كتاب ( خلق أفعال العباد ) للإمام البخاري من الكتب التي تثير قدرا كبيرا من التساؤلات ولنقل ربما أيضا بعض الاهتزازات عند البعض ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة ويجعلهم يقعون في وهم وإثم الشك في الإمام البخاري وربما يستقر في عقلهم الباطن أنه لم يكن على عقيدة أهل السنة فعلا ، وربما يلحقون به كثيرا من السلف الواردة أسماءهم في ثنايا الكتاب !!
وقد قرأت ( خلق أفعال العباد ) منذ أمد بعيد !!
قرأته وأنا أتقلب في ظلمات بحر الحشو والجهل ، فتوهمت في تلك الظلمة أن الإمام البخاري رحمه الله إمام في الحشو والتجسيم الذي كنت أظنه حقا في حينه !!
ثم لما أراني الله سبحانه أنوار أهل الحق ومنّ علي بالإنتظام في سلكهم ودراسة علومهم قرأته مرة أخرى بعين مكشوفة الغطاء وقلب مجلو من ران الحشو والتجسيم وروح مشرقة بحقائق أهل الحق وساطع براهينهم ، فرأيت الإمام البخاري هذه المرة طودا شامخا وإماما هماما من أئمة أهل السنة منزها الرب عن كل هلوسة وتخريف ، بل رأيته في هذا الكتاب خاصة يرد على أهل الحشو !!
المقصود أن الخلفية الفكرية العقدية التي ينطلق منها الإنسان في تقييمه لما تحيط به حواسه لها أثر عظيم في توجيه كيف يفكر الإنسان وبأي طريقة يحلل المفردات الواردة إلى عقله عن طريق الحس .
فالكلمة الواحدة قد يكون لها أكثر من دلالة تبعا لنفسية القارئ !!
والحق أن مفتاح حل الأمر والإلتباس الحاصل هو في معرفة مراد السلف والإمام البخاري من استعمالهم لفظة ( جهمية ) وأيضا معرفة من كانوا يخاطبون وعلى من يردون وفي أي سياق قالوا ما قالوا !!
وههنا محاولة متواضعة من العبد لله في محاولة تقريب الأمر للبعض ، ولعل أفضل بداية تكون بمعرفة من هم هؤلاء ( الجهمية ) الذين يتحدث عنهم الكتاب كثيرا ؟؟
من هم ( الجهمية ) ؟؟
( الجهمية ) نسبة إلى ( الجهم بن صفوان ) ، وهي طائفة لا وجود لها في الحقيقة والواقع لا اليوم ولا بالأمس القريب أو البعيد !!
وسبب ذلك أن هذا ( الجهم ) كان إنسانا جد منبوذ ومكروه من كافة الطوائف الإسلامية ، ولم يُعرف بكثير علم ولا بقليله لا في العقائد ولا في الفلسفة والعلوم العقلية ولا في الفقه والحديث والعلوم النقلية ، بل هو نكرة أشبه ما يكون بمختل عقل لا يعي ما يقول عاش منبوذا ومات مقتولا محاربا للسلطان ، وإنما فشا أمره واشتهر بسبب تعرضه الأحمق لكل من يلاقيه يناظره – وهو أبعد الناس عن التأهل لتلك المناظرات – أو يلقي عليه شبهات جاهل لا تحير إلا جهلة مثله ، وكثيرا ما روي عنه وقوعه في الحيرة عقب بعض من تلك المناظرات بسبب شبهات ألقاها عليه بعض السمنية أو المجوس أو الفلاسفة ولم يجد لها حلا !!
كما أنه لم يشتهر بورع أو زهد او صلاح طوية يحبب الناس فيه كما هو شأن بعض أئمة البدع مثل ( ابن كرّام ) الذي سحر القلوب بزهده وعبادته وكان ذلك سببا في شيوع بدعته وعقائده الكفرية التجسيمية !!
وقد اتفق على ضلال هذا ( الجهم ) أهل السنة والمعتزلة على قدم سواء ولم يبق بعد قتله من تابعه أصلا فلا وجود البتة لفرقة أو طائفة في التاريخ تعرف بـ ( الجهمية ) كما بينه الإمام الكوثري قدس الله روحه في تعليقه على ( الاختلاف في اللفظ ) لابن قتيبة الدينوري على ما أذكر .
