حول قول الإمام الشافعي: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لِتَرْكِهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاليس…(د13، علم #المنطق) قال شيخنا العلامة سعيد فودة في كتابه تدعيم المنطق (ص: 159):مناقشة العلة الأولى التي اعتمد عليها السيوطي في تحريم المنطق.قال السيوطي (1) : “أما الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأتباعهم فلم يَرِدْ عنهم فيه التصريح بشيء لكونه لم يكن موجوداً في زمنهم، وإنما حدث في
__________
(1) … صون المنطق والكلام، ص14.
=====================================
أواخر القرن الثاني كما تقدم وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه حياً آنذاك فتكلم فيه، وهو أقدم من رأيته حطَ عليه.”اهـ.وبالإشارة إلى ما مضى، فإننا نعلم أن كلام السيوطي إذا كان صحيحاً فيجب أن يكون متوجهاً على شكل علم المنطق كما ظهر في الكتب والتآليف وكما رتبه عليه المؤلفون فيه، ولا يجوز أن يكون متوجهاً على حقيقة علم المنطق، ولأن هذه الحقيقة موجودة في زمان الصحابة وقبلهم ولا تزال موجودة بعدهم حتى الآن، ولن تزال.فأما الكتب التي احتوت علم المنطق فلم تكن موجودة في زمانهم رضي الله عنهم، بل وجدت بعد ذلك وكانت مخلوطة بمسائل من الفلسفة اليونانية كما هو معلوم، وكان المسلمون حديثي عهد بالترجمات، بل كان المترجمون حديثي عهد بذلك، فكانت تراجمهم لكتب الأمم السابقة غالباً مخلوطة بأسلوب الكتاب الأصليين من يونان وهنود وغيرهم، فكانت الكتب المترجمة لا تظهر فيها الفصاحة كما تظهر في الكتب العربية الأصيلة.وسوف نورد فيما يلي نص الإمام الشافعي كما أورده السيوطي قال رحمه الله تعالى (1) : “ذكر النص الذي ورد عن الإمام الشافعي في ذلك، قال أبو الحسن بن مهدي حدثنا محمد بن هارون ثنا هميم ابن همام ثنا حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لِتَرْكِهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاليس. ثم قال السيوطي (2) : “وأشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع.”اهـوسوف نناقش هنا كلمة الإمام الشافعي على فرض صحة السند إليه، رضي الله عنه، نناقشها من ناحية معناها، لنرى هل هي صحيحة أوْ لا، وإن كانت صحيحة فما مدى دائرة صحتها؟أولاً نقول….’’’’
__________
(1) … صون المنطق،ص15.(2) … صون المنطق،ص15.
==========
وسوف نناقش هنا كلمة الإمام الشافعي على فرض صحة السند إليه، رضي الله عنه، نناقشها من ناحية معناها، لنرى هل هي صحيحة أوْ لا، وإن كانت صحيحة فما مدى دائرة صحتها؟أولاً نقول: إن الإمام الشافعي كغيره من الناس من حيث الأصل في جواز إصابته في كلامه، والانتقاد عليه، حيث لم تثبت العصمة إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، نعم الإمام الشافعي مشهود له في علم الفقه والأصول وغير ذلك من العلوم على أنه إمام متبع، ونحن نتبعه أصلاً في ذلك كله، ولكن اتباعنا له لا يستلزم التسليم له بكل ما يقوله. وهذه بديهية من بديهيات الإسلام.وأيضا فإنَّ الأصل المُسَلَّم عند أهل العلم أنه إذا بَلَغَنا قولٌ عن إمام مشهود له، وظاهر هذا القول فيه فساد بيِّن، فعلينا أن نحمل هذا القول على معنى لائق، بأن نبحث عن القرائن الأخرى التي تصحح ذلك، وإلا فان لم نجد، حَكَمْنَا عليه بما هو ظاهر فيه. قال الإمام العلامة السعد التفتازاني (1) :” لكنه ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً يصلح محلاً لنزاع العلماء واختلاف العقلاء”
__________
(1) … شرح العقائد النسفية، للإمام سعد الدين التفتازاني، ذكر هذا الكلام أثناء مبحث التكوين.
