الدرس الخامس والثلاثون
تابع لما سبق
مناقضة: لـربـما جـادل معتقدو الجهة بالباطل فقالوا: إن قوله ﷺ: «إن الله ﷺ قبل وجه أحدكم …» من الأحاديث المتشابهة. ويجاب: بأن حديث الجارية كذلك من الأحاديث المتشابهة . ولئن قالـوا: هـو نـص يجب تأويله. يجـاب: بأنه لماذا يجب تأويله؟ لأنه يعارض التنزيه؟ أم لأنه لا يعارض التشبيه؟ فإن وجب لأنه يوهم في ظاهره الحلول والاتحاد، وهما تشبيه له سبحانه بمخلوقاته، لزم أيضاً وجوب تأويل حديث الجارية لأنه يوهم بظاهره أنه سبحانه وتعالى في جهة، ولا يكون في جهة إلا الحادث . ولئن قالـوا: حديث الجارية صحيح، وتؤيده النصوص القطعية. أجيبوا: بأن هذا الحديث صحيح أيضاً وتؤيده النصوص القطعية، قد قال تعالى: ﴿ وهو الله في السموات وفي الأرض ﴾ [الأنعام: 3]. وقال: « فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [البقرة: 115].
وغيرها كثير. ولئن قالوا: هذا حديث ظني الثبوت. أجيبوا: بأن حديث الجارية كذلك. أضف إلى ذلك أنه قد ورد في بعض الروايات أن هذه الجارية كانت خرساء، فأشارت إلى السماء.
فعن أبي هريرة ه: أن رجلاً أتى النبي ﷺ بجارية سوداء أعجمية ، فقال : یا رسول الله، إن عـلي عتق رقبة مؤمنة. فقال لهـا رسول اللہ ﷺ: «أين الله»؟ فأشارت برأسها إلى السماء، أو بإصبعها السبابة، فقال لها رسول الله: «من أنا»؟ فأشارت بإصبعها إلى رسول الله وإلى السماء. أي أنت رسول الله، قال: «أعتقها». كذلك سؤال: «أين الله» لم يكـن القاعـدة المطردة لمعرفة إيـمان مـن دخـل في الإسلام، بدليل أنه عليه الصلاة والسلام كان يسأل: أتشهدين أن لا إله إلا الله، أو: مـن ربـك؟ فقـد ورد عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول اللہ ﷺ بجارية له سوداء، فقال: يا رسول الله، إن علّي رقبة مؤمنة، فـإن كـنـت تـراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله: «أتشهدين أن لا إله إلا الله» . قالت: نعم، ثـم قـال: «أتشهدين أن محمداً رسول الله». قالت: نعم. قال: «أتوقنين بالبعث بعد الموت». قالت: نعم. فقال رسول اللہ ﷺ : «أعتقها»”. وعن الشريد بن سويد الثقفي ﷺ قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة، وعندي جاريـة سـوداء نوبية، أفأعتقها؟ قال: «ادعها». فدعوتها فجاءت، فقال: «مـن ربـك». قالت: الله. قال: «فمـن أنـا». قالـت : رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة »(3). وقد قال الإمام النووي في شرحه حديث الجارية:… (لقد كان المراد امتحانها : هـل هـي مـوحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله سبحانه، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه انحصر في السماء، كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عَبدة الأوثان التي بين أيديهم. فلما قالت: في السماء، علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان).
