(نشرت هذه الفتوى سابقا على https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=553504121492851&id=100004998042091 )
إحدى الأخوات من أهلنا في سوريا استفتتني مؤخرا على الخاص في أن زوجها ألقى عليها الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاث مرات، آخر مرتين في يوم واحد ….!!!
والأخت كانت متألمة جدا من ذلك لسوء وضعها لأنها لا مأوى لها بعد فراق زوجها…. فضلا عن سوء الأحداث الدموية في سوريا حاليا كما هو معلوم ….
والواقع أنني أحرجت جدا من استفتائها هذا ولكن لم أجد بُدّا من إجابتها لاسيما وأنها ألحت عليّ…. وبعد التوكل على الله والبحث في المسألة أجبتها بما يلي :
‘‘‘‘‘‘أختي الكريمة: كما قلت لك بالأمس إن وضعك حرج جدا … وللأسف … ولقد حاولت أن أجد لك مخرجا شرعيا لأزمتك هذه لاسيما وأنه قد لاح لي شِبه مخرجٍ فقهيٍ بالأمس… ولكنني ـ ويحزنني أن أقول لك هذا ـ وبعد بحثي اليوم في كتب الفقهاء تبين لي أنه لا يوجد مخرجٌ لكِ بحال من الأحول…مع شديد الأسف … لأن زوجك ـ أصلحه الله ـ قد أوقع عليك الطلاق ثلاث مرات في كل مرة بالطلاق الثلاث …. ومن المرة الأولى أنت تعتبري محرّمة عليه لأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا عند المذاهب الأربعة …. ولكن من أرجعك في المرة الأولى اعتبرها طلقة واحدة استنادا لفتوى ابن تيمية…. فبقي لكِ طلقتان حتي تحرمي على زوجك ، وقد رمى عليك الطلاق مرتين، في كل مرة طلاقا بالثلاث كما قلتِ لي، وبذلك استنفدتِ العَددَ المأذون فيه بالطلاق شرعا حتى على قول ابن تيمية مع أنه مذهب ضعيف … وبذلك تكونين قد حرمتِ على زوجك حتى تنكحي زوجا غيره كما في قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ….. فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 229، 230].
وهذا لأن زوجك تسرّع في الطلاق وألقاه بالجملة فلم يترك لنفسه مخرجا …. وقد روى أبو داود في سننه عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ، فَيَرْكَبُ الْحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [ الطلاق: 2] ، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ.اهـ
هذا ما فعله زوجك حيث رمى الطلاقَ عليكِ بهذه الصورة الشنيعة ولم يتق الله فيك ولا في نفسه … فلم يُبقِ في الشرعِ له مخرجا كما سبق … وأنا أعلم أنك أنت من ستضرر من هذا الطلاق والفراق لظروف البلد (سوريا) الحالية السيئة ولكن إن شاء الله سيجعل الله لكِ مخرجا بعد أن تتركي زوجك … ولك أسوة بسائر النساء الذي ترملوا في هذه الأحداث … أسأل الله أن يفرّج عنا جميعا عاجلا غير آجل . والله أعلم
وعذرا على التأخير والإطالة كما أتأسف على هذه الفتوى … ولك أن تسألي غيري لا سيما وأنا لا أفتي أصلا في مسائل الطلاق ….وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.’’’’’انتهت الفتوى.
