حديث الجارية….
‘‘‘‘‘‘ب)الأدلة من السنة :
استدل القائلون بإثبات الفوقية على حقيقتها لله U بأدلة من السنة تحمل ظواهرها دلالة على أنه -تعالى – في السماء، ومن بينها : حديث الجارية المشهور -وهو العمدة عندهم -في ذلك.
فقد روى مسلم بسنده من حديث معاوية بن الحكم قال : ( كانت لى جارية ترعى غنمًا لي ، فانطلقت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة ، وأنا من بنى آدم آسف كما يأسفون ، فصككتها صكة ، فأتيت رسول الله T فعظم ذلك عليّ ، فقلت : ألا أعتقها؟ قال : إيتني بها ، فأتيته بها ، فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة ) ([1]).
وقد توقف الألباني طويلا عند هذا الحديث ساخرًا ومتعجبًا ، معتبرًا السؤال بأين الله : كاشفا عن حقيقة الإيمان ومقدار معرفة المرء بالله U ، ومندهشــًا من عدم إلمام العوام والخواص بهذا الأمر قائلا : ” فأنت إذا وجهت مثل هذا السؤال إلى العامة والخاصة : وجدتهم يحملقون بأعينهم مستنكرين إياه جاهلين أو متجاهلين أن النبي T هو الذي سنه لنا ، ثم تراهم مع ذلك حيارى لا يدرون بماذا يجيبون ، كأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لبيانه مطلقا لا في الكتاب ولا في السنة، مع أن الأدلة فيهما متواترة على أن الله تعالى في السماء . ولذلك فالجارية لما أجابت على السؤال بقولها: ) في السماء)شهد لها النبي T بأنها مؤمنة ؛ لأنها أجابت بما هو معروف في الكتاب والسنة ، فيا ويح من لا يشهد له الرسول T بالإيمان، ويا ويل من يأبى بل يستنكر ما جعله T دليلا على الإيمان ، وهذا والله من أعظم ما أصاب المسلمين من الانحراف عن عقيدتهم أن لا يعرف أحدهم أن ربه الذي يعبده ويسجد له أهو فوق خلقه أم تحتهم ، بل لا يدري إذا كان خارجا عنه أو في داخله حتى صدق فيهم قول بعض المتقدمين من أهل العلم : أضاعوا معبودهم وهم مع ذلك لم يبلغوا في الضلال شأن أولئك الذين حكموا عليه بالعدم حين قالوا : لا فوق ولا تحت . . . إلخ فحق فيهم قول بعضهم : ( المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ) “([2]) .
وهذا القدر الكبير من الأسف والأسى والأحكام القاسية التي وصل فيها الشيخ إلى حد وصف عوام المسلمين وخواصهم بالانحراف عن العقيدة ، وبالتعطيل لصفات الرب U ، كل ذلك قد بناه على حديث الجارية .
وقد خالف كثير من المصنفين الإمام مسلم T؛حيث لم ترد في روايتهم للحديث لفظة(أين الله) التي تفرد بها الإمام مسلم .
وقد رووا الحديث بلفظ:(أتشهدين أن لا إله إلا الله ، قالت: نعم ،قال:أتشهدين أنى رسول الله ، قالت: نعم،قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت ، قالت : نعم ، قال : فأعتقها )([3]) في مسند الإمام أحمد ، وهو الملائم لما تواتر عن النبي T أنه إذا أتاه آت يريد الإسلام سأله عن الشهادتين ، ولم يكن يسأله أين الله .
وقد وقع في بعض الروايات أن حديثه T مع الجارية : لم يكن إلا بالإشارة ، ثم سبك الراوي ما فهمه من الإشارة في لفظ اختاره([4])، ففي رواية عطاء بن يسار: ( فمد النبي T يده إليها مستفهما من في السماء ؟ )وهذا –كما يقول الكوثري –من الدليل على أن (أين الله) لم يكن لفظ الرسول T وقد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما تراه من الاضطراب([5]) . كما أن البيهقي نفسه قد أشار إلى الاضطراب إشارة واضحة([6]) ، وقد وجه الألباني أشد اللوم إلى الكوثري وانتقده أشد الانتقاد على هذا الكلام الذي سبق منه ([7]) ثم قارن – أيضا “ما ذكره ابن خزيمة في التوحيد (ص80) لتجد أثر هذا الاضطراب الذي أشار إليه الكوثري مما اضطر ابن خزيمة إلى الاعتذار عن هذا الاضطراب:بأن الحديث حديثان لا حديث واحد .
