بقلم العلامة الدكتور علي جمعة
السَّلفِيَّةُ والفكر السَّلفى 2/1
بقلم العلامة الدكتور علي جمعة
عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف
هناك مجموعة من الناس يطلقون على أنفسهم مصطلح (السلفية) ويدَّعون أنهم على طريقة السلف فى الفِكْر والمنهج، حتى فى الأمور العادية كالمأكل والمشرب والملبس، ويدَّعون لأنفسهم أنهم على الحق، وما خالفهم فى ما هم عليه يكون على الباطل.
والسؤال:
ما معنى مصطلح السلفية؟ وكيف نشأ هذا المصطلح؟ وماذا يعنى بالضبط؟ وما مدى صحة دعوى من ينتسب إليه بأنه وحده على الحق وما سواه على الباطل؟
الجواب
بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله , وصحبه, ومن والاه, وبعد..
فمصطلح السلفية يطق فى اللغة على معنى نِسْبى، يُمْكِن أن تتعاوره الأزمنة المتوالية كلها، فإن كل زمن من الأزمان سَلَفٌ بالنسبة إلى الأزمنة الآتية فى أعقابه، وخَلَفٌ بالنسبة إلى الأزمنة التى سبقته ومرت من قبله.
وقد اكتسب مصطلح (السَّلَفِيَّة) معنى اصطلاحيًّا مُستقرًّا، ويعنى به القرون الثلاثة الأولى من عُمْرِ هذه الأمة الإسلامية، ومصدر هذا حديث رسول الله : (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)([1]).
ومصطلح (السلفية) أُسِىءَ فهمه، وأُسِىءَ استغلاله، وأُسِىءَ استخدامه من بعض المنتسبين إليه للأسف الشديد، وخاصةً فى العصر الحاضر؛ حيث يدعى بعض من ينتسب إلى هذا المصطلح أنه هو الوارث الوحيد للسَّلَف، ومن ثَمَّ لا سَلَفِى سواه، وعند التحقيق فيما يتضمنه هذا المفهوم نجده قاصرًا على مسائل وقضايا جُزْئِيَّة خلافية، أو يجعله لا ينطبق إلا على أفراد قلائل من أفراد الأمة، أما علماؤها الكثيرون وأما دعاتها الصادقون العاملون للإسلام فى كل أقطار الأرض فهم فى زعمهم مبتدعون مهما رسخ قدمهم فى هذا الدين؛ لأنهم يختلفون معهم فى هذه المسائل الجزئية.
ونحاول أن نوضح أولاً نشأة هذا المصطلح وتاريخه، وماذا يعنى بالضبط، وكيف استخدمه الذين ينتسبون إليه، حتى يتضح الأمر جيدًا، رافضين للقيود التى وضعها البعض حوله، والهدف من هذا تصْفِيَة ما لَحِقَ به من خَلْط فى فهم دلالته، حتى لا يُسْتَغَلَّ فى يد أى إنسان سيفًا يُشْهِرُه فى وجه مَنْ يختلف معه فى أى موقف من المواقف، وفى فهم أى قضية من القضايا – كما هو حال المنتسبين إليه فى عصرنا- لأننا نجد من ينتسب إليه سرعان ما يصدر الأحكام بشأن الْمُخَالف ويرميه باتباع الهوى، أو أنه مُصَمِّم على البدع، أو الزَّيغ وابتغاء الفتنة، أو الضلال، أو الكفر، كل هذا من غير تبيين أو سؤال أو استفسار.
فنأمل أن تنتهى قصة استغلال هذا المصطلح كوثيقة لإدانة العلماء والعاملين للإسلام، والملتزمين بمنهج الإسلام والقرآن وسُنَّة المصطفى .
نشأة هذا المصطلح وتطوره
ظهر مصطلح السَّلفية فى مصر إبان الاحتلال البريطانى لها، وأيام ظهور حركة الإصلاح الدينى التى قادها وحمل لواءها كل من جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، فلقد اقترن ظهور هذه الحركة بارتفاع هذا الشِّعَار، ويعود السبب فى ذلك إلى واقع مصر آنذاك، فقد كانت مصر بها أنواع شتى من البدَع والخُرَافات التى أخذت تكثر وتتنامى فى أرجائها- رغم وجود الأزهر وعلمائه- وهى لا تَمُتُّ إلى التصوف الصحيح بِصِلَة.
فكان الناس أمام هذا الواقع على فريقين:
الأول: يرى الانضمام إلى ركب الحضارة الغربية والتخلُّص من بقايا القيود والضوابط، بل حتى الأفكار الإسلامية.
