
====================
استشهد الوهابية بكلام ابن خويز منداد للطعن بالسادة الأشاعرة، بدون الرجوع إلى أصحاب أهل الجرح والتعديل في شأنه
والغريب أنهم يقتطعون كلامه من بدايته وينسبونه للحافظ ابن عبد البر رحمه الله كذبا وزورا للتدليس على العوام المساكين الذين لا يقرؤون ولا يبحثون.
لذلك سأنقل ترجمة ابن خويز منداد عند المالكية وعلماء الجرح والتعديل لنعرف مكانة الرجل العلمية ومدى عدالته ..
ابن خويز منداد هو متهم عند المالكية وعند علماء الجرح والتعديل ،وليست له مكانة علمية معتبرة في أهم كتب تراجم المالكية، فهو ذو نظر ضعيف وصاحب فقه لين،كما نقله العلامة القاضي عياض المالكي رحمه الله في كتابه ترتيب المدارك، وتبعه عليه بعض العلماء، كابن فرحون رحمه الله في الديباج المذهب ..
- قال الإمام القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله في ابن خويز منداد: (إني لم أسمع له في علماء العراق بذكر) ..
وقد وصفه القاضي عياض رحمه الله بأنه لم يكن بالجيد النظر، ولا بالقوي الفقه، وأن عنده👈🏻 شواذا عن مالك، واختيارات وتأويلات لم يرجع عليها حذاق المذهب ….
كما شنع عليه القاضي عياض في (طبقاته للمالكيه) وزعم أنه كان يحط على أهل السنة،
-وهذا قول شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في لسان الميزان (5/291) ما نصه :
((عنده -ابن خويز منداد -شواذ عن مالك , واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب كقوله إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار وأن خبر الواحد مفيد العلم…
وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه وكان يزعم أن مذهب مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم ولا يجوز شهادتهم ولا مناكحتهم ولا أماناتهم , وطعن ابن عبد البر فيه أيضا )).اهـ
-وقال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله في (الأصول والفروع) ص150 :
(( وقد أدى السخف والضعف والجهل بحدود الكلام ممن يقع في نفسه أنه هو عالم وهو المعروف بخويز منداد المالكي أن جعل للجمادات تمييزا ))اهـ.
-وهذه ترجمة الإمام الذهبي رحمه الله له في الميزان (5/ 291):
(صنف كتبا كثيرة منها كتابه الكبير في الخلاف وكتابه في أصول الفقه وكتابه في أحكام القرآن وعنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب كقوله ان العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار وان خبر الواحد مفيد العلم وأنه لا يعتق على الرجل سوى الإباء والأبناء وقد تكلم فيه بن الوليد الباجي ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه وكان يزعم أن مذهب مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم ولا يجوز شهادتهم ولا مناكحتهم ولا أمانتهم وطعن ابن عبد البر فيه أيضا وكان في أواخر المائة الرابعة).
-وقد ذكره الإمام القرطبي المالكي رحمه الله في تفسيره 6/105 :
(( قال أبو عمر بن عبد البر ما أعرف كيف أقدم ابن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر وعلى خلاف جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين!! .. ))اهـ.
كما قال الإمام القرطبي في تفسيره 8/173 :
(( قاله ابن خويز منداد وحكاه عن المذهب وهذا لا ينبغي أن يعول عليه )) اهـ.
-وأختم بقول شيخ الإسلام العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله إذ يقول في فتاواه الحديثية ص275 :
(( وكيف يُرجع لابن خويزمنداد ويُترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة من الصحابة ومن بعدهم كالأشعري والباهلي والقلانسي والمحاسبي وابن فورك والإسفراييني والباقلاني وغيرهم من أهل السنة !! .. ))اهـ.
هذه هي أقوال علماء الجرح والتعديل وبخاصة المالكية في ابن خويز منداد .. فهل يعول على هذا الرجل بعد ذلك في حكمه شيئا ؟!!