أما أبو بكر بن فورك فتجد أنه يحمل سؤال النبي T لها على أنه : استعلام لمنزلته تعالى وقدره عندها وفى قلبها ، وليس استعلامًا عن المكان : بما يقتضيه من التحديد والتمكن([8]) وحذا الفخر الرازي حذو ابن فورك تقريبا([9]).
ووافق إمام الحرمين ابن فورك على هذا الاتجاه ، ولكنه أضاف إلى المسألة بعد آخر، فقد سأل النبي T أم جميل:كم تعبدين من إله ؟ فقالت : خمسة ، كما سأل T أبا حصين : كم تعبد اليوم من إله، قال: سبعة … ويتابع الجويني قائلا : فكما لا يجوز حمل سؤاله عليه السلام بـ ( كم ) على أنه إقرار للتعدد فكذا لا يجوز حمل سؤاله للجارية بـ ( أين ) على أنه إقرار بالمكان أو الجهة ([10]).
أما قبوله عليه السلام لإجابة الجارية : فلأنها كانت عجماء لا تفصح – كما تقول بعض روايات ابن خزيمة للحديث – وليس في الروايات الصحيحة ما يفيد أنها كانت خرساء ، ثم قارن ذلك كله بما ورد في شرح مسلم للنووي من أنه عليه السلام أراد امتحان الجارية ، هل تقر بأن الخالق المتعال : هو الله الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء “([11]).
وكل هذه التخريجات التي خرجها العلماء للفظة ( أين الله ) : تجعل استشهاد الذهبي T بما ذهب إليه من أن المصنفين قد خرجوا الحديث دون أن يتعرضوا له بتأويل- غير ذى محل([12]) فإن ” عادة الأئمة عند رواياتهم للأحاديث في كتب الصحاح والسنن :عدم التعرض لها بالتأويل والتفسير إلا في القليل النادر :ومنهم الإمام النووي في ( شرح صحيح مسلم ) ، والقاضي عياض كما في المرجع السابق والإمام ابن الجوزي في ( دفع شبه التشبيه )،والحافظ ابن العربي في(شرح سنن الترمذي )،والحافظ الباجي في ( المنتقى ) وغيرهم ، وقد نفى الحافظ ابن حجر الأين عن الله تعالى -كما في فتح الباري في عدة مواضع-“([13])وإنما كانت لفظة ( أين ) مستوحشة لدى من أولوا هذا الحديث : لما تشعر به من نسبة المكان والجهة إلى الله U’’’’’
كذا في: جهود الإمام الطبري في الصفات الخبرية مقارنة بجهود السلفية المعاصرة
رسالة دكتوراة مقدمة من الباحث/محسن عبد الواحد سيد أحمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
( [1] ) رواه مسلم في صحيحه برقم 537 .
( [2] ) من مقدمة الألباني لمختصر العلو صـ53 .
( [3] ) رواه أحمد في مسنده 3 /452 ، وعبد الرزاق في مصنفه 9/ 175 ، والبزار في كشف الأستار 1 /4 ، وقال الهيثمي في المجمع ( ورجاله رجال الصحيح ) مجمع الزوائد 4/ 244 .
( [4] ) انظر تعليق الكوثري على الأسماء والصفات ص 390 .
( [5] ) نفس المصدر ص 391 ، السيف الصقيل ص 107 .
( [6] ) انظر كلام البيهقي وتعليق الكوثري عليه ص 391 .
( [7] ) انظر مختصر العلو ص 81 فما بعدها .
( [8] ) أحال إلى مشكل الحديث ص58 وما بعدها .
( [9] ) أحال إلى أساس التقديس ص 166 .
( [10] ) أحال إلى الشامل ص 56
( [11] ) من بحث الدكتور محمد عبد الفضيل في الحولية بتصرف يسير – كلية أصول الدين بالقاهرة – العدد 15 ص 105 : 106
( [12] ) انظر العلو للعلي الغفار بتحقيق السقاف ص 119
( [13] ) المصدر السابق ص119 حاشية .
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/638065919640767