أقوال السادة الحنابلة في التوسل بالنبي الكريم وطلب الشفاعة منه:
51 – قال الإمام الموفق بن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه ” المغني ” شرح ” الخرقي ” -وهو شيخ [شيوخ] ابن تيمية-:
{ .. ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه وعباده، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه الأولون والآخرون …….
.. اللهم إنك قلت وقولك الحق: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد أتيتك [يا رسول الله] مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي …. }.اهـ
فقوله: ” مستشفعا بك “: أي طالبا منك الشفاعة، لأن (السين) للطلب، فخطابه لرسول الله- ?- وطلب الشفاعة منه، دليل على أن ذلك مستحب عند السادة الحنابلة.
والإمام الموفق قال عنه ابن تيمية -كما نقله ابن رجب وابن العماد الحنبلي في “الشذرات”- (ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق)). وقال الحافظ الضياء المقدسي رحمه الله تعالى: رأيت الإمام أحمد رحمه الله تعالى في النوم فقال: (ما قصر صاحبك الموفق في شرح ” الخرقي”). وقال الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: ((ما رأيت في الإسلام مثل ” المغني ” للموفق في جودته وتحقيق ما فيه)).
52 – وذكر الإمام شمس الدين بن قدامة الحنبلي في ” الشرح الكبير ” (وهو شرح ” المقنع “) في آخر الحج في ” باب زيارة النبي -?- ” رواية عن العتبي، وذكر للزائر أن يخاطب النبي -?- ويطلب منه الشفاعة.
وهذا غير الموفق بن قدامة صاحب “المغني”.
قال الحافظ الذهبي: (رأيت بخط ابن تيمية [يقول عن صاحب الشرح الكبير] ما نصه: ” توفي سيد أهل الإسلام في زمانه، و قطب فلك الأيام في أوانه، وحيد الزمان حقا حقا، و فريد العصر صدقا صدقا، الجامع لأنواع المحاسن والمعالي، البريء عن جميع النقائص والمساوي، حتى إن كان المتعنت ليطلب له عيبا فيعوزه … “) اهـ، ذكره ابن العماد في ” الشذرات “.
53 – وقال ابن مفلح الحنبلي في ” شرح المقنع “:
{قال في المذهب: يجوز أن يستشفع إلى الله تعالى برجل صالح، وقيل: يستحب. قال أحمد بن حنبل في ” منسكه ” الذي كتبه للمروذي: ” يتوسل بالنبي -??- في دعائه“، وجزم به في ” المستوعب ” وغيره}.
54 – وذكر الإمام نصير الدين الحنبلي في ” المستوعب ” رواية العتبي، وذكر الآية، وقال كما في ” المغني ” و ” الشرح الكبير ” و زاد عليهما:
{اللهم إني أتوجه إليك بنبيك -?- نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي}.
55 – وهذا الذي ذكره الإمام أحمد في ” منسكه ” للمروذي، كما قال في ” المبدع ” وجزم به في ” المستوعب “، وهذه العبارة التي تقدمت هي عبارة ” المستوعب “.
56 – و في ” منسك ” الشيخ سليمان بن علي، مثل ما في ” المغني ” و “الشرح الكبير” من طلب الشفاعة من النبي -?-.
57 – و قال في “مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى” في باب الحج:
{(ثم يأتي القبر الشريف فيقف قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة) ويستقبل جدار الحجرة والمسمار الفضي في الرخامة الحمراء، ويسمى الآن الكوكب الدري، ويكون (مطرقا غاض البصر خاضعا خاشعا مملوء القلب هيبة، كأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم) فإنه اللائق بالحال (فيسلم عليه) صلى الله عليه وسلم (فيقول: السلام عليك يا رسول الله، كان) عبد الله (ابن عمر لا يزيد على ذلك، وإن زاد) عليه (فحسن كالنطق بالشهادتين).
قال في ” الشرح ” وشرح المنتهى “: ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله، وخيرته من خلقه وعباده …..
…. اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
ثم يدعو لوالديه وإخوانه وللمسلمين أجمعين}.اهـ
58 – وقال الامام الحجاوي في الاقناع:
(ثم يرجع إلى موقفه الاول قبالة وجه النبي (ص) ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه).
59 – و قال البهوتي-شيخ الحنابلة- في “كشف القناع”:
{(فصل:وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه}.اهـ
ثم ذكر التوسل والإستشفاع بالنبي -?- عند زيارة قبره كما مر في “المغني” وغيره , وذكر قصة العتبي وقوله: (وقد جئتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي).
60 – و قال ابن مفلح في “الفروع ” أيضا:
{ويجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه. قال أحمد في ” منسكه ” الذي كتبه للمروذي: (و يتوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه)، وجزم به في ” المستوعب ” وغيره}. انتهى.
وأما صفة التوسل الذي كتبه الإمام أحمد للمروذي رحمهما الله تعالى و جزم به في ” المستوعب “، فهو ما ذكرناه عنه سابقا، وليس في ” المستوعب ” غيره؛ وهو قوله: ((يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي … )).
