[الحقيقة 3]
تخلخلُ عقيدة الخلّال وأصحابه من الحنابلة في اعتقاد التبعيض والجلوس
بنى مجسّمةُ الحنابل كثيرا من عقائدهم على الأخبار المكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وعلى الصحابة والتابعين، والملاحَظ أنّهم كلّما أوغلوا في التجسيم كلما ناقضوا قواطع الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، كما فعل الخلال الحنبلي 311هــ في سنته عندما كفّرَ كلَّ من ردّ تفسير المقام المحمود بالشفاعة، واتهمَه بالتجهُّم والزندقة!
-فقد عقد الخلال في كتابه (السّنّة) فصلًا يتقاطرُ تجسيمًا، سمّاه (ذكر المقام المحمود)، ولم يكن هدفه منه المقام المحمود ولا يحزنون، بل كان هدفه تكفير من لم يعتقد أنّ الله جالس على العرش وأنّه ذو أبعاض!
وروى فيه خبرًا عن ليث بن أبي سُليم عن مجاهد: (يُجلسه معه على العرش)، يعيني أنّ الله جالسٌ على العرش، وخبر سيف السدوسي: (جيء بنبيكم فاُقعِدَ بين يدي الله على كرسيّه)، وخبر: (فلا يزالُ يدينه حتى يمس بعضه) ثم أورد خبرا يفسّرُ به معنى هذا «البعض» وفيه: (فيقول الله عزّ وجلَّ: خُذ بقَدَمي)!
-ثم حشدَ لهذه المتون الأربعة 60 إسنادًا، كلها أسانيد تالفة ساقطة بنسبة 100% مثل عقيدتهم في التبعيض والجلوس.
وفي خبر مجاهد مَواقف:
الموقف الأوّل: أنّه ضعيفٌ، ومضطربُ المتن
وهذا الخبر مرويّ بلفظين: (يجلسُه معه على العرش) و(يجلسُه على العرش)
فخبر “معه” تجسيمٌ صريح.
أما الثاني فمخالفٌ للروايات الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه والتابعين في أنّ المقام المحمود هو الشفاعة، كما في صحيح البخاري: عن أنس أن النبي (ص) قال: (فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحُد لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة…قال: “وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيكم صلى الله عليه وسلم”) وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن جابر عن النبي (ص) أنه قال: (ثمّ يؤذن لي في الشّفاعة فأقول: يا ربّ عبادك عبدوك في أطراف الأرض، فذلك المقام المحمود) وفي صحيح البخاري أنّ ابن عمر قال: (حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) وعن جابر رواه الطبري في تفسيره بإسناد صحيح: (فأرفع رأسي فأقول: رب أمتي، فيقال: هم لك. فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا غبطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود) وفي الإيمان المنسوب لابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سيدنا سلمان: (فيشفع في كلّ من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان..فقال سلمان: فذلكم المقام المحمود) وغيرها الكثير.
-فخبر ليث عن مجاهد بلفظَيه السابقين مخالفٌ للخبر الصحيح الّذي أجمعت عليه الأمّة. قال الذّهبي في علوّه: (فَأَما قَضِيَّة قعُود نَبينَا على الْعَرْش فَلم يثبت فِي ذَلِك نَص بل فِي الْبَاب حَدِيث واه).
