ثالثا: مناقشة كلام المعترض:
قال: ((يقولون ” إن الرحمة رقة في القلب وانعطاف يقتضي تفضلا وإنعاما، وما كان من الصفات من هذا القبيل فهي مأخوذة بالغايات لا بالمبادئ، بمعنى أن الرحمة لها مبدأ وغاية تنتهي وتؤول إليه، فمبدؤها رقة وانعطاف وهو انفعال، والانفعال والكيف محال في حقه عز وجل، فلزم أن نؤولها بالغاية التي هي فعل، فيقال إنه تفضل و إحسان تنزيها للباري “.
هذا هو المنهج العام الحاكم لتعامل المتكلمين مع الصفات حيث استحالة المبتدى فتعين المنتهى.
وهذه طريقة غير مخلصة، إذ لا يسلم لهم المبتدى، فيقال إن تفسير الرحمة بما ذكر هي رحمة المخلوق، فلا يسلم لهم تفسير الرحمة الإلاهية بما ذكر، قد خافوا التشبيه فدرؤوه بما ذكر وهو عين التعطيل.
فالتحصيل أن حقيفة الرحمة هنا مرادة لأنه عز وجل لما أراد لازمها وهو التفضل والإنعام صرح بها … )).
التعقيب:
• سبق بيان مذهب علماء أهل السنة الذين ينفون قيام الحوادث بالذات العلية في صفة الرحمة مضافة لله: فردها بعضهم إلى صفة الإرادة، والإرادة “صفة ذات” قديمة، بينما ذهب الأغلبية منهم إلى تفسيرها بمتعلقات وآثار صفة الإرادة وصفة القدرة، وحجتهم في هذا قوية جدا، وبالتالي فهي بهذا الاعتبار “صفة فعل” حادثة بمعنى أن الله يحدث الفعل في خلقه لا في ذاته …
نعم؛ فتفسير الرحمة بلازمها هو قول مقبول مرضي عند جمهور أيمة الإسلام كما يدرك من استقراء كتبهم:
قال الإمام الحافظ البغوي في تفسيره: ((والرحمة: إرادة الله تعالى الخير لأهله. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق، فهي على الأول: صفة ذات، وعلى الثاني: صفة فعل)) [معالم التنزيل (1/ 51)].
وقال القاضي البيضاوي في تفسيره: ((والرحمة في اللغة: “رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان”، ومنه: الرحم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات)) [أنوار التنزيل (1/ 27]، وتأمل قول الإمام: ((وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات)) فهو بالذات الأصل الذي يعتبره المعترض عين التعطيل!!! ..
وقال الإمام المفسر اللغوي أبو حيان الأندلسي: ((ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامه على عباده، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم، أصابهم إحسانه، فتكون الرحمة إذ ذاك “صفة فعل”، وقال قوم: هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك، فتكون على هذا “صفة ذات”)) [البحر المحيط (1/ 129)] ..
وقال الإمام العلامة أبو العباس القرطبي: ((والرحمة في حقنا: هي رقة وحنو يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعي في كشف ما به … ولا يفهم من هذا أن الرحمة التي وصف الحق بها نفسه هي رقة وحنو كما هي في حقنا؛ لأن ذلك تغير يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه ومقدس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ، وإنما ذلك راجع في حقنا إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وفي اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا: هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات)) [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 108 – 109)].
ولا أريد الاطالة أكثر بنقل كلام أيمة الإسلام ..
والحاصل أن المعترض -أصلحه الله وإيانا-: تجاسر على اتهام كبار أيمة الإسلام بتهمة شنيعة، فادعى – كما هو صريح كلامه – أنهم: ((خافوا التشبيه فدرؤوه بما ذكر وهو عين التعطيل)) إلى آخر كلامه المخذول وفهمه المرذول!!! .. نسأل الله السلامة والعافية ..
• عند تفسير قوله جل وعز: ?قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما? [الفرقان:6]، قال الشيخ ابن باديس ما نصه: ((رحيما: دائم الإفاضة بالنعم)) [الآثار (1/ 231)] فهل يجرؤ هذا المعترض “الباديسي” على أن يتهم الشيخ ابن باديس ببدعة “التعطيل” كما تجرأ على اتهام كبار أيمة الإسلام بذلك؟!!! .. والغريب هو أن المعترض هنا يجري على سنن “التيمي” محقق تفسير الشيخ ابن باديس في طبعة “دار الرشيد – الجزائر” حيث قال معقبا على هذا التأويل الصادر من الشيخ ابن باديس ما نصه: ((هذا من تفسير اللفظ بلازمه، وهو من تأويل الأشاعرة وغيرهم لأسماء الله وصفاته، المخالف لمنهج السلف أهل السنة والجماعة … )) [تفسير ابن باديس (هامش: 2/ 15 – 16)، اعتنى به وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبد الرحمن محمود، دار الرشيد للكتاب والنشر-الجزائر] ..