والثانى: يرى إصلاح أمر المسلمين، بإعادتهم إلى الإسلام الصحيح النقى عن سائر الخرافات والبدع والأوهام، وربط الإسلام بعجلة الحياة الحديثة، والبحث عن سبل التعايش بينه وبين الحضارة الوافدة، وكان الشيخ الأفغانى والشيخ محمد عبده يمثلان طليعة الفريق الثانى، وقد اتخذوا هذا الشِّعَار وهو (السلفية) وكان المراد منه فى هذا الوقت هو الدعوة إلى نَبْذِ كل هذه الرَّوَاسب التى عَكَّرت على الإسلام طُهْره وصفاءه من بدَع وخرافات، بحيث يعود المسلمون فى فهم الإسلام واصطباغهم به إلى عهد السلف رضوان الله عليهم اقتداء وسيرًا على منوالهم.
وكان الغرض من اختيار هذا المصطلح (السلفية) هو تهييج كراهية الناس للصورة التى انتهى إليها حال المسلمين بمقارنة فكرية يعقدونها بين واقع الإسلام والمسلمين فى عصره الأول المشرق وواقعه معهم فى العصر القاتم المظلم، ثم أن يجعلوا من ارتباط الإسلام بعصر السلف مناط كل سعادة وتقدم وخير.
وفى هذه الأثناء التى وُلِدَ شعار (السلفية)- الذى لم يكن آنذاك مذهبًا إسلاميًّا ينتمى إليه دعاته ورافعو لواءه كما هو الحال الآن بالنسبة لكثير من الناس- وإنما كان عنوان دعوة، وتعريفًا بمنهج، وتعبيرًا بطريق المفهوم المخالف عن مدى انغماس أكثر الناس فى البدَع والخُرَافات وبُعْدهم عن الإسلام الذى كان يتحلَّى به السلف الصالح رضوان الله عليهم كما وضحناه.
فى هذه الأثناء كان المذهب الوهاب
ى- المنسوب إلى محمد بن عبد الوهاب- مُنْتَشِرًا فى نجد وبعض أطراف الجزيرة العربية، وقد كان بين هذا المذهب ودعوة الإصلاح الدينى فى مصر قاسم مشترك يتمثل فى محاربة البدع والخرافات، فلهذا راجت كلمة السلف والسلفية بين أقطاب المذهب الوهابى، ثم بعد فترة أُطْلِقَ على الوهابية اسم السَّلَفِيَّة بدلاً من الوهابية؛ وكان السبب فى هذا هو الإيحاء بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند محمد بن عبد الوهاب فقط، بل ترقى إلى السَّلَف، ولكى يثبتوا للناس أنهم فى تبنيهم لهذا المذهب أُمَنَاء على عقيدة السلف وأفكارهم ومنهجهم فى فهم الإسلام وتطبيقه.
وهكذا تحولت كلمة السلفية من شعار أطلق على حركة إصلاحية للترويج لها والدفاع عنها، إلى لقب لُقِّبَ به مَذْهَبٌ يرى أصحابه أنهم دون غيرهم من المسلمين على حق، وأنهم دون غيرهم من المسلمين الأمناء على عقيدة السلف والمُعَبِّرُون عن منهجهم فى فهم الإسلام وتطبيقه.
ماذا يعنى اتباع السلف؟
إن اتباع السلف ليس مرادًا ولا مطلوبًا لمجرد أنهم كانوا سلف هذه الأمة فى الترتيب الزمنى، بل لكونهم أحرى الناس بفهم كلام الله ومعرفة سنة رسول الله ، لأن سليقتهم العربية كانت لا تزال نَقِيَّة عن شوائب اللكنة فى النُّطق والعجمة فى الفهم فكانوا لذلك أولى الناس بفهم معانى ومرامى كلام الله العربى المبين، وكانوا أقرب الناس إلى حياة رسول الله والاختلاط به فكانوا أولى الناس بالتبليغ عنه والفهم منه، ثم إنهم كانوا أصدق الناس دِينًا وأنقاهم فِطْرَة وأبعدهم عن مظاهر التصَنُّع والجنوح إلى الابتداع، فكانوا من أجل ذلك أولى الناس بالاطمئنان إليهم والوثوق بهم.