ولنتأكد من هذه الحقيقة ربما يستحسن أن نستعرض خلاصة أقوال ( الجهم ) التي هي :
– نفي صفات الله مطلقا !!
– القول بأن الله لا يوصف بما يمكن أن يوصف به المخلوق ، فلا يصح عنده أن يقال الله عالم أو حي أو قادر ولكن يقال له خالق ورازق ومميت ومحيي !!
– القول بالوحدة والحلول وأن الله في كل مكان !!
– القول بعدم امتناع الحوادث عليه سبحانه وأن علمه يتجدد وأنه سبحانه وتعالى يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء !![1]
– القول بخلق القرآن !!
– القول بالجبر المطلق وأن لا قدرة حادثة للعبد ولا استطاعة .
– القول بفناء الجنة والنار وفناء من فيهما !!
ويجد القارئ سرد هذه الأقوال في ( الملل والنحل ) للشهرستاني وأيضا في مقدمة الحافظ ابن حجر لكتاب التوحيد من صحيح الإمام البخاري في ( فتح الباري ) .
والآن .. لو أننا تأملنا في هذه الأقوال فسنجد أنه ما ثمة طائفة واحدة قد جمعت كل هذه المعتقدات في آن حتى يصح أن يطلق عليها اسم ( الجهمية ) لا في الحاضر ولا في الغابر ، لن نجد أبدا هكذا طائفة أو فرقة دع عنك أن نجد من ذكر لها علماء ينافحون عن عقيدتها أو نظارا يقررون أقوال هذا ( الجهم ) ويبرهنون على صحتها على ما هو موجود في سائر الطوائف أهل السنة والفلاسفة والمعتزلة والقدرية والحشوية وأهل الوحدة والباطنية والنصارى واليهود إلى ما هنالك من معتقدات وفرق !!
فإن كان هنالك طائفة ( جهمية ) كما يقال فأين هم وأين كانوا ومن هم علماءهم وما هي كتبهم وأين رسائلهم !!!
لا يوجد من ذلك شيء ، ولكن يوجد وهم كبير قام في أذهان البعض وصار يخبط بسببه خبط عشواء والله المستعان !!
ثم عند التأمل كرة أخرى سنجد أن ثمة نقاط تقاطع والتقاء وافتراق بين أقوال هذا ( الجهم ) وأقوال بعض الطوائف الإسلامية ، فمثلا ..
– اتفقت معه المعتزلة في نفي الصفات والقول بخلق القرآن – ومن هنا وهم من وهم وسمى فحول الكلام هؤلاء ( جهمية ) لمجرد التوافق في هذا القول دون غيره بحسن نية أو سيئها !!
– اتفقت معه طوائف أهل وحدة الوجود والحلولية في قوله أن الله في كل مكان ، وليلاحظ القارئ أنه ينسب المكان إلى الله لا أنه يقول أن الله منزه عن المكان وأن لا جهة له ولا حد ، وهذه نقطة جد مهمة لما سيأتي إن شاء الله .
– اتفقت معه المرجئة الجبرية في القول بالجبر المطلق وأنه لا قدرة للعبد ولا استطاعة ، ومهم هنا أيضا أن تلاحظي أختاه أنه لم يقل بخلق العباد أفعالهم بل العكس تماما !!
– اتفق معه (مع الجهم) ابن تيمية المجسم الحراني في عدة أقوال والعياذ بالله :
* فهو قد اتفق معه على جواز الحوادث على الله وطروء التغير في ذاته سبحانه ، ويجد المطالع لكتب ابن تيمية هذا المعنى واضحا في منهاجه وتلبيسه ومعقوله وتسعينه !!
ومن هنا قال المجسم الحراني – ويقول الوهابية اليوم تبعا له بلا نظر ولا بصيرة – أن الله يتكلم حينا ويسكت حينا وأنه سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء بكلام وسكوت ذاتي لا بمعنى فعل يفعله سبحانه وتعالى عن هذه الهلوسة !!
وقد نص الإمام الأشعري قدس الله روحه في ( الإبانة ) على أن أول من قال أن الله يتكلم ويسكت وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كان الجهم ، فقد استبان من هو إمام ابن تيمية والوهابية اليوم في هذه العقيدة الكفرية ، والعجيب أنك تجد القوم يحتفون بالإبانة وهم لا يدرون عما في داخلها شيئا وتعست العقول وربي !!
