يكثر ابن تيمية من دعوى مفادها أن أوائل أيمة أهل السنة الأشعرية كانوا على عقيدته في إثبات الفوقية الحسية للباري!، ويعتمد في هذا الشأن على بعض متشابه أقوالهم مع إعراض تام منه عن محكمها!.وتأمل يا عبد الله هذا التقرير الوافي من أحد أساطين أيمة السادة الأشعرية -من متقدميهم- في هذه المسألة، لتدرك مدى صدق الحراني في دعواه:قال الإمام المتكلم المفسر الأصولي الفقيه النحوي العلامة أبو بكر بن فُورَك (ت:406هـ): ((واعلم أنَّا إذا قُلنا: “إنَّ الله عزَّ ذكرهُ فوقَ ما خَلَقَ”، لَم نرجع به إلى فَوْقِيَّةِ المَكَانِ والارتِفَاعِ على الأَمْكِـنَةِ بِالمَسَافَةِ والإشْرَافِ عليهَا بِالمَمَاسَّةِ لشَيْءٍ منها، بَل قَولنَا: “إنَّهُ فَوقَهَا” يَحْتَمِلُ وجَهَـيْنِ:أَحَدهمَا: أَنْ يُرادُ به أنّهُ قَاهِرٌ لَها مُسْتَوْلٍ عَلَيهَا، إثبَاتًا لإحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِها وشمُولِ قَهْرِهِ لَها، وكونها تَحتَ تدْبِيرهِ جَارِية على حسبِ عِلمِهِ ومَشِيئَتِهِ.والوجه الثَّانِي: أنْ يُراد به أنَّهُ فَوْقَهَا على معنى أنَّهُ مُبَايِنٌ لَها بالصِّفَة والنَّعتِ، وأَنَّ ما يَجُوزُ على المُحْدَثَاتِ مِنَ العَيْبِ والنّقْصِ والعَجزِ والآفَةِ والحَاجَةِ لا يَصحُّ شيءٌ من ذلكَ عليه ولا يَجُوزُ وَصفهُ بهِ. وهذا أيضًا مُتَعَارَفٌ في اللُّغَةِ أن يُقال: “فُلَان فوقَ فُلَان”، ويُرادُ بذلكَ رِفْعَة المَرْتَبَة والمَنْزِلَة.والله عزَّ وجلَّ “فَوْقَ خَلْقِهِ” على الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.وإنَّمَا يمْتَنعُ الوجه الثَّالِث وهو: أن يَكُونَ على معْنَى التَّحَيُّز في جِهَةٍ، والاخْتِصَاص بِبُقْعَةٍ دونَ بُقعة))(1).فرجعت “الفوقية” عندهم في حقه تعالى إلى معنيين:(أ) ثبوتي: إثبات قهره تعالى التام للعالَم = فهو جل شأنه فوق العالَم بالقهر والتدبير وشمول القدرة والجبروت.(بـ) سلبي: سلب كل معاني النقص عنه تعالى = فهو جل وعلا فوق كل المعاني الأرضية وسمات المحدثات من العرش إلى الفرش.والممنوع عندهم:• فوقية المسافة والجهة الحسية = وهو مذهب ابن تيمية الحراني.
______________________
(1) مُشكل الحديث (ص:81)، تحقيق وتعليق: دانيال جيماريه، المعهد الفرنسي للدّراسات العربيّة بدمشق، طُبع في سورية آذار 2003م.