فاتباع السلف لا يكون بالانحباس فى حرفية الكلمات التى نطقوا بها أو المواقف الجزئية التى اتخذوها؛ لأنهم أنفسهم لم يفعلوا ذلك، وإنما يكون الرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر فى المبادئ والأحكام. والرجوع إلى هذا المبادئ والأحكام واجب المسلمين كلهم فى سائر العصور فلا يختص بالرجوع إليها والانضباط بها سلف دون خلف.
ولا يمتاز السلف عن الخلف فى ذلك إلا بأن لهم فضل الالتفات إلى هذه القواعد والشعور بمدى الحاجة إليها ثم العكوف على استخراجها وتدوينها.
فالسلفية الحقيقية تعنى التزام أهلها بمنهج السلف فى تعاملهم مع نصوص القرآن والسنة، هذا المنهج الذى كان مُتَجَسِّدًا ومُتَجَلِّيًا فى سلوك السلف الصالح رضوان الله عليهم. فكل مَن التزم بهذا المنهج فقد دخل فى دائرة الوحدة التى عُنْوِنَ لها بأهل السنة والجماعة وإن عاش فى القرون الأخيرة من عمر الدنيا، وكل مَنْ لم يلتزم به فقد خرج عن دائرة تلك الوحدة الجامعة، وإن عاش فى أول قرن من عمر الإسلام. وما اتباع السلف إلا الصبغة العامة لسائر المسلمين، وما معناه إلا الاستضاءة بسلوكهم وعلومهم فى فَهْمِ هذا المنهج والتمرُّس على تطبيقه بشكل سليم.
وكما صح للسلف الصالح أن يختلفوا تحت مظلة ذلك المنهج المتبع فلا ريب أن يصح لمن جاء بعدهم متبعًا لهم ومقتديًا بهم أن يختلفوا تحت تلك المظلة ذاتها كما اختلفوا. وكما أن الاختلاف لم يمزق وحدتهم الإسلامية شطرين: ملتزم وزائغ، فإن اختلاف من بعدهم أيضًا لم يؤثر على وحدتهم الإسلامية، ولم يجعل منهم شطرين: سلفيًّا وبدعيًّا.
والسَّلف رضوان الله عليهم لم يتَّخِذُوا من معنى كلمة (السَّلَف) بحد ذاتها مظهرًا لأى شخصية متميزة أو أى وجود فكرى أو اجتماعى خاص بهم يميزهم عمن سواهم من المسلمين، ولم يضعوا شيئًا من يقينهم الاعتقادى أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية فى إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلة، بل كان بينهم وبين مَنْ نسميهم اليوم بالخَلَف مُنْتَهى التفاعل وتبادل الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذى تم الاتفاق عليه والاحتكام إليه. ولم يكن يخطر فى بال السابقين منهم ولا اللاحقين بهم أن حاجزًا سيختلف ليرتفع ما بينهما بصُنْعِ طائفة من المسلمين فيما بَعْد، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية إلى فريقين يصبغ كلاًّ منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات.
كما أن السلف لم يجتمعوا على مذهب فى قضايا الفروع، وإنما ما نقل من خلافات فى الفروع هى فى الأساس اختلافات بين السلف أنفسهم، فالسلف اختلفوا فى قضايا كثيرة فرعية تنتمى إلى الأحكام العملية، وإلى مسائل الاعتقاد الفرعية.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
([1]) متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب (الشهادات), باب (لا يشهد على شهادة جور إذا استبد)، حديث (2509)، واللفظ له، ومسلم فى كتاب (فضائل الصحابة)، باب (فضل الصحابة رضى الله تعالى عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، حديث (2533).
السَّلفِيَّةُ والفكر السَّلفى 2/2
لقد بينا فى اللقاء الماضى نشأة هذا المصطلح وتطوره، وماذا يعنى اتباع السلف، ومن ثم فقول أحدهم هذا مذهب السلف فيه خداع؛ لأنه فيه توهمين:
الوهم الأول: أن السلف كان لهم هذا المذهب الفقهى الذى اتفقوا عليه وهذا محض وهم.
الثانى: كأن مذهب السلف لم ي
نقل بالطريق المعروف للمسلمين وهو طريق التابعين، ثم أصحاب المذاهب المعروفة حتى وصل إلينا من محققى المذاهب الفقهية والكلامية وكأن مذهب السلف فى ألواح محفوظة مغلق عليها، لم يطلع عليها أحد قبل هؤلاء المدعين.
وبذلك نرى آراءهم واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة، وهى الخمسة التى يجب على الدارسين عند تحليلهم للظاهرة أن يقفوا عندها.
السلفية الصدامية
والفكر الصدامى الذى يتبناه هؤلاء الذين أساءوا فهمه يفترض أمورًا ثلاثة وهى:
أولاً: أن العالم كله يكره المسلمين وأنهم فى حالة حرب دائمة للقضاء عليهم وأن ذلك يتمثل فى أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين فى الخفاء مرة وفى العلن مرات، وأن هناك استنفارًا للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب.
ثانيًا: وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث فى العالم الإسلامى هنا وهناك، ووجوب الصدام يأخذ صورتين: الأولى: قتل الكفار الملاعين. والثانية: قتل المرتدين الفاسقين.
أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين. وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم، وهذه الصياغات كما نرى فيها شىء كثير من التلبيس والتدليس والجهالة ولكنها سوف تجذب كثيرًا من الشباب.
ثالثًا: أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر السارى ، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكرًا طليقًا من كل قيد يقتنع به المتلقى له فى أى مكان، ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد. وعليه فإن الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق، وهذه النظرية لها ارتباط عضوى بنظرية “الفوضى الخلاَّقة” ، وهو المصطلح الذى شاع فى الاستعمالات السياسية والأدبية فى الآونة الأخيرة، وإن كان الكثيرون لا يدركون أصوله ومعانيه وآثاره والنموذج المعرفى المنتمى إليه.
السلفية المتطرفة
لقد أصبح التوجه السلفى عائقًا حقيقيًّا لتقدم المسلمين ولتجديد خطابهم الدينى وللتنمية الشاملة التى يحتاجها العالم الإسلامى عامة ، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجه السلفى أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلاً للمشرب المتشدد الذى يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده فى خياله الذى غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس.
ويتميز الفكر السلفى بعدة خصائص تؤدى إلى ما ذكرنا وترسم ذلك الموقف الذى يجب على الجميع الآن- خاصة- أن يقاوموه وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عزلتهم؛ لأنهم لم يعودوا ضارين لأنفسهم فقط، لكن ضررهم قد تعدى إلى من حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها، وإلى المجتمع بأسره.
هذا الفكر السلفى يريد أن يسحب مسائل الماضى فى حاضرنا، ولذلك تراه قد حول هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة والهيئة واستعمال العطور، وتؤثر هذه الخصيصة التى تستجلب مسائل الماضى وتسحبها إلى الحاضر من ناحية، وتحول مجرد المسألة التى كانت فى نطاق الماضى لا تعدو مسألة إلى قضية ندافع عنها وننافح من أجلها، وتكون فى عقليته معيارًا للتقويم وللقبول والرد، فمن فعلها فهو معه، ومن لم يفعلها فهو ضده، يشمئز منه وينفر ويعاديه، ويعيش فى هذا الوهم، فيشتد انعزاله عمن حوله.
النتائج السيئة للسلفية المعاصرة
أقول: إن ذلك كله يؤدى إلى انتقاله من هذا الدور إلى دور يرى فيه وجوب الانتحار وتفجير نفسه فى الناس بالمتفجرات الحقيقية وبالقنابل، ويرى أنه ليس لحياته معنى لأنه يسبح ضد التيار، ويرى أنه لابد عليه أن يزيد من نسله وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله محاولاً بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث إنه يشعر بأنه وحيد وبأنه قلة، وبأن الكثرة الخبيثة من حوله سوف تقضى عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يفر من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذى يحدث معه الانفجار السكانى والتخلف التنموى.
ومن خصائص هذا الفكر الانعزالى التشدد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها ، وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هى الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هى المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة، فتراه يتمتع ويتفاخر بالخروج عن الحياة ، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بصورة تامة ، ولذلك نراه فى تناقض شديد، فيفعل أشياء هى من جنس واحد متبعًا فى ذلك هواه، مما يكون عنده عقلية الانطباع والهوى، وهى عقلية تخالف العقلية العلمية، وتخالف المنطق المعروف الذى به قوام الاجتماع البشرى، ومن هنا يكون متعبًا فى تلقيه التفكير المستقيم، ومن هنا أيضًا نراه متمردًا منعزلاً لا يثق ف
ى العلماء ، ولا يثق إلا فى طائفة قليلة تجاريه فى هواه ، وهذا يمنعه من تلقى أى رسالة معرفية اجتماعية .
ويتميز هذا الصنف من الناس بامتلاك عقلية المؤامرة ، ولذلك يرى كل ما حوله وكأنه يحيك ضده المؤامرات ويحاول أن يبيده من على الأرض ( قلت : كما قال الله تعالى في المنافقين ( يحسبون كل صيحة عليهم ) ولاشك السلفيون يمثلون النفاق في عصرنا الحالي ) ، مما يجعله متحفزًا دائمًا بأن يكون ضدًّا ومعاندًا لمن حوله.
ويتميز أيضًا بالكبر والعجب الذى يحتقر معه كل رأى سواه، فإن الظنى قد تحول عنده إلى قطعى، ومحل النظر تحول عنده إلى ضرورى لا نقاش فيه، مما تختل معه قائمة الأولويات وترتيبها، وتقدم سفاسف الأمور على عظائمها والمصلحة الخاصة على العامة، والموهومة على المحققة، وهذا كله يؤثر سلبًا على المجتمع ككل.
من هذه الصفات أنهم يقفون ضد أى إصلاح فى المجتمعات الإسلامية بدعوى أن كل جديد بدعة ، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة فى النار.
ويبتعدون دائمًا عن جوهر الموضوع إلى النظر فى مجرد الشكليات .
ويعملون الهوى فى فهم النصوص .
ويضيقون على المسلمين حياتهم بتوسيع دائرة الحرام .
ويخرجون عن نظام المشيخية وطاعة العلماء .
إلى نظام غريب عجيب : يجتهدون فيه من عند أنفسهم فى الفقهيات، ويقلدون فى العقائد .
ويعظمون غير العلماء، ويحطون من شأن العلماء .
ويتصدرون بما لا يزيد عن مائة مسألة لتفسيق الناس وتكفيرهم، والدعوة إلى منابذتهم ومحاربتهم.
لقد آن الأوان وحان الوقت لأن تكون مقاومة هذا الفكر المنحرف مطلبًا قوميًّا، والطريق إلى ذلك هو العودة إلى منهاج الأزهر الذى حمل لواء أهل السنة والجماعة عبر القرون ، وأهل السنة بالنسبة لباقى التيارات والمذاهب الإسلامية عدل وسط، يعترفون بكل الصحابة وليس شأنهم كشأن الشيعة الذين ينكرون الصحابة إلا عليًّا ( قلت : مع الاعتذار لأستاذنا الدكتور علي جمعة فإن الشيعة لم ينكروا كل الصحابة إلا علياً وإنما لهم معيار للصحبة مختلف عن معيار الرؤية البصرية المجردة للنبي صلى الله عليه وسلم ) .
فأهل السنة فى المذاهب كأهل الإسلام فى الأديان، والمنهج الأزهرى يدرس الأشعرية وهى عقيدة أغلب المسلمين فى مجال الاعتقاد.
ويدرس المذهبية السنية بمذاهبها الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) مع عدم إنكاره للاجتهاد الفردى أو الجماعى، ومع عدم إنكاره للأخذ بباقى المذاهب الثمانية المعمول بها (كالإباضية والظاهرية والإمامية والزيدية) أو حتى الأخذ من وسيع الفقه الإسلامى من خارج هذه الثمانية فى المذاهب المنقولة فى كتب الفقه وهى تربو عن ثمانين مذهبًا، أو حتى الأخذ من الكتاب والسنة بما يلائم حاجات العصر ومصالح المصر وبما يلائم الانطلاق فى هذا العالم الذى حولنا، حيث نتوخى تحقيق المقاصد العليا، من حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان، وملكه، وهى التى تمثل النظام العام، وتمثل حقوق الإنسان، وتمثل فى ذات الوقت أهداف الشريعة العليا، وملامح الحضارة الإسلامية والإنسانية.
ويدرس فى جانب الأخلاق مذاهب التصوف الذى يتعلم فيه الإنسان أن يخلى قلبه من القبيح بما فيه الكبر والعناد، وأن يحلى قلبه بالصحيح بما فيه الرجوع إلى المرجعية الصحيحة، وإلى العلم النافع، وإلى القيادة الرشيدة، وطاعة الله ورسوله وأولى الأمر منا.
إن هذه المفاهيم الواضحة الجلية وقد اختلطت بالفكر السلفى يجب أن تعود فى حياتنا حتى نقاوم ذلك الطوفان من الانهيار والإرهاب وزيادة السكان، وعوائق التنمية البشرية، وبناء عقلية الانطباع دون العقلية العلمية، مما يؤدى إلى كوارث ومصائب الله أعلم بها. هذا ما أردنا توضيحه فى شأن السلفية والفكر السلفى.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
https://www.facebook.com/groups/375322156731984/posts/856464868617708/