** ثم إن هذا الحراني قد وافق إمامه ( الجهم ) في قوله بخلق القرآن ، ويجد القارئ ذلك واضحا في منهاجه الذي ينص فيه على أن ( القرآن ) ليس بقديم وأنه من آحاد كلام الله وكلام الله عند الحراني الحشوي قديم النوع حادث الآحاد والعياذ بالله ، وتابعه أيضا على هذه العقيدة الفاسدة المستقاة من ( الجهم ) والمعتزلة تلميذه الوفي ( ابن أبي العز الحنفي ) في شرحه على ( الطحاوية ) بل إنك تجده هنالك يصرح بكل جرأة أن كل ما استدلت به المعتزلة في هذا الشأن – أي حدوث القرآن – على أهل السنة حق يجب قبوله واعتقاده أعاذنا الله من الضلال !!
*** ثم إن الحراني قد وافق ( الجهم ) جزئيا في قوله بفناء النار وفناء أهلها ، وتجد هذا القول مثبتا من كلامه ومن كلام تلميذه (ابن قيم الجوزية ) وأيضا ( ابن أبي العز ) وقد عدوه جميعا من أقوال السلف الجائز اتباعها وهي عين الكفر والعياذ بالله !! وعليه رد حتى بعض أتباعه من أمثال (الأمير الصنعاني) ثم ( الألباني ) في تعليقه على مؤلف (الصنعاني) بهذا الخصوص.وقد نص العلماء على أن أول من قال هذا القول هو الجهم ، فيكون هذا قول آخر ائتم فيه الحراني بهذا الجهم.
والآن ، إن كان يصح أن تسمى أيا من الطوائف المذكورة أعلاه ( جهمية ) فقط لموافقتها الجهم في بعض أقواله فما بعضها بأولى من بعض في نيل هذه التسمية ، ولكن المتابع يجد أن هذه التسمية قد أسيء استخدامها جدا وأنها اختصت بقوم دون قوم !!
وغاية ما هنالك تنابز لا أكثر ولا أقل !!
فلأن الجهم كما سبق وقلنا قد كان منبوذا محتقرا غير متبع فإن مجرد وصم المخالف بأنه ( جهمي ) كفيل بتنفير العامة عنه وابعادهم عن أفكاره ورسم صورة في مخيلتهم جد قبيحة عنه ، والعامة تصدق كل ما تسمع وتنقاد له وهذا هو المطلوب !!
وستجد أن بعض السلف وأهل السنة قد استخدموا هذه المفردة بحقها وبعلم – كما هو حال البخاري في ( خلق أفعال العباد ) – قاصدين بها التصدي لأفكار الجهم أو صداها الموجود فعلا في بعض الفرق كما مثلنا أعلاه .
كما ستجد أن بعض السلف الصالح أيضا استخدم هذه اللفظة على سبيل النبز لخصوم أهل السنة الألداء المعتزلة ، فنجد أن بعض السلف ممن لم يلم بالكلام وطرقه – وكان هذا علما غير شائع وسطهم – وأعيته الحجة بسبب ذلك واندحر أمام براهين المعتزلة – وهم فحول الكلام – العقلية وشعر بضعفه أمامهم استعاض عن ذلك بنبز المعتزلة بأقبح لقب يمكن أن تلقب به طائفة وهو ( الجهمية ) إما عن علم بالفارق الكبير جدا بين المعتزلة – وهم من هم في النظر والفهم والعلم والكلام والورع – وبين هذا الجهم الجاهل بغية تنفير عامة الناس منهم خاصة وأن السلطة آلت إليهم وصار هذا هو سلاح الضعيف في وجه من جمع إلى الحجة العقلية المال والسلطان وهما وحدهما كافيان في استمالة العوام إلى صفهم فما بالك إن أضيف إليهما الحجج العقلية والبراهين الكلامية !!
و البعض من السلف – وهذا هو الغالب على حالهم – ولقلة خبرتهم بالكلام لم يكونوا يميزون حقيقة بين الجهمية والمعتزلة والقدرية فيلزقون بهذه لقب تلك وبتلك لقب هذه وهكذا .
ثم إن تفكرنا زيادة فسنكتشف أن ثمة فرقة مهينة لا في العير ولا في النفير وهم الحشوية قد برعوا في نبز خصومهم بهذا اللقب وشغفوا به حبا ، فكل من يخالفهم جهمي خبيث معطل ملحد في صفات الله !!!!