وقال العلامة الكوثري عـنـد قـوله ﷺ للجارية: «أين الله»… على أن «أين» تكون للسؤال عن المكان ، وللسؤال عن المكانة، فإن المكان يستحيل عليه”. والخلاصة: أن من لم يصرف لفظ المتشابه ـ آية كان أو حديثاً ـ عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل، ومن فسره تفسيراً بعيداً عن الحجة والبرهان قائماً على الزيغ والبهتان فقد ضل، كالباطنية. وكل هؤلاء يقال فيهم: إنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، أما من يصرف المتشابه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلباً للفتنة ولكـن مـنعاً لها، وتثبيتاً للناس على المعـروف مـن دينهم، ورداً لهـم إلى محكـمات الكتاب القائمة، فأولئك هـم هادون مهديون حقاً، وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها، وأئمتها وعلماؤها، وهاؤم بعض النصوص في نفي الجهة عنه سبحانه : قال ابن اللبان: لما ادعى فرعون الربوبية واعتقد الجهة الله تعالى قال: ياهمان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (3) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى [القصص: ۳۸]. فرد الله تعالى عليه، وسخف رأيه بقوله: «وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل ﴾ [غافر: 37]. أي عدل عن سبيل القرب والدنو من إله موسى، فإنه سبحانه منزه عن علو المكان. وقول موسى : وعجلت إليك رب لترضى ) [طه: 84]. لم يبن له صرحاً، ولا احتاج في الدنـو والقرب إلى صعود
السماء. وكذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث جاء ربه بقلب سليم، فكان مجيئه إليه سبحانه ووصوله إنها بسلامة القلب، لا بالتسور والصعود. وقال الإمام الفخر الرازي: المشبهة احتجوا بقوله تعالى: «بل رفعه الله إليه » [النساء: ١٥٨). في إثبات الجهة. والجواب: هو أن المراد الرفع إلى موضع لا يجري فيه حـكـم غير الله تعالى، كقوله تعالى: «ومن يخرج من بيته، مهاجرا إلى الله ورسوله ) [النساء: 100]. وقد كانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة المنورة، وقد قال إبراهيم ال: «إني ذاهب إلى ربي سيهدين ﴾ [الصافات: ٩٩]).
قال العلامة النسفي: معنى قوله تعالى: «بل رفعه الله إليه » . أي إلى حيث لا حكم فيه لغير الله تعالى). قال ابن حجر : قال الكرماني: قوله تعالى: «أأمنتم من في السماء ﴾ [الملك: 16]. ظاهره غير مراد، إذ إن الله تعالى منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات”). وقال البيهقي:… وليس معنى قول المسلمين: (إن الله استوى على العرش) أنه مماس لـه،أو متمكن عليه، أو متحيز في جهـة مـن جهاته، لكنه بائن من خلقه
وقد أوضح معنى البينونة هذه فقال: وأنه فوق الأشياء بائن منها، بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها، ولا يمسها، ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة، تعالى الله ربنا عن الحلول والماسة علواً كبيراً.
وقال الإمام الرازي:
١ـ لـو وجـب اختصاصه تعالى بالجهة لكان محتاجاً إليها، وذاك يقدح في كونه غنياً على الإطلاق.
۲ـ قوله تعالى: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ [البقرة: 186]. وقد سئل رسول اللہ ﷺ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ولو كان سبحانه في السماء أو العرش لما صح القول بأنه تعالى قريب من عباده.
3 ـ قوله تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ [القصص: ۸۸]. ظـاهـره يقتـضـي فـناء العرش، وفناء جميع الأحياز والجهات، وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزهاً عن الحيز والجهة، وورد في صحيح البخاري أنه ﷺ قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره» “). وإذا ثبت ذلك امتنع أن يكون الآن في جهة، وإلا لزم وقوع التغير في الذات .
٤ـ ولـو كـان سـبحانه متحيزاً لكـان متناهياً، وكـل مـتـناه ممكـن، وكـل ممكـن
حادث، فلو كان متحيزاً لكان محدثاً، و ، وهو باطل. وقال العلامة الشيخ أحمد فهمي أبـو سـنـة عـنـد كـلامـه حـول معرفة أسباب النزول: إن معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها عند نزول القرآن ضروري، لأن كثيراً من الألفاظ إذا أريد تفسيرها بمجرد اللغة، من غير رجوع إلى هذه العادات، وقع المفسر في الغلط والجهل… ومن ذلك قوله تعالى: « يخافون ربهم من
فوقهم ﴾ [النحل: 50]. وقوله: «أأمنتم من في السماء * [الملك: 16]. وأشباه ذلك إنها جرى على معتادهم من اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفـوق وتخصيصه تنبيها على نفـي مـا ادعـوه في الأرض من الأوثان، فلا يكون فيه دليل على إثبات الجهة الله سبحانه. ومـن ذلـك قـوله: « وأنه هو رب الشعري ﴾ [النجم: 49]. فعين هذا الكوكب، مع أنه رب الكواكب كلها، لأن خزاعة من العرب قد عبدته “. وقال القرطبي في تفسيره: ثـم إن إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكني، وكذلك العرش”.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقـد كـفـر، لأن هـذا يـوهم أن للحق سبحانه مكاناً، ومن توهم أن للحق مكاناً فهو مشبه.
وانظر السابق: