مقتطف من مقال رائع جدا بعنوان”مركز أبي الحسن الأشعري وخطورة تبني فكر “كتاب الإبانة” .. محمد احميمد”
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/1306288982818454/
v مضامين “كتاب الإبانة”
سأورد هنا بعض الطوام المبثوثة في “كتاب الإبانة” والتي يريدون للمغاربة اعتقادها والتسليم بها والتزام نتائجها.
ü قوله بالتشبيه والتجسيم
– نسبة المكان إلى الله
ومنها أن الله في السماء جالس على عرشه، يقول الأشعري: “ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماء”.[9] وأن الله سبحانه ساكن في السماء ومحتجب بسبع سموات، يقول الأشعري: “ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون جميعا: (يا ساكن السماء)، ومن خلَفَهم جميعا: (لا والذي احتجب بسبع سموات)”[10] ويقول: “أن الله تعالى على عرشه في السماء”،[11] – تشبيهه تعالى بالمخلوقين ونسبة الأعضاء إليه
يقول في الإبانة: “وأن له سبحانه وجها (بلا كيف) كما قال ((ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام))”[12] ويقول: “قال الله تبارك وتعالى: ((كل شئ هالك إلا وجهه))…فأخبر أن له (سبحانه) وجها لا يفنى ولا يلحقه الهلاك”.[13] فعلى منطق صاحب الكتاب، إن كل ذات الله تفنى وتهلك إلا وجهه؟! سبحانه وتعالى عما يصفون.
وكذلك يقول: “ونفى الجهمية أن يكون لله تعالى وجه كما قال، وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين”.[14] ويقول: “وأن له سبحانه يدين بلا كيف، كما قال سبحانه: ((خلقت بيدي))، وكما قال: ((يداه مبسوطتان))”.[15] ويقول أيضا: “وأن له سبحانه عينين بلا كيف، كما قال سبحانه: ((تجري بأعيننا))”.[16] ويقول: “وأنه سبحانه يضع السموات على أصبع، والأراضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غير تكييف)”،[17] والصحيح أن هذه الرواية ليست عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عن يهودي، والرسول عليه السلام اكتفى بالضحك والتعجب من قول اليهودي المجسم، وتلا قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره)).
وأتباع أبي الحسن الأشعري من بعده لم يكونوا يرون إمامهم مجسما ومشبها بل كانوا يحسبونه على طريقتهم في تنزيه الله سبحانه في العقائد، يقول ابن خلدون: “وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين؛ فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية وقصَر التنزيه على ما قصَره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه؛ فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل”،[18] فقد كان الأصل عندهم التأويل عند وجود النصوص المتشابهة، قال الجويني: “والإعراض عن التأويل حذرا من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام، واستزلال العوام، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون”.[19] فهكذا كان نهج الأشاعرة في تعاملهم مع نصوص الوحي.
قوله إن القرآن بكامله قديم
يقول الأشعري في الإبانة: “فإن قال قائل: حدثونا عن اللفظ بالقرآن، كيف تقولون فيه؟ قيل له: القرآن يُقرأ في الحقيقة ويُتلى ولا يجوز أن يقال يُلفظ به، لأن القائل لا يجوز له أن يقول: إن كلام الله ملفوظ به، لأن العرب إذا قال قائلهم لفظت باللقمة من فمي فمعناه رميت بها، وكلام الله تعالى لا يقال يُلفظ به، وإنما يُقال يُقرأ ويُتلى، ويُكتب ويُحفظ. وإنما قال قوم لفظنا بالقرآن ليثبتوا أنه مخلوق، ويزينوا بدعتهم، وقولهم بخلقه ويدلسوا كفرهم على من لم يقف على معناهم، فلما وقفنا على معناهم أنكرنا قولهم، وكذا لا يجوز أن يُقال؛ إن شيئا من القرآن مخلوق لأن القرآن بكامله غير مخلوق”.[20] وهذا الكلام يقرر أن كل القرآن مخلوق لفظا ومعنى، كما كان يقول المجسمة بأنه حتى الجلد الذي يكوّن المصحف مخلوق. ثم إن المصنف بنفيه أن يكون الكلام يُلفظ قد أظهر جهله بالقرآن الكريم واللغة العربية، فجهله بالقرآن أنه لم يقرأ قوله تعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) والقرآن قول فهو يُلفظ به، وقد قال البخاري لفظي بالقرآن مخلوق. و”كان مسلم بن الحجاج يُظهر القول باللفظ ولا يكتمه”.[21] أما جهله باللغة فإن القاموس يقول: “لفِظَه…بالكلام: نطق”،[22] “ولفظتُ بالكلام وتلفظتُ به، أي تكلمت به”،[23] فتبين أن كلام المصنف لا صحة له.
تكفيره أهل الإسلام
التكفير في هذا الكتاب بيِّن وجلي لكل ذي بصيرة وكل من لا يرى تكفير أهل القبلة، وهذه نماذج منه، يقول أبو الحسن الأشعري: “ونقول إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر”.[24] ويقول عن المعتزلة: “ودانوا بخلق القرآن، نظيرا لقول إخوانهم من المشركين؛ الذين قالوا: ((إن هذا إلا قول البشر))”.[25] فالمعتزلة لم يقولوا بأن القرآن قول البشر بل هم يقولون القرآن كلام الله مخلوق، والمؤلف افترى عليهم هنا ليوهم الناس ويوجد مدخلا لتكفير المعتزلة ومن قال بخلق القرآن من أهل الإسلام، فليس المعتزلة وحدهم من يقولون بهذا القول.
ويقول الأشعري في معرض رده على المعتزلة في مسألة خلق القرآن: “وهذا هو الخروج عن الإسلام”،[26] “والخروج عما عليه جمهور أهل الإسلام”.[27] وجاء برواية عن ابن المبارك ليبين حجم من يقول بخلق القرآن: “يقول: إنا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية”،[28] يقصد بالجهمية المعتزلة.
ويقول: “خبرونا عمن زعم أن الله متكلم، قائل، آمر، ناه، لا قول له، ولا كلام، ولا أمر له، ولا نهي، أليس هو مناقض خارج عن جملة المسلمين؟
فلا بد من نعم. يقال لهم: فكذلك من قال: إن الله تعالى عالم ولا علم له كان ذلك مناقضا خارجا عن جملة المسلمين”.[29] وهذه هنا مغالطة ولعب بالألفاظ، يريد الرجل أن يوجد مسوغا لإخراج المخالفين له في الرأي من ملة الإسلام فقط، وليس قول هؤلاء كما زعم، بل هم لا يقولون ذلك.
والرجل يكفر لمجرد الاختلاف مع الخصوم وليس لإنكارهم أصلا من أصول الدين، أو ما كان معلوما من الدين بالضرورة، فهو يكفر في مسائل الاختلاف في الصفات وهذه لا يكفر فيها المسلم فهي ظنية الدلالة، وسلوك هذا المنهج في التكفير يوقع الخصومة بين المسلمين وفتح باب الصراع فيما بينهم.
يقول ابن عساكر في رده على الأهوازي ودفاعه عن أبي الحسن الأشعري في مسألة من قال بأن لفظي بالقرآن مخلوق: “فإن الأشعري كان لا يرى تكفيره ولا تكفير أحد من أهل القبلة لسعة فضله”،[30] وهذا بخلاف ما في كتاب الإبانة من تكفير الأشعري أهل القبلة من المسلمين.
ونجد أبا الحسن الأشعري لا يكفر المسلمين في كتابه مقالات الإسلاميين، يقول: “اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضا وبرئ بعضهم من بعض فصاروا فرقاً متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم”.[31] فلماذا هاذا الاهتمام بكتاب الإبانة من قبل مركز أبي الحسن الأشعري بما فيه من تكفير للمسلمين؛ بخلاف كتب الأشعري المتأخرة خاصة “كتاب اللمع”، وهي التي يمكن أن تكون مرجعا لعقيدة المغاربة إذا كان ولا بد من ترسيم العقيدة الأشعرية في المغرب.
قوله بالجبر
يقول الأشعري: “أنّا لا نشاء شيئا إلا وقد شاء الله نشاء”[32].