وسنجد مقدميهم – أمثال ابن بطة والحراني وابن قيم الجوزية – يسوقون أقوال المعتزلة مثلا أو أهل السنة الأشاعرة ثم يتبعون ذلك بسيل من السباب والشتائم الدائرة كلها على وصفهم بالجهمية والتجهم !!!
بل إن بعض البله منهم يصنف كتابا كاملا يسميه مثلا ( اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ) يسوق فيه كل غث وهزيل فقط ليثبت الجهة الحسية والمكان لله سبحانه وتعالى راميا من ينزه الله عن هذا التخريف كالأشاعرة والمعتزلة بأنه ( جهمي خبيث ) والأحمق لا ينتبه إلى تناقضه المضحك إذ أن ( الجهم ) لم يكن ينزه الله عن المكان والتمكن فيه والتحيز والجهة والمماسة والاستقرار بل يقول بها جميعها تماما مثلما يقول صاحب الكتاب بها مع فارق أن ( الجهم ) جعل الله في كل مكان حالا ومماسا ومخالطا له بينما هو قد جعله سبحانه في جهة واحدة حالا في العرش جالسا ومستقرا عليه !!!
مثلا يقول ابن قيم الجوزية مضحكا عليه كل عاقل في نونيته :
” جهم بن صفوان وشيعته الألى ** جحدوا صفات الخالق الديان
بل عطلوا منه السماوات العلى ** والعرش أخلوه من الرحمن “
وجهم لم يقل بهذا بل قال أن الرحمن حال في عرشه وفي سماءه وفي أرضه وفي كل مكان ، فبان خطل هذا المضحك وتدليسه وتلبيسه هو وأستاذه الحراني .
وأنا أزعم أن هؤلاء الحشوية قد خلطوا هذا الخلط عن سابق رصد وإصرار وتخطيط بغية التخليط على العوام وتنفيرهم من أهل الحق ، فجعلوا من ينزه الله عن الحلول والمكان ملقبا بلقب من يصف الله بالحلول والمكان والله المستعان !!!
أعتقد أن المقصود قد بان الآن .. ( الجهمية ) في استعمال السلف والإمام البخاري ليست هي ذات ( الجهمية ) في استعمال الحشوية والوهابية اليوم ، وليس لها ذات المدلول ولا تختزن ذات المعلومات خلفها في الحالتين البتة بل على العكس تماما !!!!
والذي يقرأ كتاب ( خلق أفعال العباد ) اليوم يقوم في ذهنه أن الجهمية المذكورون في ثنايا الكتاب يقولون بأقوال مشابهة لأقوال الأشاعرة وبالتالي فإن رد السلف و الإمام البخاري عليهم يعد ردا على الأشاعرة في آن واحد ، وهذا بالطبع بسبب ما يراه القارئ من احتفاء الوهابية الحشوية بهذا الكتاب واعتبارهم أن هذا الكتاب يرد على الأشاعرة ويسؤهم تماما مثلما ظن ذلك المزي في طوره الحشوي وغيره عند قرآته هذا الكتاب في الجامع بقصد إغاظة من جاوره من أشاعرة الشافعية الذين شكوه لاحقا إلى القاضي وعُزر بسببه ، وكما يظنه أيضا بعض الأشاعرة اليوم بسبب ضعفهم وعدم فهمهم لعقيدتهم كما ينبغي !!
والحقيقة خلاف ذلك تماما !!
الحقيقة هي أن الإمام البخاري ما ألف ( خلق أفعال العباد ) إلا لكي يرد على طافتين من المبتدعة : الجهمية من جهة ، والحشوية أنفسهم من جهة أخرى ، فاعجب يا لبيب من انقلاب الأمر وكيف صار الحشوية يحتفون بكتاب يرد عليهم !!
وبيان الأمر أن الكتاب قد حشد أقوال كم كبير من أهل العلم من السلف في الرد على الجهمية واثبات أن الله سبحانه على العرش استوى!!
ويفهم الحشوية – وكل من قرأ الكتاب متأثرا بنفسيتهم – من ذلك اثبات الجهة والتحيز والمكان لله لاعتقادهم بسبب تدليس الحراني وتلامذته أن الجهمية ينفون الجهة والمكان عن الله كما الأشاعرة والمعتزلة !!