الموقف الثاني: محاولات الخلال لتصحيحه وإقحامه لكلام الإمام أحمد فيما لا يقول به الإمام
مما أفسد على الخلال خطّته في تصحيح خبر مجاهد أنّ الإمام أحمد كان يضعّف ليث بن أبي سليم ورواياته، قال الإمام: (لَيْث بْن أَبِي سليم مُضْطَرب الحَدِيث) العلل ومعرفة الرجال برواية عبد الله، وقال عبد الله بن أحمد: (سُئِلَ أبي وَأَنا أسمع عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة وَلَيْث بن أبي سليم وَيزِيد بن أبي زِيَاد فَقَالَ مَا أقرب بَعضهم من بعض) أي في الضعف، وقال عبد الله بن أحمد: (حَدثنِي عُثْمَان بن أبي شيبَة قَالَ: سَأَلت جَرِيرًا عَن لَيْث وَعَطَاء بن السَّائِب وَيزِيد بن أبي زِيَاد، فَقَالَ: فَإِن يزِيد أحْسنهم استقامة فِي الحَدِيث، ثمَّ عَطاء بن السَّائِب، وَكَانَ لَيْث أَكثر تَخْلِيطًا، وَسَأَلت أبي عَن هَذَا فَقَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ جرير) وقال ابن أبي حاتم: (سمعت أبى وأبا زرعة يقولان ليث لا يشتغل به هو مضطرب الحديث) وقال المروذي: (سألت أبا عبد الله عن ليث بن أبي سُليم، فقال: ليس بذاك) من العلل برواية المروذي. وقال أحمد بن حنبل: (ليث لا يفرح بحديثه، كان ليث يرفع أشياء لا يرفعها غيره، فلذلك ضعفوه) كما في سنن الترمذي.
وقد روى الخلال حديث الجلوس والقعود بأسانيد أخر، كلها أشد ضعفًا من رواية ليث.
-وهذا يدلّ على أنّ أحمد لا يقبل بهذا الخبر لأنه يعلم ضعفه، وهو مخالفٌ لما رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ثم يقول: ارفع محمد، وقل تُسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة..فلا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن “أي وجب عليه الخلود”، ثم تلا قتادة: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، قال: هو المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم)
فما كان من الخلال “الأثريّ” إلا أن استنجدَ “بأثر” آخر عن عبد الله بن أحمد ليموّه به على السامعين بأنّ أحمد كان ممن يعتقد صحّة الحديث! فقال: (ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَدِيثَ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، مِنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ أَخِيهِ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ. قَالَ: فَذَاكَرْتُهُ أَبِي، فَقَالَ: «مَا وَقَعَ إِلَيَّ بِعُلُوٍّ» وَجَعَلَ كَأَنَّهُ يَتَلَهَّفُ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَقَعْ إِلَيْهِ بِعُلُوٍّ)
ثمّ أوردَه بألفاظٍ أخرى عن عبد الله أنه قال: (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: «يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ»، فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ يُحَدِّثُ بِهِ، فَلَمْ يُقَدِّرْ لِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْهُ)
وقد أورد الخلال هتين القصتين في سياق تأكيده على صحّة خبر مجاهد.
-إلا أنّه من الواضح أنّ القصة الثانية ليس فيها تلهُّفٌ ولا يحزنون، وكيف يتلهف أحمدُ على حديث وهو عنده مضطرب ضعيف؟؟ ضعيف لو كان مرويًّا عن النبي المعصوم (ص)، فما قيمته لو كان عن مُجاهد أو غيره ممن يصيب ويُخطئ؟! المهمّ في هذه الحكاية المضطربة أنه ليس فيها كلمة “معه” مما أفسدَ عليه كل ذلك، حتى ولو كانت أحمد قد تلهف عليه فلا يدل هذا على جواز الأخذ بذلك الخبر المختلّ.