================
وبناء على ذلك نبدأ نقدنا لهذه الكلمة، فقوله (الناس) عامٌّ، وقد يقال إنه ظاهر في العموم، فهو على ذلك شامل للناس الذين كانوا قبله والمعاصرين له وإذا احتج به على ما بعده، فإن هذا الاحتجاج لا يتم إلا إذا ادعي عمومه لما بعده، فهو يحكم على مَنْ جَهِلَ مِنْ هؤلاء الناس بأنَّ سبب جهلهم هو تركهم للسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس. والجهل هو عدم إدراك الحق مطلقا، سواء لم يعرفه أصلاً أو اعتقد غيره. وعندما ننظر في هذه العبارة بعد ما قلناه، ونحاكمها إلى الواقع الموجود نرى مايلي.إن الجهل واقع في بعض الناس قبل الشافعي وفي عصره وبعد عصره. وأيضا فهو واقع قبل معرفة المسلمين للسان أرسطو وبعده، وهو واقع أيضا فيمن يتبعون هذا اللسان وممن لا يتبعونه، ويستحيل أن يكون الجهل الواقع قبل معرفتهم للسان أرسطو نتيجة للسان أرسطو والإ لزم أن تكون النتيجة سابقة للسبب والعلة وهذا ممنوع. ويستحيل أن يكون سبب جهل الناس الذين ينكرون لسان أرسطو هو عين لسان أرسطو لعدم وجود العلة في حقهم، والعدم لا يؤثر هنا.وهكذا فالحاصل أن الناس الذين جهلوا، بعضهم يستحيل أن يكون سبب جهله لسان أرسطو، ولذلك فيستحيل أن يكون مراد الإمام الشافعي تعميم قوله بتعليل جهل عموم الناس بميلهم إلى لسان ارسطو.
=============
إذن يجب أن يحمل كلامه على بعض الناس ومادام الكلام في البعض، ولا يجوز تعميم كلامه. فنحن نقول أيضا إذا كان قصده أن كل من مال إلى لسان أرسطو وقع في الغلط فهذا أيضا غير مسلم لمخالفته الواقع. لأن كثيرا من العلماء عرفوا المنطق، ولم يقعوا في الأغلاط التي تستنكر. فيجب إذن حمل كلام الشافعي على المعنى التالي وهو: أن بعض من مال إلى لسان أرسطو وقع في الجهل، وهذه قضية مُسَلَّمَةٌ، ولكن إذا تحصَّل لدينا أن كلام الإمام الشافعي لا يصح إلا بعد حمله على هذا المعنى، فالحاصل هو القول بأن الميل إلى لسان أرسطو ليس هو نفس علة الوقوع في الغلط، وذلك لأنه ليس كل من مال إليه وقع في الغلط، فيلزم أن من وقع في الجهل والغلط ممن مال إلى لسان ارسطو قد تلبس أيضا بصفات أخرى غريبة عن هذا اللسان الأرسطى، فلزم وقوعُه في الجهل.وإذا كان الأمر كذلك فيستحيل تعليل الجهل والغلط بعين الميل واتباع لسان أرسطو. هكذا يجب أن نفهم عبارة الإمام الشافعي. وعليه فهناك علائق أخرى تلبس بها هؤلاء الجهلة تسببت في جهلهم.وإذا عرفنا أن المنطق حتى زمان الإمام الشافعي كان مخلوطا بالمقولات الفلسفية على سبيل التمثيل على الصور الفكرية المنطقية، فيمكن أن يكون الغلط ناتجا من تأثر الناس بهذه المواد التمثيلية المختلطة بالصور الفكرية المنطقية. وكذلك ربما يكون مثال من الأمثلة لم تتم سياقته سياقة منطقية وهذا مُحْتَمَلٌ جدا فتأثَّرَ الناس به فجهلوا. وكذلك فيمكن أن يكون جهل هؤلاء من تسليطهم الصورة الفكرية المنطقية على مادة فاسدة، مما أنتج عندهم جهلا وغلطا. كما يمكن لمن عرف المنطق أن يطبقه تطبيقا خاطئا فيحصل الجهل. وكل هذه الاحتمالات وغيرها احتمالات واقعة وليس مجرد فرضيات عقلية لا وقوع لها.