وغاية ما هنالك في الحقيقة أن السلف والإمام البخاري إنما كانوا يردون على الجهمية قولهم أن الله في كل مكان حال فيه ممازج لخلقه كما قاله الجهم ، بل هو سبحانه عندهم بائن من خلقه ولا يوصف إلا بما ورد به النص من أنه { على العرش استوى } وأنه ( في السماء ) مع الأخذ في الاعتبار مذهبهم المعروف في ذلك الذي هو التفويض ونفي المحال المفهوم من الظاهر الحسي ، فغاية غرضهم القول بأنه سبحانه بائن من خلقه غير ممازج لهم لا داخل هذا العالم ولا خارجه ولا نسبة أصلا بينه وبين هذا العالم البتة لما أنه سبحانه لا يقبل أصلا هذه النسبة ولا تجوز عليه لقدمه ووجوب وجوده ومحل تقرير ذلك كتب الكلام !!
وبهذا يستبين وجه إيراد هذه الأقوال في معرض الرد على الجهمية ، ويظهر أكثر بتأمل الكتاب وما ورد فيه من عينة :
(وقال بن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية انه في الأرض ههنا بل على العرش استوى وقيل له كيف تعرف ربنا قال فوق سماواته على عرشه )انتهى من ” خلق أفعال العباد “
فهذا واضح في أن المقصود بهذا من قال أن الله في الأرض ممازج لخلقه وأنه في الإسلام إنما يوصف الله بما وصف به نفسه من أنه سبحانه على العرش استوى !!
فالأشاعرة ليسوا هم المقصودون بهذا الكلام قطعا لما أنهم لم يكونوا موجودين أصلا في زمن ابن المبارك وهم لا يقولون أن الله في الأرض بل ينزهون الله بتاتا عن المكان سواء أكان أرضيا أو سماويا !!
والمعتزلة لسوا هم المعنيون أيضا لما أنهم لا يثبتون لله مكانا في السماء دع عنك أن يثبتوا له مكانا في الأرض سبحانه !!
فهذا رد الكتاب على قول الجهمية بالحلول والاتحاد على الله سبحانه !!
أما رده على قولهم بخلق القرآن فواضح لا يحتاج شرحا أو تدليلا !!
وأما بقية الكتاب فمصروفة كلها إلى اثبات أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله سبحانه وتعالى .
ولكن ..
على من كان يرد الإمام البخاري ومن كان يقصد في هذا الجزء المتبقي من الكتاب !!؟؟
هل كان يرد على الجهم وجماعته !!؟؟
قطعا لا لما أن ( الجهم ) كان يقول بالجبر المطلق وأن العبد لا قدرة له ولا استطاعة كما تقدم ، فهو يسلم بخلق الأفعال !!؟؟
هل كان يرد على المعتزلة وهم القائلون أن العبد يخلق فعله !!؟؟
ربما !!
ولكن يرد عليه أن لماذا ركز البخاري رحمه الله على إيراد آثار تتحدث عن القرآن وأنه كلام الله متلو باللسان محفوظ في الجنان مكتوب في الصحائف مسموع بالآذان في معرض اثباته أن أفعال العباد (( جميعها )) مخلوقة !!
إن المتأمل ليدرك أن الإمام رحمه الله لم يكن جهده منصبا على الرد على المعتزلة – وأصلا المعتزلة ليسوا أهل نقل ولا يأبهون كثيرا للمنقول آحادا عن النبي دع عنك عن غيره من التابعين حتى يهتموا لمصنف البخاري هذا – بقدر ما كان يقصد بكلامه الرد على الحشوية القائلين بقدم الحرف والصوت ، ومعروف مشهور مذهب الإمام البخاري في اللفظ وأنه حادث ، وهو ما جر عليه معاداة كثير من الحنابلة وغيرهم ممن لم يفهموا دقيق مذهبه حتى هجره الذهلي وأصحابه بسبب ذلك كما هو مبين في ( الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم !!