وهذا جبر محض وخروج عن نظرية الكسب التي قررها وإن كانت هي أيضا فيها جبر خفي، وهذا القول خطير على سلوك المسلم، إذ سيجعل المجرم يأتي بتبريرات لجرائمه وأفعاله وينسبها إلى مشيئة الله ما دام أن الأشعري يقول بأن الله شاء أن نشاء أفعالنا القبيحة، وبهذا نجعل أخلاق المغاربة وسلوكهم في طريق خطر.
اباحته قتل المسلمين وسفك دمائهم
ذكر الأشعري في معرض رده على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن رواية جاء بها ليبين حكم من قال بخلق القرآن، حيث يقول: “وذكر الحسين بن عبد الأول قال: سمعت وكيعا يقول: من قال القرآن مخلوق فهو مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل”.[33] ويقول: “ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا بأن الله غير سميع، ولا بصير، ولا عالم، ولكن خوف السيف منعهم من إظهار زندقتهم”.[34] ويقول أيضا: “وأرادوا أن ينفوا أن الله تعالى عالم قادر، حي سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك”،[35] فهذه هي لغة “الإبانة التي صيغت أفكارها بعبارات عنيفة ومتشنجة، ولا نتردد في نعتها بــــ”لغة السيف وقطع الرؤوس”.[36] هذه أقوال صريحة في اباحة دماء المسلمين، لمجرد الاختلاف في مسائل الصفات، وبهذا يمكن لكل أحد أن يتهم مخالفه بالزندقة ويستبيح دمه، وهذا تطرف وإرجاف.
v صحة نسبة كتاب الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري
يرى بعض الباحثين عدم صحة نسبة كتاب الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري، وأنها منحولة عليه، أو تلاعبت بها بعض الأيدي، ومن هؤلاء:
محمد زاهد الكوثري، يقول عن الإبانة: “وقد تلاحقت أقلام الحشوية بالتصرف فيها ولا سيما بعد فتن بغداد فلا تعويل على ما فيها مما يخالف نصوص أئمة المذهب من أصحابه وأصحاب أصحابه”،[37] وأن”النسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحفة محرفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة فتجب إعادة طبعها من أصل وثيق”.[38] عبد الرحمن بدوي، يقول: “نشك كثيرا في صحة نسبة “الإبانة عن أصول الديانة” إلى أبي الحسن الأشعري”.[39] ويقول حسن السقاف:”أن هذه الكتب المنسوبة إلى أبي الحسن الأشعري كالإبانة…وأمثالها ليست من تصنيف أبي الحسن الأشعري”،[40] “وإذا قلنا بأن جميع تلك الكتب…محرفة وتلاعبت بها الأيدي الأثيمة، أو أن تلك المصنفات وضعت عليه، والله أعلم بحقيقة الحال، إذن ليس بأيدينا اليوم شئ صحيح يمكن الوثوق به حتى نعرف حقيقة الأشعري”.[41] وخالد زهري، يقول عن كتاب الإبانة: “بيد أن كثيرا من القرائن، تقف شاهدة على عدم صحة نسبته إليه”،[42] و”النتيجة التي نصل إليها، هي أن “الإبانة” من تأليف أحد حشوية الحنابلة، ولا يمت بصلة إلى المصنفات صحيحة النسبة إلى أبي الحسن الأشعري”.[43] فهؤلاء إذن يرون عدم صحة نسبة “كتاب الإبانة” إلى أبي الحسن الأشعري أو يكون قد تلاعبت به الأيدي كما نرى من خلال كلامهم.