==============
ويلزم على ذلك تخصيص لفظ الناس الوارد في عبارة الشافعي ببعض من جهلوا، واخراج نفس الميل عن كونه علة للجهل.وربما لذلك قال السيوطي إن الإمام الشافعي أشار بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع.وهذا محاولة من السيوطي لتخصيص عموم كلام الإمام الشافعي، وإن كنا لا نوافقه في التخصيص بما ذكر، بل التخصيص حاصل بالالتفات إلى ما أوردناه من الاحتمالات المذكورة سابقا.فإنَّ المشاكل التي أوردها كأمثلة نتيجة لميل الناس إلى لسان أرسطو كنفي الرؤية حصل فيها خلاف في زمن الصحابة الأوائل كما هو معلوم، وقبل معرفة لسان أرسطو ولذلك فهي لا تصلح كمثال على ما يقول، وأيضا فمشكلة خلق القرآن كانت أقدم من زمان معرفتهم للسان أرسطو كما ذكره السيوطي نفسه في نص هذا الكتاب فقال (1) :”وأخرج نصر أيضا عن أبي هريرة قال كنا عند عمر بن خطاب إذ جاءه رجل يسأله عن القرآن، أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فقال علي: هذه كلمة وسيكون لها ثمرة ولو وُلِّيْتُ من الأمر ما وليت ضربت عنقه”
__________
(1) … صون المنطق، ص18.(2) … صون المنطق، ص18.
=======================
وكذلك ما أورده السيوطي من قصة صبيع فقال (2) : ” وأخرج الدرامي في سنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت. قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه”اهـ.فالكلام في متشابه القرآن وفي الرؤية وكذلك في القدر وفي غير ذلك من مسائل الاعتقاد والخلاف فيه كان في الزمان المتقدم، وإن لم ينتشر كما في الأزمنة المتأخرة.فإن قال قائل: ربما أراد الشافعي بما قاله أن معرفتهم للسان أرسطو قد شجع في زيادة الخلاف، فيقال له هذا ممكن ولكن لا يُنسَبُ إلى المنطق مفسدة خالصة، فإن بعض من لم يكونوا يعرفون من لسان أرسطو شيئا كالكرامية ومجسمة الحنابلة قد اشتدوا في الغلط والإفساد في علم التوحيد. فلا يجوز نسبة مطلق الجهل ولا زيادته وانتشاره مطلقا إلى ميل الناس إلى لسان أرسطو. وغاية ما يكون منه، هو تأثيره في البعض.وبناءا على ما مضى، يلزم تخصيص كلام الإمام الشافعي ومن ثم الاستدلال به على هؤلاء البعض فقط. ثم يشرع بعد ذلك في تحليل سبب نزولهم في هذه الجهالات هل هو عين المنطق أم ما خالطه؟هذه هي الطريقة الصحيحة لفهم مثل هذه النصوص لمن أراد تحقيق الحق فيها وحملها على معناها الصحيح والملائم لمكانة قائلها في العلوم.
ــــــــــــــــ
(2) … صون المنطق، ص18.
==============================
ثم قال السيوطي (1) : “أخرج الهروي في كتاب ذم الكلام بسنده عن الشافعي قال: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ. دلَّ ذلك منه على أن العلة في تحريم النظر في علم الكلام ما يخشى منه من إثارة الفتنة والانجرار في البدع، فحرمه قياساً على تحريم النظر في المتشابه، وهذا قياس صحيح، وهذه العلة بعينها موجودة في المنطق كما ذكره الشافعي، فيكون الدليل على تحريم النظر فيه على القياس على الأصل المقيس عليه علم الكلام، وهو المتشابه المنصوص على تحريم النظر فيه، وهذا قياس صحيح لا يتطرق إليه قدح بنقض ولا معارضة.اهـ”.هذا الهرويُّ الذي ينقل عنه السيوطي من متعصبي المجسمية، وكتابه هذا يتخلله مغالطات عديدة، في هذا المجال لانبنائة على روايات تالفة أو عن رجال لا قيمة لآرائهم، وأما ما نقله عن المشهورين بالعلم منهم فلا تدل على مراده. ولسنا بصدد التأكد من نسبة هذا النص، للإمام الشافعي، ولكننا نتوجه بالنظر في نفس المتن وننقده بالأدلة والقواعد العامة، ولا يهمنا بعد ذلك صحَّ السند إليه أو لم يصحَّ.