- هل الابانة آخر ما كتبه الإمام أبو الحسن الأشعري:
لا يخفى على كل مطلع على تراث الإمام أبي الحسن الاشعري وجود اختلاف في منهجية التصنيف بين كتاب الابانة ذي النزعة الأثرية، وكتاب اللمع ذي النزعة الكلامية، والجدلية المترتبة على تقدم احدهما عن الآخر ودعوة تراجع الإمام أبي الحسن عن المنهجية الكلامية ودخوله في طور ثالث.
ولو كان منهج الإبانة ينصر الاختيارات الحنبلية في الصفات الخبرية، إلا أن الموضوعية والحياد في البحث العلمي تقتضي مني تجاوز انتمائي المذهبي في البحث والترجيح
وقبل الحديث عن الأسبقية في التصنيف لا بد من التأكيد على أن الإمام لم يتناقض في الكتابين، وما ذكره في الكتاب الأول لم يتعرض له في الثاني وكذلك العكس.
والراجح والله أعلم بعد البحث ومراجعة اختلافات المؤرخين والمستشرقين تقدم كتاب الإبانة على كتاب اللمع وذلك لعدة أسباب:
1- ما ذكر في اللمع يشير إلى أن المذهب تبلور ، وان الأشعري قد أصبح إماما وصاحب مذهب واتباع حتى يسأل كما ذكر في المقدمة
( أما بعد فإنك سألتني أن أصنف لك كتابا مختصرا، أبيّن فيه جملا توضح الحق، وتدمغ الباطل، فرأيت إسعافك بذلك)
عدا عن ان لفظة (أصحابنا) قد وردت في سبع مواطن من الكتاب (ومن أصحابنا) ( وقال أصحابنا ) حيث أصبح للمذهب أصحاب.
وهذا يدفع الرواية التي نقلها ابن عساكر في تبين كذب المفتري عن أن اللمع قد دفعه الاشعري للناس حين أعلن توبته.
2- وأما كتاب الابانة فالراجح أن يكون من أول كتبه بعد الاعتزال وذلك لما فيه من شدة على المعتزلة كحال كل من يترك مذهبا، ولما في كلماته مما يشبه البيان التأسيسي لإعلان مذهب جديد، حيث قال:
(فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ،والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به ،تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقوله أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل)20.
وهذه الحالة تناسب حال من ترك مذهبا وأعلن عن دخوله في مذهب جديد أو تاسيسه لمذهب جديد، ولا يقال مثل هذا المقال فيمن ألف كتبا وضع فيها أسس مذهبه وبسطها في كتاب كاللمع وغيره.
والنزعة الأثرية في الكتاب متناسبة مع تارك لمذهب كلامي كالاعتزال بعد أن استشكلت عليه تقريراته العقلية، ودخوله في حالة من الريب في تقريراتهم ، يكون الملجأ منها الاعتصام بالأثر.
3- والنقطة الأهم أن كثيرا من كتب الأشعري المطولات لم تصلنا، وقد وقف عليها أصحاب أبي الحسن وحرروا رواياته وأقواله كما في كتاب ابن فورك 406ه (مجرد مقالات الأشعري)، الذي حرر فيها أقواله وخرَّج بعض الأقوال على أصوله، ومثله لا يخفى عليه انتقال الأشعري لمذهب ثالث لو كان، واتهامه بمعرفة ذلك وكتمانه هو اتهام له في دينه وأمانته حاشاه رحمه الله.
فتأمل