تاريخ وتراجم

“كان ابن حجر العسقلاني يمنع تلاميذه من الرواية عن كتاب (ذم الكلام) لتعرضه لما وقع بين الأئمة المتخالفين في المناظرات والمباحثات”

((ورغم استقرار مدرسة الرأي، وإكثار تلاميذ أبي حنيفة، وخاصة محمد بن الحسن الشيباني من الاعتماد على الحديث، فإن الانطباع الذي ولدته المدرسة في بداية نشوئها في أذهان أسلاف المحدثين – المعاصرين لها- بسبب توسعها في القياس والرأي استمر يؤثر على نظرة خلفهم إلى هذه المدرسة وذلك ظاهر في ذهنية الأنصاري التي تمثل نظرة المحدثين في القرن الخامس الهجري، ولا شك أن قراءة خلف المحدثين لكتب أسلافهم يجعلهم يتأثرون بأقوالهم ومواقفهم خاصة وأنهم يحظون باحترامهم وتقديرهم الكبير بسبب وحدة المدرسة.
وإذا كان النزاع بين مدرستي النص والرأي قد أخذ هذه الأبعاد، فإن الخلافات بين المحدثين الملتزمين بعقيدة السلف والأصوليين الآخرين الذين اعتمدوا على علم الكلام في بناء أصول الدين، يبدو أوسع وأعنف لأسباب تاريخية وموضوعية معاً.
فقد بنى المعتزلة آراءهم في أصول الدين على العقل واستخدموا المنطق وعلم الكلام، فغلبت النزعة العقلية على مباحثهم العقدية، ورغم أنهم لعبوا دوراً إيجابياً في مقارعة عقائد المجوس واليهود والنصارى والزنادقة وغيرهم، لكنهم صرفوا طاقاتهم العقلية في (الجدل) في نطاق (الميتافيزيقيا) فيما لا طائل تحته، كما أنهم أشغلوا الأمة بـ (المحنة) التي أضرت بالفقهاء والمحدثين حيث ضرب بعضهم بالسياط كالإمام أحمد ابن حنبل، ونفي آخرون عن العراق في زمن المأمون والمعتصم.
والواقع أن الالتحام بين السلطة والمعتزلة زمن المأمون والمعتصم، والواثق أدى إلى موجة من الإرهاب الفكري، وخنق حرية الرأي.

وقد يبدو ذلك متناقضاً مع سعة أفق المأمون وعمق ثقافته التي خَفَّفت – دون شك – من العنف مع خصوم المعتزلة، لكن هذه الضوابط العلمية تحطمت في خلافة المعتصم الذي لم يكن متضلعاً بالثقافة العقلية، بل كانت قابلياته مكتسبة من احتكاكه المباشر برجالات البلاط العباسي من قادة وساسة وعلماء، حتى إنه وصف بالأمية.
ومن ثَم كانت أحداث العنف ضد مخالفي المعتزلة نتيجة رغبة المعتصم في تنفيذ سياسة المأمون التي تنتصر للمعتزلة، وإذا لاحظنا التأييد الواسع الذي كان يحظى به المحدثون ببغداد من جماهير الأمة آنذاك، أدركنا مدى الأثر الأليم الذي تركته سياسة السلطة في اضطهاد المحدثين والفقهاء، وهو أثر يمتد إلى أجيال المحدثين التالية التي قرأت أخبار المحنة أو سمعتها.
ولا شك أن ذلك جعلها تعيش في أجواء نفسية مفعمة بكراهية المعتزلة، فإذا أضفنا إلى هذا العامل النفسي التناقض الواضح بين الاعتماد على النقل والالتزام بحدود النص الذي يمثل منزع المحدثين وبين المنهج العقلي للمعتزلة أدركنا الهوة التي تفصل بين المدرستين، ومن الواضح أن النزعة العقلية استمرت بعد خفوت صوت المعتزلة في مدرستي الأشاعرة والماتريدية، فكلتاهما زاوجت بين الالتزام بالنصوص والتقيد بالكتاب والسنة، وبين النزعة العقلية التي صارت تنحصر في حدود (تأويل النصوص) تأويلاً يبعد كل تصور يفضي إلى التشبيه والتجسيم حسب تعليل المدرستين، لكن شيخ الإسلام الأنصاري – كمحدث ملتزم بمذهب الإمام أحمد بن حنبل في الأصول والفروع – لا يقر البحث في أصول الدين على أساسٍ عقلي سواء كان المبحث مطلقاً أو مقيداً بدائرة النصوص، فالنصوص – في رأيه – تكفي لبيان أصول العقيدة، ولا حاجة بعد ذلك للاستدلالات العقلية والأدلة المنطقية لتدعيمها أو شرحها.فهو يرى إذاً الاقتصار على ما ورد في الكتاب والسنة، ومن هنا جاءت حملته العنيفة على المعتزلة والأشاعرة في كتابه (ذم الكلام وأهله).

وقد ساعد على تبلور اتجاهه ضدهم اتصال الأنصاري بشيوخ عنيفين في موقفهم من (علم الكلام).
مثل شيخه يحيى بن عمار الذي كان يرى أن علم الكلام علم يهلك به الدين(1) ومنذ أيام شباب الأنصاري تحدد موقفه من المتكلمين والأشاعرة، فهو في الحادية والعشرين من عمره سنة 417 هـ لم يأخذ الحديث عن القاضي أبي بكر الحيري لأنه كان متكلماً وأشعري المذهب رغم اعتراف الأنصاري بأن عند الحيري الأسانيد العالية في الأحاديث(2).
وقدقاطع الأنصاري علماء آخرين كبار بسبب(الكلام) و(الأشعرية) مثل أبي محمد الجويني، وإبراهيم الأسفرائيني، وإسماعيل الصابوني، فلم يحضر مجالسهم بنيسابور لتأثرهم بمذهب الأشعري، بل إنه قاطع مجالس الصوفي المشهور (أبي القاسم القشيري) بسبب أشعريته(3)، ولم يشفع له (تصوفه) عند الأنصاري، ومن ثم فإن الأنصاري كان يرى أن الكلام والأشعرية تقدح في المحدث، فامتنع عن الأخذ عن المتكلمين والأشاعرة منذ أيام شبابه، واستمر على سوء رأيه فيهم ونقده لمناهجهم حتى آخر حياته وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض جهابذة المحدثين المتأخرين لم يكونوا راغبين في الخوض في الخلاف بين بعض أسلافهم والأشاعرة فقد كان ابن حجر العسقلاني يمنع تلاميذه من الرواية عن كتاب (ذم الكلام) لتعرضه لما وقع بين الأئمة المتخالفين في المناظرات والمباحثات(4).))

كذا من كتاب: تعليقة في منهج البحث وتحقيق المخطوطات، للدكتور أكرم ضياء العمري


(1) سعيد الأفغاني – شيخ الإِسلام الأنصاري (ص 31).
(2) المصدر السابق (ص 38).
(3) المصدر السابق (ص 38، 40).
(4) السخاوي: الإِعلان (ص 485).

السابق
المدارس العلمية التي كانت في نيسابور
التالي
تكامل العلاقة بين الرجل والمرأة لبناء الأسرة والمجتمع الإسلامي (منشور قيم لأخي العلامة أحمد زاهر سالم)