v هل كتاب الإبانة آخر ما ألفه الأشعري؟
اعتقاد أن “كتاب الإبانة” هو آخر ما ألف الأشعري؛ وبالتالي اعتباره الممثل الوحيد لفكر أبي الحسن الأشعري والأشاعرة من بعده، وبذلك يحق لمركز أبي الحسن الأشعري تبني ما في الكتاب من أفكار فلا يصح هذا التخمين؛ لسبب أن “كتاب اللمع” هو آخر ما ألفه الأشعري؛ لأدلة كثيرة ذكرها الباحثون عند حديثهم عن الأسبقية في التأليف بين “كتاب الإبانة” و”كتاب اللمع”، أذكر منها بعض أقوال الدارسين:
قال الكوثري: “وتأليف الإبانة كان في أوائل رجوعه عن الاعتزال لتدريج البربهاري إلى معتقد أهل السنة، ومن ظن أنها آخر مؤلفاته فقد ظن باطلا”.[44] وقد علق مكارثي على كتاب “الإبانة” في كتابه “عقائد الأشعري” ص: 232 وقارن بينه وبين كتاب “اللمع” فقال: إن “الإبانة” كتاب تقليدي، وأن “اللمع” كتاب تخلص فيه الأشعري من الاتجاه التقليدي”.[45] وترى فوقية حسين أن الإبانة أسبق من اللمع؛ حيث تقول: “أنه قد ثارت حول “الإبانة وكتاب “اللمع” مناقشات تخص تاريخ تأليف كل منهما…ورأيي أن الإبانة هو الأسبق، على اعتبار أنه يتبين من تأليفه وعنوانه أن الهدف من كتابته هو بيان أصول الديانة”.[46] ويقول حمودة غرابة في مقدمة تحقيق كتاب اللمع: “إنني أعتقد أن هناك فرضا آخر هو أحق بالادعاء وأدنى إلى القبول وهو أن الصورة السلفية التي يصورها “الإبانة” قد صدرت أولا، وأن الصورة العقلية التي يصورها “اللمع” قد صدرت أخيراً وأنها كانت تحديدا لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتقده ويعتقد صحته ويدافع عنه ويرضاه لأتباعه”،[47] وهذا الرأي أيضا يقول به “فنسنك” وغيره من الباحثين.[48] وما يؤكد أسبقية الإبانة على اللمع قول أبي الحسن الأشعري نفسه في كتابه الإبانة؛ وقد عرَّف بعقيدته لأول مرة بعد خروجه من الاعتزال، حيث يقول: “فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد (ص)، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقوله أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، نضر الله وجهه”.[49] فلو كان “كتاب اللمع” قبل الإبانة لما جاء أبو الحسن الأشعري باحتمال أن يُسأل هذا السؤال المتعلق بالتعريف بعقيدته وإلا فكتبه التي كان من المفترض أن تكون قبل الإبانة معلومة للناس وفيها التعبير عن فكره فليس هناك داع لسؤالهم إياه عن التعريف بعقيدته، ثم إننا لا نجد الكلام عن “الكسب” في “كتاب الإبانة” وهي النظرية التي اشتهر بها الأشعري وسار على نهجها كل الأشاعرة؛ فلو أن “كتاب الإبانة” هو الأخير لكانت ذكرت فيه.
كان هذا عرضا لأقوال الباحثين حول أسبقية الكتابين، وكيف يرون أسبقية “كتاب الإبانة” على “كتاب اللمع”، وأن هذا الأخير هو المنهج الذي سار عليه الأشاعرة من بعد أبي الحسن الأشعري، وحتى إن كان كتاب الإبانة آخر ما ألفه أبو الحسن الأشعري فلا يصح الاعتماد عليه وتبني فكره لما يحمله من خطورة على الاعتقاد، وخير للفكر الأشعري المغربي أن ينتهج نهج “كتاب اللمع” الذي يمثل الفكر الأشعري المغربي والذي سار على نهجه علماء الغرب الإسلامي قاطبة منذ القديم، خاصة بعد دخول كتاب “الإرشاد” للجويني إلى المغرب، وهو على منهج “كتاب اللمع” في الاستدلال على العقائد، والدارس لتاريخ العقيدة الأشعرية بالمغرب يعرف هذا، “ولا عبرة هنا بمحاولة بعض الحنابلة، قديما وحديثا، الفصل بين أبي الحسن وتلاميذه وادعائهم أن أبا الحسن كان أقرب إليهم هم المستأثرون بوصف “أهل السنة”! وأن تلامذة أبي الحسن، وخاصة منهم الجويني والغزالي، قد حادوا عن طريقهم وبانوا عن منهج السلف!”.[50] v مقارنة منهجية بين “كتاب الإبانة” و”كتاب اللمع”
لنقارن هنا بين منهجية “كتاب الإبانة” ومنهجية “كتاب اللمع”، فإن القارئ للكتابين يجد فرقا بين الفكرين المستودعين فيهما، وذلك بسبب اختلاف المنهجين في الاستدلال على العقائد، ففي كتاب الإبانة نجد الأشعري يؤكد على انتمائه لأحمد بن حنبل والانتساب إلى طريقته والدفاع عنها والإشادة بها، ويثبت الصفات التي جاءت على ظاهرها في القرآن والسنة؛ كإثباته لله الوجه واليدين والعينين، والاستواء على العرش بمعنى الاستقرار، ولا يتحدث عن التنزيه مطلقا ولا على نظرية الكسب التي اشتهر بها. بينما نجده في “كتاب اللمع” أعمق تفكيرا وأقوم منهجا وأكثر اهتماما بالاستدلال العقلي، وهو لا يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل ولا يسير على طريقته ولا يدعو إلى منهجه؛ بل يهاجم فيه من لا يعتمدون النظر والاستدلال العقلي، وفي كتابه “اللمع” ينزه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه فلا يذكر الوجه واليدين والعينين كما في “كتاب الإبانة”، ويسهب في “كتاب اللمع” في الحديث عن “نظرية الكسب” وتقريرها.
