شوارد الأفكار
أحكي لك قصة المولى دده خليفة (٩٧٣هـ).
كان – رحمه الله- أول أمره مشتغلًا بصنعة الدباغة سنين، حتى أناف عمره على عشرين، وما قرأ حرفًا من العلوم، وما اجتمع بواحد من أرباب الفهوم، ثم منَّ الله تعالى عليه بأكبر آلائه، فصار من أعيان عصره وعلمائه.
والقصة بدأت حين كان في أماسية، فاتفق أن جاءها مفتٍ من علماء ذلك العصر، فاجتمع فرقة من أعيان البلدة، واستقبلوا المفتي وذهبوا به إلى بعض الحدائق، وكان في القوم الشاب دده خليفة، فلما باشروا أمر الطعام طلبوا من يجمع لهم الحطب، وهو قائم على زي الدباغين الجهلة، فأشار المفتي إليه وقال: فليذهب هذا الجاهل!!
ففهم منه الدبّاغ ازدراءه لشأنه، وعلم أنه ليس ذلك إلا من شائبة الجهل، وذهب إلى جمع الحطب وفي نفسه تأثر عظيم من ازدرائه وتحقيره!
فلما بعُدَ عنهم نزلَ على ماء هنالك، وتوضأ منه، وصلى ركعتين، ثم ضرب وجهه على الأرض، وتوجه بكمال التضرع والابتهال إلى جناب حضرة المتعال، وطلب منه الخلاص من ربقة الجهل والنقصان، واللحوق بمعاشر الفضل والعرفان، متكلًا على قوله تعالى: فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان.
ثم قام وأخذ من الحطب ما يتحمله، وجاء إلى المجلس وفي وجهه جراحات تدمي من شدة مسح وجهه بالتراب، فتضاحك القوم منه، وظنوا أن ذلك من مصادمة الأشجار عند الاحتطاب!
فلمّا تمّ المجلس قام وقبَّلَ يد المفتي، وقال: أريد ترك الصناعة، والدخول في طلب العلم!!
فقال المفتي: أبعدَ هذا تطلب العلم؟ وهو لا يحصل إلا بجهد جهيد، وعهد مديد، وعزم صادق، وحزم فائق، ولا بد من خدمة الأستاذ أكثر من المعتاد، وأنت لا تتحمل هذه المشاق، ولا تحتمل ذلك الوثاق!
فتضرع الدباغ وأبرم عليه في القبول، إلى أن قبله المفتي لخدمته، ورضي بتعليمه.
فلما أصبح باع ما في حانوته، واشترى مصحفًا، وذهب إلى باب المفتي، وبدأ في القراءة، وقام في الخدمة إلى أن حصّل مباني العلوم، ودخل في سلك أرباب الاستعداد، وتحرك على الوجه المعتاد، حتى صار معيدًا لدرس المولى سنان الدين، ثم ترقى في المدارس، وفوض له الإفتاء في أكثر من مكان.
كان رحمه الله عالمًا فاضلًا مجتهدًا في اقتناء العلوم، وجمع المعارف، آيةً في الحفظ والإحاطة، له اليد الطولى في الفقه والتفسير، وكتب حاشية على شرح التفتازاني في الصرف وبسط الكلام وبالغ في جمع الفوائد والمهمات، وله منظومة في علم الفقه، وعدة رسائل من فنون عديدة.
رحمه الله وتقبل منه.