بيد أنني وبعد أن أرسلت الفتوى إلى الأخت وجدت لها وجها ولو ضعيفا، فقد قرأت في كتاب النجم الوهاج في شرح المنهاج للإمام الدميري(8/ 18) عند قال الإمام النوووي في المنهاج “ويصح إيلاء وظهار وطلاق ولعان ويتوارثان” قال الدميري: لأن الرجعية زوجة في هذه الأحكام الخمس، وهي التي عناها الشافعي بقوله: في خمس؛ أي: من كتاب الله، المواد هذه الأحكام….وفي (الجيلي) وجه: أنه لا يصح الطلاق، وعزاه ل (البسيط) وليس فيه، والمختار في (الروضة) هنا أن الرجعية لا يطلق فيها ترجيح هل هي زوجة أو لا كالقولين في (النذر)؟.اهـ
قال وليد ابن الصلاح: ولقد وجدت هذا الوجه في كفاية النبيه في شرح التنبيه لابن الرفعة(14/ 186) حيث قال فيه: ‘‘‘‘وفي “الجيلي” حكاية وجه: أنه لا يلحقها الطلقة الثانية، وعزاه إلى “البسيط”. ووجه آخر: أنه لا يصح الظهار والإيلاء، وبناه على عدم وقوع الطلقة الثانية والثالثة، وعزاه إلى تعليق [أسعد] وأن في “البسيط” إشارة إليه، وقد تتبعت مظانه [فيه] فلم أجده ولا الأول، والله أعلم.‘‘‘‘‘
فقول الدميري: “وفي (الجيلي) وجه: أنه لا يصح الطلاق” ونحوه عند ابن الرفعة: هذا فيه مخرج للأخت لأن زوجها طلقها في يوم واحد مرتين بينهما ساعة تقريبا…. وطبقا لهذا الوجه بأن المطلقة لا يلحقها طلاق فإن طلاقها الأخير لم يقع لأنها كانت في عدة الطلاق… ولكن هذا المخرج كما قلنا هو على مذهب ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع واحدة، وهو مذهب ضعيف كما بسطت ذلك في رسالتي للدكتوراة*.
كما أن هذا الوجه الذي حكاه الجيلي ضعيف لوجهين، خاص، وعام، أما الخاص فلأن هذا الوجه لم يُعثر عليه في الكتب التي عزاه إليها الجيلي كالبسيط للغزالي، وغيره، كما قال ابن الرفعة في نصه السابق.
وأما الوجه العام في ضعف هذا الوجه، فهو لأن كتاب الجيلي هذا غير معتمد كما نبّه عليه علماء الشافعي، وسبب ضعفه ما جاء في كتاب مختصر كتاب جواهر البحرين في تناقض الحبرين للإسنوي; لمؤلفه: علي بن أبي بكر الأزرق: قال الإسنوي : ورأيت الشيخ محي الدين (أي النووي) قد تعرض في هذا الشرح لفائدة وهي : على شرح التنبيه للصائن الجيلي** فقال : لا يؤخذ من شرح التنبيه للجيلي في شيء من المواضع حتى ينظر في مصنفات أصحابنا .اهـ
قال محقق مختصر الجواهر: ‘‘‘الجيلي هو : صائن الدين عبد العزيز بن عبد الكريم الجيلي ، كان عالماً ، مدققاً ، شرح التنبيه شرحاً حسناً ، إلا أنه انتُقد لما فيه من العزو إلى كتب غير معروفة بعد الفحص ، وقد نبه ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد أنه لا يجوز الاعتماد على ما تفرد به .
قال الإسنوي : ( وسمعت بعض المشايخ الصلحاء يحكي: أن الشرح المذكور لما بَرَز حسده عليه بعضهم، فدسَّ عليه أشياء أفسده بها ، وهذا هو الظاهر ) أ.هـ، توفي بعد سنه (629) هـ**.’’’’
فلا جرم أن شرّاح المنهاج كالرملي وابن حجر والهيتمي وغيرهم أهملوا وجه الجيلي هذا وجزموا تبعا للمنهاج بأن المطلقة يلحقها الطلاق والإيلاء والخلع، لاسيما وأن هذا نَصُّ الشافعيِّ نفسه مستدلا على ذلك بخمس آيات كما سبق.
قال وليد: بيد أنني ومع كراهتي للإفتاء بالوجوه الضعيفة فإن نفسي تحدثني أن أجعل لهذه الأخت المكروبة مخرجا بهذا الوجه مع ضعفه الشديد … فأشيروا عليّ بارك الله فيكم .
===============
*انظر بحثي المطول حول ذلك على: https://www.facebook.com/Sufism.council/posts/635233816502774
** انـظر : طبـقات الشـافعية الكبرى (8/256) طبقات الإسنوي (1/182) لسان الميزان (4/40) هدية العارفين (5/579) .
انظر: http://library.arabia-it.com/books/book_read.aspx…