وهذا هو الذي يصح عندي : أن الإمام البخاري إنما كان يريد – بتصنيفه هذا الكتاب وشحنه بأقوال للسلف تنص على أن كل أفعال العباد دون استثناء مخلوقة – أن يرد على منتقديه في قوله بحدوث اللفظ ، وهو بهذا يرد على الحشوية القائلين بقدم الحرف واللفظ أكثر من رده على المعتزلة ، ويتضح هذا جليا في هذه الفقرة من الكتاب :
(قال أبو عبد الله وكل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق فإنه يعلم ويرد جهله إلى الكتاب والسنة فمن أبى بعد العلم به كان معاندا قال الله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ولقوله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم وربما لم يفهموا دقة مذهبه بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق وما سواه مخلوق وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) انتهى
ثم قوله بعده قريبا :
(وقد بين الله قولا للمخلوقين حين قال الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر أن العمل من الحياة ثم بين خلقه فقال وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير مع أن الجهمية والمعطلة إنما ينازعون أهل العلم على قول الله إن الله لا يتكلم وإن تكلم فكلامه خلق فقالوا إن القرآن المقروء بعلم الله مخلوق فلم يميزوا بين تلاوة العباد وبين المقروء ) انتهى
فواضح مذهب البخاري رحمه الله في هذا وهو ولله الحمد موافق تماما لقول أهل السنة ، والعجيب كيف أن الحشوية الوهابية اليوم فرحون بهذا الكتاب ينشرونه ويقرأونه ويحضون عليه وهو يهدم ركنا من أخص أركان عقيدتهم التجسيمية ولله في خلقه وتفاوت عقولهم وإدراكهم شؤون وشؤون !!
يتبع برد على بعض الأقوال التي تثير بعض الإشكالات إن شاء الله.
ههنا بعض أقوال لبعض السلف مقتطفة من ( خلق أفعال العباد ) وهي مما يورده الحشوية باستمرار ويشهرونه في وجوهنا ظانين أن الإمام البخاري يوافقهم بإيراده هذه الأقوال في اعتقادهم الجهة الحسية والاستقرار على العرش والجلوس عليه ، والحقيقة خلاف ذلك تماما لمن قرأ هذه الأقوال في ضوء المقدمة المثبتة أعلاه وفهمها ضمن السياق الذي شرحته آنفا ..
وسأستعرضها وأرد عليها باقتضاب واختصار ، وبإمكان الإخوة أو كل من كان له إشكال في أحد الآثار الواردة في الكتاب أن يطرد ما يقال في هذه الأقوال على سائر ما في الكتاب ، كما أني أرحب جدا بكل من كان له إشكال في الكتاب أن يطرحه هنا ليتم التناقش حوله ومحاولة فهمه .
1- [قال وهب بن جرير : “الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش إستوى” ]
الجواب : نعم هذا صحيح ، فهم يعطلون الآية { الرحمن على العرش استوى } ويريدون أنه في كل مكان غير بائن عن خلقه ، وغاية ما في هذا القول اثبات آية والرد على القالين بحلول الله في الأمكنة واثبات مباينته للخلق دون اثبات مكان أو جهة !!
2- [قال حماد بن زيد : “القرآن كلام الله نزل به جبرائيل، ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله” ]
-الجواب : نعم فالقرآن كلام الله غير مخلوق كما تقول الجهمية ، والقول بخلق القرآن قول بحلول الحوادث وتغيره سبحانه وتعالى وهذا يستلزم الإلحاد المطلق ونفي الإله تماما ، فإن من يستجيز الحوادث والتغير عليه سبحانه وتعالى مع وصفه الله بالقدم – كما هو حال ابن تيمية والجهم بن صفوان – لا يرى بالضرورة أن حلول الحوادث في الجوهر مطلقا دليل على حدوث الجوهر ، وهذا يعني أنه لا دليل على حدوث العالم نفسه ، فيضطر اضطرارا إلى القول بقدم العالم – كما هو حال ابن تيمية الحراني – وقدم العالم مستلزم استلزاما أوليا استغناء العالم عن الصانع ، وهذا بمعنى نفي الصانع أي نفي الإله !!فكلام ” حماد بن زيد ” صحيح ، إذ القول بخلق القرآن مستلزم لنفي الإله نهاية ويكون مرد من يجادل بهذا القول أنه ليس في السماء إله { أأمنتم من في السماء } .
3- [قال ابن المبارك : “لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى” وقيل له : كيف تعرف ربنا ؟ قال : ” فوق سماواته على عرشه ” ]
الجواب : نعم فنحن نصف الله بما وصف به نفسه وهو قد وصف نفسه بأنه على العرش استوى فلا نقول بقول الجهمية أنه في كل مكان والعياذ بالله بل هو بلا مكان سبحانه نعرفه بما ورد به النص والأثر من كونه على العرش .