الملاحظ في كتاب الإبانة أنه عبارة عن ردود وليس بيان للعقيدة، فكأنما يبحث عن قول الخصوم ليعارضها ويقرر خلاف قولهم؛ فجاءت عقيدته من خلال الردود على خصومه، فهي عقيدة ناتجة عن ردة فعل بالخصوص؛ وليست عن استنباط موارد النصوص.
فكر الأشعري في “كتاب الإبانة” “فكر هزيل ضعيف عقلا ونقلا وقد لا حظنا أن الأشعري يأتي بكلام غير منطقي ولا معنى له بل ركيك ومتضارب، وأن الحامل له على ذلك مجرد حب تغليط المعتزلة وأشخاص كانوا يعيشون في عصره ليبين أنهم مخطئون ولو بباطل القول”،[51] بينما يكشف “كتاب اللمع” عن النزعة العقلية لأبي الحسن الأشعري، وهي تقريبا النزعة العقلية التي عليها الأشاعرة الذين أخذوا عنه مذهبه من بعده؛ مما يفيد أن هذا الكتاب متأخر عن كتاب الإبانة، ففي “كتاب اللمع” يتوسع في استعمال الأدلة العقلية، ويمهد فيه لمذهب كلامي جديد يجمع بين العقل والنقل؛ وإن كان يجعل النقل أول الأدلة، مخالفا لمنهج المعتزلة الذين يجعلون العقل أول الأدلة.
وقد علق مكارثي على كتاب “الإبانة” في كتابه “عقائد الأشعري” ص: 232 وقارن بينه وبين كتاب “اللمع” فقال: إن “الإبانة” كتاب تقليدي، وأن “اللمع” كتاب تخلص فيه الأشعري من الاتجاه التقليدي”،[52] ويقول عبد الرحمن بدوي: “نعده (اللمع) أنضج من “الإبانة” وأقرب أن يكون الأشعري الذي تصوره التاريخ وتأثر به التلاميذ واحتفل له علم الكلام، ولأنه عرض عقلي دقيق الحجة، وليس مجرد إعلان عقيدة Profession de Foi كما في حال “الإبانة”،”[53] فهذه إذن جملة الأقوال عن اختلاف المنهجين بين “كتاب الإبانة” و”كتاب اللمع”.