61 – وفي ” الغنية ” للإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي في ” باب الزيارة “:
{[يقول الواقف أمام القبر]: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي.} اهـ
62 – وذكر الإمام يحيى الصرصري الحنبلي -في شعره- الاستغاثة برسول الله -?-، وهو من أقران مجد الدين جد الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأثنى عليه ابن تيمية في كتابه ” الانتصار” فقال: (الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور)، وذكر شيئا في مدح الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهي القصيدة اللامية التي فيها العقيدة و في آخرها:
ولست من الخطب الملم بخائف = وأنت لدى كل الحوادث لي ولي
بعدما خاطبه بقوله:
لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة = إليها بها في الحادثان توسلي
وسل لي رب العالمين يميتني = على السنة البيضاء غير مبدل
وقال في قصيدة أخرى:
ألا يا رسول الله أنت وسيلتي = إلى الله إن ضاقت بما رمت حيلتي
وكل ديوانه هكذا، وديوانه مشهور في أقطار الدنيا من قبل زمان ابن تيمية إلى يومنا هذا، فلم يعترض عليه أحد، بل مدحه تقي الدين بن تيمية بقوله: (الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور). فلو كان نداء النبي -?- والسؤال منه وطلب شفاعته شركا وكفرا، لتكلم الأئمة الأعلام عليه وذموه وحذروا الناس من شعره والتكلم به والنظر فيه.
فلما لم يتكلم عليه أحد من جميع العلماء من زمانه إلى يومنا هذا، دل على أن هذه الأمور ليست من الشرك الأكبر، بل ولا من الشرك الأصغر، لأن الشرك الأصغر -وإن لم يكن مخرجا عن الملة- فهو محرم أو مكروه مسقط للعدالة.
بل قد أثنى العلماء الأعلام على الصرصري -رحمه الله تعالى- ومدحوه على الشعر، منهم ابن رجب الحنبلي في ” ذيل الطبقات “، ومنهم ابن العماد الشامي الحنبلي في كتابه ” شذرات الذهب ” وغيرهم من العلماء و الأئمة الحفاظ و المؤرخين.
63 – وقال الشيخ شبيب بن حمدان أخو صاحب ” الرعايتين” الحنبلي الحراني- وهو ابن عم مجد الدين بن تيمية-: {عارض الإمام الصرصري قصيدة ” بانت سعاد ” [لكعب بن مالك] بقصيدة عظيمة، منها قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
فاشفع لقائلها يا من شفاعته * تفك من هو مكبوت و مكبول}.اهـ
64 – أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي قال في التبصرة 2/ 246:
(وإذا وصل الحاج إلى المدينة المشرفة فيجعل على فكره تعظيم من يقصده وليتخايل في مساجدها وطرقاتها نقل أقدام المصطفى هناك وأصحابه وليتأدب في الوقوف وليستشفع بالحبيب وليأسف إذ لم يحظ برؤيته ولم يكن في صحابته). .
وهذه النصوص في كتب عندي مع قصر باعي و قلة اطلاعي، وقد تركت كثيرا منها خوف السآمة والملامة، ومن لم ينفعه الله تعالى، لم ينفع نصح الملأ له.
فهذه نصوص علماء الحنابلة، بل نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ” منسكه ” للمروذي.
فقد أطبق متقدموهم و متأخروهم على ندائه وخطابه وطلب الشفاعة منه -?-.
فكيف يصح أن يقال: هذا كفر و شرك؟؟!!، فهل هذا إلا جهل و إفك على العلماء الأعلام؟!!
وهؤلاء الذين نقلنا عنهم من أئمة المذاهب الأربعة هم عمدة أهل كل مذهب وغيرهم مثلهم، ولكنا لو أردنا أن ننقل كل من ذكر، لضاق النطاق ونفدت الأوراق. وهؤلاء هم فقهاء المذاهب و نقلة الدين، والناس عنهم أخذوا أقوال أئمتهم من المذاهب جيلا بعد جيل.
وقد نقل الذهبي عن ابن تيمية في ” مختصر منهاج الاعتدال “:
{إن جميع أرباب الفنون يجوز عليهم الخطأ إلا الفقهاء والمحدثون؛ فلا هؤلاء يجوز عليهم الاتفاق على مسألة باطلة، ولا يجوز على هؤلاء التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق} انتهى.
وهؤلاء الوهابية جعلوا رأس مالهم الطعن في نقلة الدين، وسوء الظن بهم وعدم الرضا بأقوالهم المخالفة لهواهم. فإن كانوا عندك مرضيين أيها المعترض، فبها ونعمت، وإلا فأنت مدع لك رتبة لا تسلم لك، أو تموت فيقال لك: من أين أخذت علمك هذا؟ فإن كان عن الله ورسوله فما أظن هؤلاء جميعا عدلوا عنه، وإن حظيت به و جهلوه وأنت علمته، فقد قدمنا لك من الآيات والأحاديث والآثار ما هو رد عليك، إذ يكفي ورود ذلك حجة عليك ودلالة ظاهرة للأمة المحمدية.
بل كيف يكون هؤلاء جميعا لم يعلموا الشرك من التوحيد، و علمته شرذمة من الخوارج؟!
و يقول صلى الله عليه و سلم: (من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد). أخرجه الترمذي و قال: حديث حسن صحيح.
و روى الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في “تلبيس إبليس” عن أسامة بن شريك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم). قال: وبالإسناد قال الإمام أحمد: ثنا روح ثنا سعيد عن قتادة قال ثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد).
قال: وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة؛ فعليكم بالجماعة فإن الله عز وجل لم يجمع أمتي إلا على الهدى).
وعن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف يركض).
قال: وروى أحمد و الطبراني و الحاكم في المستدرك من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبيه).اهـ (1)
1 – عن: نحت حديد الباطل وبرده , بتصرف كثير بزيادات وحذف واختصار.