وهذا أيضا لا شيء فيه سوى اثبات المنصوص عليه في الكتاب والسنة دون تأويل أو اثبات معنى حسي ظاهر بل وصف له سبحانه بما ورد ووقوف عنده ورد لمعناه إليه سبحانه كما هو مذهب السلف في التفويض وإثبا ت ذلك محله غير هنا .
4- [- قال سعيد بن عامر : ” الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، قد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم : ليس على شيء ” ]
الجواب : نعم فهم يكذبون القرآن ويقولون ليس على العرش سبحانه بل هو في كل شيء ممازج له مخالط له والعياذ بالله ، فهم لا يسلمون للنص مع تفويض المعنى لله بل لما حار عقل الجهم ولم يستطع أن يفهم موجود بلا مكان ولا زمان ولا تدركه الحواس لم يستطع إلا أن يقول أن ربه هو هذا الهواء في كل مكان وهذا هو قول الجهمية لا نفي الاستواء ولا تنزيه الله عن الجهة والتحيز .
5- [قال علي : ” احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم يستجلي الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت لي أن في السماء إلها ” ]
الجواب : واضح مما سبق ، فحاصل كلام الجهم نفي الإله والإلحاد المطلق والله يقول عن نفسه { أأمنتم من في السماء } على تفسير ابن عباس للآية كما في زاد المسير لابن الجوزي ، فهو زنديق لا يثبت ما ورد في القرآن ويسلم بمعناه إلى الله كما المسلمين !!
6- [قال الفضيل بن عياض : ” إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل : انا أؤمن برب يفعل ما يشاء ” ]
– الجواب : ههنا عدة نقاط لا بد من الانتباه لها :
* فأولها حكاية قول الجهمي وأنه يثبت لله مكانا ولكنه ينكر زواله عن ذلك المكان لما أن الله عنده أصلا في كل مكان بل هو المكان ذاته !!
وهذا مخالف بداهة لقول المعتزلة وقطعا لقول أهل السنة من نفي المكان عن الله سبحانه وتعالى كما هو معلوم ، فليس الأشاعرة أو المعتزلة هم المعنيون بهذا الكلام والأثر قطعا لما أنهم ينفون المكان ابتداء !!
** ثم ثانيها أن الجهمي جعل الزوال لذات الله سبحانه وتعالى ، بينما رده الفضيل بن عياض رحمه الله إلى الحق كما سيتبين لنا !!
*** الفضيل بن عياض رحمه الله قد جعل النزول محل النزاع في الأثر مع الجهمي صفة فعل بقوله ( يفعل ما يشاء ) ، فالنزول عنده فعل لله سبحانه متعلق بالإرادة والإرادة تخصيص للممكن ، فمحل عملها الممكن المخلوق لا ذات الله القديم وفعل الله تبعا يقع لا في ذاته سبحانه وتعالى بل في العالم خلقا يخلقه سبحانه وتعالى ، فالنزول والمجيء وما سواها مما يوهم ظاهره الحركة والنقلة إنما هي عند الفضيل أفعال يفعلها الله في العالم يسميها نزولا وغيره ، فلا إشكال ههنا أيضا لمن فهم !!
7- [حذر يزيد بن هارون عن الجهمية وقال : ” من زعم ان الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ” ]
-الجواب : والجهمي هو من يقول الله في كل مكان حال ، وهذا توجيه لـ { الرحمن على العرش استوى } خلافا لما يقر في قلوب العامة من التابعين وأهل العلم ، والعامة الواردة في هذا الكلام يراد بها عامة أهل العلم وجمهور الأمة * ، فاستعمال لفظ ( العامة ) عندهم للإشارة إلى عامة أهل العلم معروف في اصطلاحهم مشهور ، والعامي بمعنى الجاهل لا يؤبه به أصلا ولا يقوم بقوله حجة عند أهل النظر والعلم ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) وظاهر اللفظ يشمل كل الأمة بما فيهم العامة ، ومعلوم أن العامة غير معنيين بهذا ولا يشملهم اللفظ بل جعل أهل العلم والأصوليون الأمة هنا أهل الاجتهاد خاصة ولو كان فردا واحدا لا غير ، فعلى هذا لا يستبعد هذا التوجيه للكلام ولا يؤبه بعدها ولا يرد استعمالنا نحن للفظ ( العامة ) فخطابنا غير خطابهم ومصطلحنا غير مصطلحهم ومن الظلم بمكان قياس كلامهم على كلامنا وفهمه على ضوءه !!