الموقف الثالث: تكفير الخلال لكلّ من لم يؤمن بخبر القعود والإقعاد
أوردَ الخلال الحنبليّ 311هــ مجموعةً من أقوال الحنابلة المعاصرين له من طبقة شيوخه وأصحابه ممن وصفهم بــــ”أصحاب الإمام أحمد” في تكفير من لا يؤمنُ بعقيدة الجلوس، ومنها:
1-جهميّ: (قال أبو داوود السجستاني: من أنكر هذا فهو عندنا متَّهَم، مازال النّاسُ يُحدّثون بهذا يريدون مغايظةَ الجهميّة يُنكرون أنّ على العرش شيء)
[خبر رقم 244 ولكن رواها عن أبي داوود بألفاظ أخرى وليس فيها كلمة “معه” ولم يذكر فيه أنه من أحاديث الصفات 271 أصلا، فلاحظ مدى الاضطراب، وهذا الخلَل صار عند الخلّال دينا يكفر مخالفه]
2-كافر يردّ على الله: (قال: «يقعده معه على العرش» ، قال أبو بكر بن أبي طالب: من رده فقد رد على الله عز وجل، ومن كذب بفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالله العظيم) [246]
3-كافرٌ متّهَم على الله: (وأخبرني أحمد بن أصرم المزني، بهذا الحديث، وقال: «من رد هذا فهو متهم على الله ورسوله، وهو عندنا كافر») [247]
4-جهميّ: (هارون بن معروف، يقول: «ليس ينكر حديث ابن فضيل عن ليث، عن مجاهد إلا الجهمية») [253]
5-حكمه القتل: (أو أظهر إنكاره، تراه كان يخرج من ثم إلا وقد قتل، قال أبو بكر بن صدقة، وصدق، ما حكمه عندي إلا القتل) [254]
6-عدوّ لله، منسلخٌ من الدين: (هذا العدو لله المسلوب أن رد هذا الحديث وخالف الأئمة وأهل العلم، وانسلخ من الدين…فمال أولو الزيغ والنفاق إلى قول الملحدين، وبدعة المضلين) [266]
7-جهميّ: (فقيل للجريري: إذا كان على كرسي الرب فهو معه؟ قال: ويحكم، هذا أقر لعيني في الدنيا، وقد أتى علي نيف وثمانون سنة ما علمت أن أحدا رد حديث مجاهد إلا جهمي)! [267]
8-جهمي مبتدعٌ خبيث مخالفٌ للإسلام في الصفات التي تلاقاها الثقات بالسرور!: ( وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: رواه الخلق عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد، واحتمله المحدثون الثقات، وحدثوا به على رءوس الأشهاد، لا يدفعون ذلك، يتلقونه بالقبول والسرور بذلك، وأنا فيما أرى أني أعقل منذ سبعين سنة، والله ما أعرف أحدا رده، ولا يرده إلا كل جهمي مبتدع خبيث، يدعو إلى خلاف ما كان عليه أشياخنا وأئمتنا، عجل الله له العقوبة، وأخرجه من جوارنا، فإنه بلية على من ابتلي به، فالحمد لله الذي عدل عنا ما ابتلاه به والذي عندنا، والحمد لله أنا نؤمن بحديث مجاهد ونقول به على ما جاء، ونسلم الحديث وغيره مما يخالف فيه الجهمية من الرؤية والصفات، وقرب محمد صلى الله عليه وسلم منه) [268]
إذن فهم يرونه من أحاديث الصفات التي يردها الجهمية المنكرون للصفات.
9-جهميّ يُحذَّر منه: ( وقال علي بن داود القنطري: ولا يرد حديث محمد بن فضيل، عن ليث عن مجاهد {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: “يقعده معه على العرش” إلا جهمي يهجر، ولا يكلم، ويحذر عنه وعن كل من رد هذه الفضيلة…لقد أتى على أربع وثمانون سنة، ما رأيت أحدا رد هذه الفضيلة إلا جهمي) [269]
10-جهمي: (كل من ظن أو توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستوجب من الله عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاهد فهو عندنا جهمي) [272]
10-(من رد حديث مجاهد فهو عندي جهمي، ومن رد فضل النبي صلى الله عليه وسلم فهو عندي زنديق لا يستتاب، ويُقتَل… فاحذروا من رد حديث مجاهد) [273]
11-كافر مرتد عن الإسلام: (ومن رد حديث مجاهد، فقد دفع فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رد فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عندنا كافر مرتد عن الإسلام) [274]
12-جهمي: (لأن من رد هذه الأحاديث، فقد أزرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم..ما سمعنا أحدا من شيوخنا المتقدمين من أهل السنة ذكر هذه الأحاديث إلا بالقبول لها، ويحتجون بها على الجهمية، ويقمعونهم بها، ويكفرونهم، ولا يردها إلا رجل معطل جهمي، فمن رد هذه الأحاديث، أو طعن فيها فلا يكلم، وإن مات لم يصل عليه) [276]