• أما قول المعترض: ((هذا هو المنهج العام الحاكم لتعامل المتكلمين مع الصفات حيث استحالة المبتدى فتعين المنتهى.)) فجوابه أن يقال باختصار:
منهج متكلمة أهل السنة في الصفات المشكلة والإضافات الموهمة للتشبيه – كما يعرفه صغار الطلبة – هو منهج أيمة الإسلام: فبعد تنزيه الله عن سمات المحدثات ومعاني الجسمية: إما عدم الخوض والاكتفاء بالمعنى الجملي، أو التأويل التفصيلي بضوابطه، أو الإثبات مع التفويض. فالأول والثاني منقولان عن السلف كما نص البدر الزركشي والشوكاني والبدر بن جماعة والشهاب ابن حجر والإمام النووي وغيرهم، وأما الثالث فهو أحد قولي الإمام الأشعري وهو أيضا قول لبعض أيمة الحديث. وأما الأخذ بأحد هذه الطرائق أو الترجيح بينها فهو مسألة اجتهادية. وليراجع في بيان هذا تقرير الإمام ابن المنير كما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في “الفتح”، والإمام العلامة محمد بن يوسف السنوسي في “شرح المقدمات”، والعلامة محمد الخضر الشنقيطي في شرح البخاري، والبدر بن جماعة في “إيضاح الدليل” … الخ.
• وأما قول المعترض: ((وهذه طريقة غير مخلصة، إذ لا يسلم لهم المبتدى، فيقال إن تفسير الرحمة بما ذكر هي رحمة المخلوق، فلا يسلم لهم تفسير الرحمة الإلاهية بما ذكر، قد خافوا التشبيه فدرؤوه بما ذكر وهو عين التعطيل.)) فجوابه أن يقال:
- وهل تعرف حضرتك معنى الرحمة في حقه تبارك وتعالى، حتى تجزم بأن تفسيرها بلازمها هو عين التعطيل؟!!! ..
- ماذا تقصد بالتعطيل هنا؟: هل تقصد به تنزيه الله عن التغير والانفعال ونفي قيام الحوادث بالذات العلية أم تقصد أن أهل السنة بتفسيرهم الرحمة بلازمها يلزمهم نفي معنى ما هو صفة كمال في حقه تعالى؟!: فإن كان الأول: فهو قول المشبهة من الكرامية والتيمية كما هو منصوص أيمة الإسلام في كتبهم، وإن كان الثاني: فكان عليك أن تذكر معنى الرحمة في حقه تبارك وتعالى ومن ثم تبين كيف عطل متكلمة أهل السنة هذا المعنى – المزعوم – في حق ربهم؟!، وإلا فكلامك لا يعدو أن يكون صيحة في واد ونفخة في رماد ..
• قول المعترض: ((فالتحصيل أن حقيفة الرحمة هنا مرادة لأنه عز وجل لما أراد لازمها وهو التفضل والإنعام صرح بها … )) فجوابه أن يقال:
هل تريد من الرحمة هنا الحقيقة اللغوية المقابلة للمجاز أم تريد الحقيقة الوجودية أي: الثبوتية مع تنزيه الله عن قيام الحوادث به وتفويض المعنى التفصيلي من ذلك؟: - إن كان الأول: فهو تشبيه قبيح كما لا يخفى، وإلا فأين وجدت القواميس اللغوية تذكر حقيقة الرحمة في حقه تعالى؟!!! ..
- وإن كان الثاني: فهو مذهب فريق من المفوضة، وهو أحد المذاهب المرضية عند جمهور متكلمة أهل السنة، فكيف تتهمهم بالتعطيل؟!!! ..
ثم كيف تدعي أن حقيقة الرحمة في حقه تعالى مرادة!، وقد جاء في البخاري قوله تعالى كما في الحديث القدسي: “إن رحمتي غلبت غضبي”؟ أين وجدت أن صفاته تعالى الذاتية توصف بغلبة إحداها على الأخرى، وبسبقها لها؟!!! قال القاضي عياض في هذا الحديث: ((هذا استعارة لكثرة الرفق والرحمة وشمولها على العالمين فكأنها الغالب، ولذلك يقال: “غلب على فلان حب المال” و”غلب عليه الكرم” و”الغالب عليه العقل” أي: أكثر خصاله أو أفعاله، وإلا فغضب الله تعالى ورحمته: صفتان من صفاته راجعتان إلى إرادته ثواب المطيع وعقاب العاصي، وصفاته لا توصف بغلبة إحداها على الأخرى، ولا بسبقها لها، لكنها استعارة على مجاز كلام العرب وبلاغتها في المبالغة)) [مشارق الأنوار (2/ 133)] ..
وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن أبي هريرة: “جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه”، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة: “إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة”، وفي أخرى له عن سلمان: “إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة” … فهل تكون صفة الرحمة في حقه تعالى من: جعله وخلقه ومنقسمة ومتبعضة؟!!! ..
يتبع بالكلام على ما ذكر المعترض حول نسبة الاتيان لله .. - https://www.facebook.com/yacine.ben.rabie/posts/3156353801265901