ثم إن لفظ العامة غير منضبط على استعمالنا ، فأي عامة يقصد الكلام ؟؟ أهم عامة السنة أم الشيعة أم الخوارج أم أهل الكتاب أم المجوس !!!!!؟؟
وإن كان يقصد بهم عامة أهل السنة فمن فيهم ؟؟ أهم المتعلمون أم أنصاف المتعلمين أم من يقرأ القرآن أم الأميون أم الجهلة الذين لايعون من كتاب الله حرفا !!!!؟؟؟
ثم على فرض أن العامة في الكلام هم العامة المعروفون ، فإنا لا نسلم أن العامة تفهم من { الرحمن على العرش استوى } التمكن والإستقرار والجهة كما تقول الحشوية ، ولو أنك توجهت بالسؤال إلى عامي هل تفهم من هذه الآية أن الله يجلس على العرش وأن العرش يحمله لنفى ذلك تماما ، فليس ما تعتقده الحشوية هو ما يقر في قلوب العامة ، بل يقر في قلوبهم أن الله وصف نفسه بالاستواء على العرش وأن الله ليس مثلنا بأي وجه وبالتالي فاستواءه لا نعلم عنه شيئا !!
8- [ قال ضمرة بن ربيعة عن صدقة، سمعت سليمان التيمي يقول : لو سئلت اين الله ؟ لقلت في السماء، فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت على الماء، فإن قال : فأين كان عرشه قبل الماء؟ لقلت : لا أعلم ” ]
-الجواب : نعم لو سئل لقال ( في السماء ) لما أن النص جاء بذلك كما في حديث الجارية ومراده العلو والرفعة لا التمكن والتحيز ، والعرش علامة ذلك العلو والقهر والسلطان في السماء وقبلها على الماء لورود النص وقبل الماء لا علم لنا لعدم وود النص !!
9- [- قال محمد بن يوسف : ” من قال إن الله ليس على عرشه فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر ” ]- الجواب : نعم لأن الله سبحانه يقول { الرحمن على العرش استوى } ويقول : { وكلم الله موسى تكليما } فمن أنكر الاستواء وكلام الله لموسى فقد أنكر وكذب كتاب الله ومن كذب كتاب الله فهو كافر ولا شك !!
10- [قال ابن عباس رضي الله عنهما : ” لما كلم الله موسى، كان النداء في السماء وكان الله في السماء ” ]
-الجواب : سبق الجواب على مثله بما يغني عن الاعادة ، وفيه أن الله ناجى موسى عليه السلام وقربه نجيا دون قرب حسي أو مخالطة مصداقا لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد كذب من زعم أنه كان أقرب إلى الله حين أسري به وعرج به إلى السماء من يونس بن متي وهو في بطن الحوت الكامن في أعماق إذ ليس ثمة مكان لله سبحانه وتعالى ليكون أقرب من شخص في مكان منه بالنسبة لشخص آخر في مكان آخر .
هذا ، ومن أراد أن يقف على حقيقة مراد الإمام البخاري فعليه بقراءة ( خلق أفعال العباد ) كاملا دون انتقائية أو قفز ، وبجمع كل الأقوال بعضها إلى بعض يتضح مقصود الإمام رضي الله عنه !!
وبالله التوفيق !!
_________________
(*) حسبما أفادنا الشيخ الأستاذ “الأزهري” في هذا الرابط :
http://www.al-razi.net/vb/showthread…&threadid=2623
وهو قد أخذها حفظه الله كما أخبر بالنص عن “الألباني الحشوي” عن مختصره للعلو للذهبي والفضل ما شهدت به الأعادي
[1] الإبانة – الأشعري (ص: 63): فلما كان الله عز و جل لم يزل عالما إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفا استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة كما أن خلاف العلم الذي لا يكون معه علم جهل أو شك أو آفة ويستحيل أن يوصف ربنا ( 1 / 67 ) جل وعلا بخلاف العلم وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما كما وجب أن يكون لم يزل عالما