13-جهمي متهم لرسول الله: (قال: “يجلسه معه على العرش”. قال عبد الله: سمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحدا من المحدثين ينكره، وكان عندنا في وقت ما سمعناه من المشايخ أن هذا الحديث إنما تنكره الجهمية، وأنا منكر على كل من رد هذا الحديث، وهو متهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم) [279]
14-زنديق: (حكم من رد هذا الحديث أن ينفى، لا يرد هذا الحديث إلا الزنادقة) [284]
15-جهمي: (قال عبد الوهاب: من رد هذا الحديث فهو جهمي) [286]
16-جهميّ: (قال: «يقعده معه على العرش»، قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه لأبي علي القوهستاني: «من رد هذا الحديث فهو جهمي) [287]
17-متهَم: (قال أبو بكر بن حماد: من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت عنها فهو متهَم، فكيف من ردها وطعن فيها، أو تكلم فيها؟) [288]
18-مبتدع: (هذا الحديث صحيح ثبت، حدث به العلماء منذ ستين ومائة سنة، لا يرده إلا أهل البدع) [293]
19-مبتدع جهمي: (قال: «يقعده على العرش» ، قال أبو قلابة: لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية) [303]
20-كافر أقتُلُه: (قال: «يجلسه على العرش»، وهذه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن رد فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر…أقتلُه…أقتُلُه) [304]
21-جهمي: (والله ما للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مثلها، أدركت شيوخنا على ذلك يتلقونه بالقبول، ويسرون بها، ولا يردها إلا رجل سوء جهمي) [305]
**أمّا خبر سيف السدوسي فقد رواه الخلال بإسناد أشد ضعفا من أسانيد خبر ليث، وفيه: (عن عبد الله بن سلام، قال: إذا كان يوم القيامة ينزل الجبار عن عرشه وقدميه على الكرسي، فيقعد محمدا على الكرسي) [309]
ثم أورد تبديعَ من ردّه كما يلي:
22- يزري على رسول الله: (فمن رد حديث عبد الله بن سلام وحديث مجاهد في المقام المحمود، فقد أزرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد فضله، وكان عندنا مبتدعا) [310]
23-مبتدع: (من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال، قال: ما أدركنا أحدا يرده إلا من في قلبه بلية، يهجر ولا يكلم) [314]
وبعض هذا التكفير مكذوب ومتلاعَبٌ بمتونه، أو قيل في أحاديث الصفات كالنزول والكلام والمجيء فنقله الخلال وحشره في مسألة الجلوس كي يوهمَ القارئ أنّ هؤلاء يعتقدون بعقيدة الجلوس والتبعيض، وأغلبه منقول عن مجاهيل، هم على الأغلب من الحشويّة الّذين لا يُحتَجُّ برأيهم في شراء شسع نعلٍ لركاكة عقولهم، فضلا عن أن يُحتَجّ بهم في أصل من أصول الدّين.
النتائج:
1-إنّ هذا الكمّ الهائل من التكفير والتجهيم والتفسيق والتبديع لدليلٌ على أنّ أصحاب هذه الطريقة “الخلّاليّة” يقدّمون كلام مجاهد وعبد الله بن سلام على كلام الله وكلام رسوله، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله هو الّذي فسّر المقام المحمود بالشفاعة ولم يفسره بالجلوس.
2-ويدلّ هذا الهيجان من التكفير على أنّ منهجهم هذا المزعوم: “مذهب أهل الحديث” أو”مذهب أهل الأثر” مذهبُ غيرُ مأمون العواقب، فأنت ترى عيانًا كيفَ استطاع الخلال اختراقه بكلّ سهولة، بأن يتخيّرَ من الروايات التالفة ما يريدُ إثباته ويترك ما يخالف هواه وهو يعلم صحته، فقد ترك مئات الروايات الصحيحة عن النبي (ص) وأصحابه والتابعين مما ينقضُ عقيدة الجلوس والأبعاض، لا سيما عن إمامه أحمد…فهذا الانتقاء والاجتزاء كفيلٌ بقلب الحقيقة، حقيقة معنى (المقام المحمود) وحقيقة موقف الإمام أحمد منه، وما تحرّفت أديان الأنبياء السابقين إلا من لعب جهلة الرّواة الّذين كانوا يجتزؤون الحقائق بما يخالفُ معناها الّذي أراده الله ورسوله.
