يتابع صديقنا العلامة أحمد زاهر كلامه الماتع فيقول: …إذا عرفت هذا فإن أهل السنة أبطلوا كون الله في جهة، لأنها أمر اعتباري بين موجودين، والله تعالى قديم في الأزل، كان ولا شيء معه ولا شيء غيره، متفرداً بالوجود، فقد كان ولم تكن هناك جهة أصلاً، لأن الجهة حادثة بإحداث الإنسان ونحوه من الحيوان، والله تعالى لا تطرأ عليه الحوادث ولا تقوم به.واستدلوا أيضاً بأن الجهات متساوية في نفسها، ولابد للاختصاص بواحدة منها من مخصص يخصص الشيء بأحد الجهات الجائزة، فالاختصاص بجهة معينة ليس بواجب لذاته بل جائز يحتاج إلى مخصص، فيكون الاختصاص فيه معنى زائداً على ذاته، وما تطرق الجواز إليه يستحيل أن يكون قديماً، وقد ثبت أن الباري تعالى قديم، وأن القِدم عبارة عن وجوب الوجود من جميع الجهات (1).هذه شذرات من أهم أدلة أهل السنة على بطلان نسبة الجهة إلى الله، لا ما أشار إليه ابن تيمية من حلول الله في العالم، وأن ذلك مُسلّم لو كانت الجهة وجودية، فتنبه.فهذا التقسيم والتشقيق من ابن تيمية غير مسلم، ولا ندعي أصلاً أن الجهة وجودية. فلم يبق إلا قوله: إن الجهة المراد إثباتها لله عدمية.وعندئذ نقول: إن ابن تيمية يدعي أن الجهة يحصل بها من التمايز بين الموجودات أكثر مما يحصل بصفات المعاني كالقدرة والإرادة والعلم، فتميز الله بالجهة عن خلقه أعظم من تميزه بالعلم ونحوه من صفات المعاني، فكيف يجوز له أن يقول: إن الجهة أمر عدمي، فهل الله يتميز عن خلقه بأمر عدمي (2).وكيف نعبر عن أمر عدمي بظرف المكان (هناك)؟ وكيف نتحدث عن أمر عدمي بنفس ما استخلصناه من أمور وجودية كالاستواء؟ ألا نتعرض بذلك لوصفه تعالى بأمرين متناقضين معاً في هذا الاستواء: الأول: كونه وجودياً ضرورة عدم أخذ ابن تيمية بالصفات السلبية المحضة، والثاني: كونه عدمياً وهو هذه الجهة التي يتحدث عنها.__________
انظر السابق
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/459445924169435/
(1) – الاقتصاد ص 112ـ 113، المسامرة ج 1 ص30.(2) – الكاشف الصغير ص 278 – 279.
وكيف يقبل ابن تيمية وصف الله بالأمر العدمي وهو الذي طالما أنكر على أهل السنة وصفهم الله بالصفات السلبية (1)؟!ولعل ابن تيمية في إثباته الجهة ورده على النفاة بتفسيرها إلى وجودية وعدمية متأثراً* إلى حدٍ ما بابن رشد الذي صرح بإثبات الجهة في كتاب الكشف، وفرّق بينها وبين المكان (2)، كما يقول الدكتور محمد خليل هراس، ولكن ليس في كلام ابن رشد تقسيم الجهة إلى وجودية وعدمية.وقد أقر ابن تيمية بأن لفظ الجهة لم يرد في الشرع، وإن كان في معناه -عنده- ما هو حق وباطل، وكان يجب عليه بما أنه سلفي يدعي أنه لا يقول شيئاً لم يرد في الشرع أن يتورع عن نسبة الجهة إلى الله تعالى ولكننا وجدنا في كلامه ما يكذبه في دعواه، وجدناه يصرح بإثباتها كما سبق، ويصرح بأن مباينة الله لخلقه بالجهة والمقدار أعظم من مباينتهم بالصفات ويصرح أن (كون الرب إلهاً معبوداً يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة، وذلك أن العبادة تتضمن قصد المعبود وإرادته وتوجه القلب، ثم يقول: فلابد وأن يكون بجهة منه).وقد رد على ذلك من قبل الإمام الغزالي رحمه الله في الاقتصاد رداً رائعاً أثناء رده على شبهة رفع الأيدي إلى السماء، قال في أثناء كلامه: (وكيف جهل من قلّت بصيرتُه ولم يلتفت إلا إلى ظاهر الجوارح والأجسام، وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح، ولم يعرف أن المظنة الأولى للتعظيم القلب، وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة، لا باعتقاد علو المكان، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بالقدر الممكن فيها، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات) (3).فيكون ابن تيمية قد خلط بين حركة القلب وحركة الجوارح، مع أن حركة القلب تعقلية لا حركة في الأين (4).ويدعي ابن تيمية …….انتظره
(1) – تجديد المنهج ص 173 – 174.*قال وليد : الصواب “متأثرٌ” بالرفع، خبر “لعل”. والله أعلم
(2) – ابن تيمية السلفي ص143 – 144.
(3) – الاقتصاد ص 115ـ 116.
(4) – الكاشف الصغير ص285.