تحرير مراد الإمام القرطبي في إثبات الجهة
هذا سؤال أرسل إلي:
أتمنى من فضيلتكم الجواب على كلام القرطبي الذي في تفسيره (7/ 219): (وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ).
الجواب عن ذلك:
الحمد لله العلي الكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله الخِيَـرة، وأصحابه البررة، وبعد:
فمقصود الإمام القرطبي لا يخفى على من سلك سبيل الإنصاف، وترك مهاوي الاعتساف، فإنه قطعاً لا يريد (الجهة الحسية) التي يثبتها المجسمة وينفيها أهل السنة، وإنما يريد إثبات العلو والفوقية بالمعنى اللائق بذي الجلال والإكرام، والدليل القاطع على ذلك ما يلي:
أولاً: قوله في نفس الموضع الذي نقلته أنت أخي السائل (كما نطق كتابه وأخبرت رسله)، ومعلوم قطعا أن (الجهة) لم ترد فيما نطق به الكتاب، ولا فيما أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إثبات العلو كقوله تعالى في آية الكرسي {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وإثبات الفوقية كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وإثبات الاستواء كما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54].
وإذا كانت (الجهة الحسية) لم ترد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الإمام القرطبي يريد بـ (الجهة) العلو، ويكون المعنى أن القرآن أثبت العلو والفوقية، وأن السلف والكافة من بعدهم أثبتوا ما أثبته القرآن والسنة.
ثانياً: إذا ثبتَ أن مقصود الإمام القرطبي بـ (الجهة) هو (العلو والفوقية والاستواء) فإنه يتعين علينا حتى نفهم كلامه أن ننظر في تفسيره لهذه الكلمات، وهذا ما سأورده قريباً.
ثالثاً: لو كان مقصود الإمام القرطبي أن الذي ورد إثباته (1- في كتاب الله و 2- أخبرت به رسل الله و 3- كان السلف ينطقون به و 4- وأثبته كافة العلماء بعدهم) هو (الجهةَ الحسية) فلا يمكن أن يقرر الإمام القرطبي نفي الجهة فإنه يكون -وباعترافه هو- قد خالف الكتاب والسنة والسلف والخلف، وهو قد قرر بالفعل نفي الجهة الحسية.
وبهذه الأمور الثلاثة يتبين قطعاً أن الإمام القرطبي المالكي الأشعري لا يريد إلا إثبات العلو والفوقية والاستواء بالمعاني التنزيهية اللائقة بالله تعالى، ويوضح ذلك أقواله التالية:
1- قوله قبل الموضع الذي نقلته أخي السائل (7/ 219): (والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين). فتراه قد نسب (نفي الجهة) إلى (أكثر المتقدمين والمتأخرين) و (عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين).
2- قوله بعد الموضع المنقول (7/ 220): (قلت: فعلوا الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق سبحانه). ففسر العلو – والذي عبر عنه سابقاً بالجهة – بأنه علو المجد والصفات والملكوت، وليس الجهة والتحيز.
3- قال الإمام القرطبي في كتابه (التذكار في أفضل الأذكار) صـ 22 : (وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية “أين الله” قالت: “في السماء” ولم ينكر عليها، وما كان مثله ليس على ظاهره، بل هو مؤول تأويلات صحيحة، قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم، وقد بسطنا القول في هذا بكتاب “الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى” عند قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]).
4- وقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] (6/ 399): (فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان).
5- وقال في تفسير آية الكرسي {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] (3/ 278): (يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى).
فلو كان الإمام القرطبي يرى أنَّ (الجهة) أي: (الجهة الحسية) مما نطق به القرآن والرسل والسلف والخلف هل كان سيرفضه، بل ويصف القائل بالجهة والمكان بما نقله عن ابن عطية (جهلة مجسمين).
وبعد هذا لا يبقى أدنى التباس في كلام القرطبي لمن أراد أنْ يفهم، ومن كان مقصوده العناد والجدال فلا علاج له. والله الموفق
كتبه/ الفقير إلى عفو الله
د. سيف علي العصري
20 رمضان 1437هـ
25 يونيو 2016 مـ
=========
يقول القرطبي في ( التذكار في فضل الأذكار ) عند كلامه عن المتشابه :
( ثم متبعو المتشابه لا يخلو :
1-أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام كما فعلته الزنادقة والقرامطة والطاعنون في القرآن ،
2- أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن الباري تعالى جسم مجسم وصورة مصورة وذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب وإصبع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،
3-أو تتبعوه على جهة إبداء تأويلها أو إيضاح معانيها ،
4-أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال ، فهذه أربعة أقسام :
الأول : لا شك في كفرهم وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة .
الثاني : الصحيح القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد .
الثالث : اختلف في جواز ذلك بناء على الاختلاف في جواز تأويلاتها ، وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلاتها مع قطعهم باستحالة ظواهرها فيقولون أمروها كما جاءت ، وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها ، وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين محتمل منها .
الرابع : الحكم فيه الأدب البليغ كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ ) انتهى
فها هو القرطبي يقرر مفهوم مذهب السلف عنده بكل وضوح وجلاء وأنه يعني عنده التفويض وعدم الحمل على الظواهر