v المنهج المتبع عند أشاعرة المغرب
إن المنهج المتبع عند أشاعرة المغرب منذ دخول العقيدة الأشعرية إليه؛ هو منهج إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وقد دخل هذا المنهج إلى المغرب مع كتابه “الإرشاد”، وأخذه المغاربة منذ زمن أبي بكر المرادي الحضرمي (ت489ه/1094م)، وكان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى”،[54] مرورا بمحمد بن تومرت مهدي الموحدبن (ت524ه/1192م) الذي قام بترسيم العقيدة الأشعرية بالمغرب، وأبي عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي (ت574ه) صاحب “العقيدة البرهانية المشهورة بالسلالقية…على صغر حجمها مختصر الإرشاد”،[55] حتى عبد الواحد بن عاشر (ت1040ه) صاحب منظومة “المرشد المعين” المشهورة عند طلبة العلم المغاربة، كلهم كانوا على منهج الجويني؛ الذي كان “تأثيره ودوره الكبير في نشر الفكر الأشعري بالمغرب وكان لكتبه رواج كبير به، حيث اعتنى بها علماء المغرب شرحا وتدريسا، وبخاصة كتاب الإرشاد وكتاب البرهان، وافتتن به المغاربة أيما افتتان”،[56] حيث “لم تكن الأصداء التي تصلهم (المغاربة) من بلاد المشرق لتمر دون أن تؤثر فيهم وتؤكد لهم مدى بعدهم عن قافلة التطور التي قادها علماء الفكر العقدي في المشرق. مما جعل المثقفين والمتطلعين يرون في “الإرشاد”…المحرك والوسيلة التي ينبغي أن توظف من أجل بعث الحياة في الفكر العقدي المغربي، والدفع بعجلته بغية إدراك الركب المشرقي الذي سار أشواطا بعيدة عن طريق التجديد”،[57] وكذلك “مما يؤكد قيمة هذا المؤلف عند المغاربة أن كبار مفكري العقيدة بالمغرب كالإمام السنوسي (ت859ه/1489م) صاحب التواليف الكثيرة في العقائد وإمام المغاربة في هذا العلم بعد السلالجي، وكذلك ابن البناء العددي (ت721ه/1321م) الذي بلغ في العلوم العقلية والقديمة غاية قصوى، ومحمد بن مرزوق الحفيد (ت 842ه/1438م)، كل هؤلاء الجهابذة يعترفون بفضل هذا الكتاب في تكوينهم ويؤكدون دراستهم له واستفادتهم منه وتأثرهم به في الوجهة العقدية التي اختاروها”،[58] وهي وجهة نقلية عقلية، يقول الجويني في مقدمة كتاب الإرشاد مبينا المنهج الذي سيسلكه في تأليفه هذا: “رأينا أن نسلك مسلكا يشتمل على الأدلة القطعية، والقضايا العقلية”،[59] وهو نفسه منهج “كتاب اللمع” لأبي الحسن الأشعري مع بعض التطوير، وهو خلاف منهج “كتاب الإبانة” في الاستدلال على العقائد.
فهذا هو الفكر الأشعري المغربي منذ القديم، وليس كما يريده أصحاب مركز أبي الحسن الأشعري ذي التوجه الحشوي؛ الذين يريدون قلب الهرم العقدي الأشعري على رأسه بادعائهم أن هذه هي طبيعة بنائه، وذلك بتبنيهم فكر “كتاب الإبانة”، إن الاعتماد على هذا الكتاب وتبني فكره يؤدي إلى مفاسد كثيرة، يقول خالد زهري “أنه يفضي إلى أربع مفاسد على الأقل:
1- أنه لا يعبّر عن المذهب الحقيقي لأبي الحسن الأشعري، ويقدم أفكارا خاطئة عن الرجل.
2- أنه يختلف في كثير من العقائد المبثوثة فيه مع أصول عقيدتنا الأشعرية التي تعتَبَر المكوِّن الأساس في حضارة الغرب الإسلامي منذ قرون.
3- أنه يؤدي إلى غرس فكر إقصائي يتناقض مع الفكر الوَسَط والمعتدل لدى أتباع المذهب الأشعري.
4- أنه قد يكون قناة لتمرير فكر، لا يمكن أن يرحِّب به أيُّ مغربي أصيل”.[60] وختاما أقول: لست في هذا البحث أقرر عقيدة معينة وإنما غرضي هنا هو التنبيه على خطورة فكر “كتاب الإبانة” على الاعتقاد الإسلامي المغربي، وأنه إذا كان ولا بد من العقيدة الأشعرية باعتبارها ثابتا من ثوابت المغاربة كما يقال، فعلى منهج “كتاب اللمع” الذي يعتبر منهجا نقليا وعقليا، وهو أقرب إلى روح القرآن والسنة النبوية الصحيحة من “كتاب الإبانة” الذي لا نعرف حقيقة نسبته إلى أبي الحسن الأشعري؛ غير أننا نعرف عنه أنه كتاب يحمل فكرا متطرفا ومنغلقا ويشكل خطرا على عقيدة المغاربة.
وانظر المقال كاملا مع المراجع على : http://diae.net/42616