المُدَّعى هنا أن المنطق يتوصل إلى النهي عنه والحكم بتحريمه قياساً على علم الكلام. وهذا الاستدلال بالقياس لا يتم إلا بما يلي1- التأكد من أن علم الكلام مذموم مطلقاً.2- تحقيق علة النهي التي من أجلها نهي عن علم الكلام.3- إثبات أن علة تحريم علم الكلام موجودة في علم المنطق.4- إذا ثبت ذلك ثبت أن المنطق علم مذموم.وكما هو معلوم في علم الأصول فإن العلة يجب أن تكون مناسبة للحكم، ويجب اطرادها، وإن وجدت في جزئية أخرى ولم يوجد حكمها انقدح كونها علة لهذا الحكم. ويجب التحقق من كون الحكم متعلقا بالعلة المدعاة نفسها لا بغيرها.وبناءً على هذه المقدمة نقول:إن الإمام السيوطي قال أولاً أن علم الكلام مذموم ومنهي عنه قياساً له على المتشابهات، فهو إذن يعتبر علم الكلام من المتشابهات أو يشاركها في علة النهي. فإذا سلمنا له أن الوصف بالتشابه الموجود في المتشابهات هو بعينه موجود في علم الكلام سلمنا له النهي عنه بعد التسليم بالنهي عن المتشابهات.فيجب أولاً تحقيق معنى المتشابهات لنعرف حقيقة هذه العلة التي أنيط بها الحكم المذكور.
__________
(1) … صون المنطق، ص18.
=============
النصوص التي وردت عن الشارع إما أن تحتمل معنى واحداً لا غير، أو تحتمل أكثر من معنى لأول النظر، القسم الأول هو المحكم، وأما الثاني فهو التعريف الأعم للمتشابه، وهذا القسم إما أن يكون جارياً على الأوضاع العربية في السياق كقوله تعالى (يد الله فوق أيديهم)، أو لا يكون كقوله تعالى (ألم)، والقسم الثاني لا كلام لنا فيه، وأما القسم الأول، فلا يخلو إما أن يكون موجهاً إلينا للإفهام والإفادة أو لا يكون، الاحتمال الثاني باطل لأن ما في القرآن يجب كونه للإفهام والتعليم، وعلى الأول فإما أن يكون بقدرة أيِّ واحد فهمه أو لا، الأول باطل وإلا لكان محكماً أو ارتفع الخلاف فيه، إذن كلامنا في القسم الثاني، فالذين يفهمون مثل هذه النصوص هم الخواص أي العلماء. وعلى هذا فإما أن يكونوا مكلفين بالفهم أو لا يكونوا، والفرض أن كل القرآن إنما أنزل للإفادة والتعليم، إذن فهم مكلفون بالفهم. وعليه، فإما أن يتفقوا على فهم واحد للآيات، أو لا، فإن اتفقوا لزم اتباعهم عليه، وإلا فيرجع الأمر إلى الأدلة والبراهين للزوم وجود مصيب واحد، في مثل هذه المسائل الإعتقادية وإن فرض محل الكلام نصاً فقهياً، فكذلك عند غير المصوبة أو يقال بتصويب الجميع على رأيهم، وعلى كلٍّ فالخلاف في الفقهيات يسير والأمر فيه سهل.والحاصل من هذه المقدمة أن المتشابهات هي نصوص شرعية أمر العلماء بالتدبر فيها ومحاولة اكتشاف معانيها وعلى العوام اتباع أهل الحق والبرهان.هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في المتشابهات.وهذه النصوص إما أن يتوصل المجتهد فيها إلى درك الحق تفصيلاً أو إجمالاً، فهما مرتبتان من العلم لا تعارض الواحدة الأخرى، ولا إشكال في اتباع أي منهما، بل ربما يقال أن الواحد قد يكون مكلفاً بالإجمال أحياناً وبالتفصيل أحيانا أخرى على حسب الأحوال.وإذا كان الأمر كذلك في المتشابهات. فما هو علم الكلام، هل علم الكلام يبحث فقط في النصوص المتشابهة؟ أم يبحث فيها وفي غيرها؟ وهل هذه النصوص المتشابهة فقط هي أساس هذا العلم أم لا؟
انظر:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/620955638018462