-تلك الطريقة التي سلكها الخلّال قادته إلى الإصرار على أنّ خبر ليث عن مجاهد -وخبر سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام- من أخبار الصّفات! أي أن الجلوس الوارد فيهما من صفات الله، والعياذ بالله، لأنّ فيهما أن الله جالس على العرش، بدليل أنّه عقّب ذلك بكلام الإمام أحمد عن الصفات فقال: (حدثنا أبو بكر المروذي، رحمه الله قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات، والرؤية، والإسراء، وقصة العرش، فصححها أبو عبد الله، وقال: ” قد تلقتها العلماء بالقبول، نسلم الأخبار كما جاءت) [283]
ثمّ أكّد ذلك بما رواه من قول القاسم بن سلام: (هذه الأحاديث حق لا يشك فيها، نقلها الثقات بعضهم عن بعض حتى صارت إلينا، نصدق بها، ونؤمن بها على ما جاءت. قال أبو الفضل: ونحن نقول في هذه الأحاديث ما قال أحمد بن حنبل متبعين له ولآثاره في ذلك) [311]
وقد سبق أنّ الإمام أحمد يردّ خبر ليث عن مجاهد ويتهمه بالاضطراب والضعف، وكأنّ الإمام أحمد الّذي يحتجون بكلامه صار جهميًّا لو كانوا يعقلون!
ثمّ أكّد ذلك مرة ثانية فروى قول عبد الوهاب الورّاق: (سألت أسود بن سالم عن هذه الأحاديث، فقال: «نحلف عليها بالطلاق والمشي، إنها حق») [312]
الخلال لم يرو إلا أحاديث الجلوس، فاستحضرَ هذا الخبر الّذي يحتوي على عبارة «هذه الأحادث» للإشارة إلى أنّ “هذه الأحاديث” التي رواها “هنا” كالجلوس والتبعيض أحاديثٌ حقّ يجبُ اعتقادُها! أي إنها بلغت عندهم مرتبة اليقين، والله أعلم عن أيّ أحاديث كان يتكلم عبد الوهاب الورّاق، ولكن المهم هو أنّ الخلال استشهد بكلامه ليثبت أنّ «هذه الأحاديث» هي أحاديث الجلوس والتبعيض.
[قصة رسالة حنابلة بغداد]
ذكرَ الخلال 311هــ في سنّته أنه أرسلَ من طرسوس إلى حنابلة بغداد سنة 292هـ يسألهم فيها عن خبر ليث عن مجاهد «يُقعِدُه معه على العرش» ويسألهم عن الحكيم الترمذيّ320هـ وعن أصحابه الّذين ردّوا خبر القعود والإقعاد، فأجابوه برسالة تسعُ أهل الأرض تكفيرًا وتفسيقا وزندقةً، وهي موجودة برقم 266 في سنة الخلال، مليئة بتكفير من ردَّ خبر مجاهد.
والمهمّ في هذه الرّسالة أنهم جعلوا ردَّ هذا الخبر التالف ردًّا للدين وإنكارًا لصفات الله وتجهُّما وزندقة، وزعموا أنّ الإيمان بالله لا يصحّ إلا بالإيمان بهذا الخبر الهالك! ثم حشروا ذكرَ الإمام أحمد ووجوب اتباعه في ذلك، كي يُظهروا أنّه ممن يقول بعقيدتهم، مع أنّه نصّ في مناسبات كثيرة على ضعفه واضطراب رواته.
ومما جاء في رسالة حنابلة بغداد وهم شيوخ الخلال وأصحابه:
(فالله الله، ثم الله الله يا إخوتاه من أهل السنة والجماعة، والمحبة للسلامة والعافية في أنفسكم وأديانكم، فإنما هي لحومكم ودماؤكم، لا تعرضون لما نهى الله عنه عز وجل من الجدل والخوض في آيات الله… فالزموا من الأمر ما توفى الله عز وجل أبا عبد الله رحمه الله عليه، وأبا بكر المروذي، فإنه الدين الواضح، وكل ما أحدث هؤلاء فبدعة وضلالة… فهذا ديني الذي أدين لله عز وجل به، أسأل الله أن يميتنا ويحيينا عليه… ولا يرد حديث محمد بن فضيل، عن ليث عن مجاهد {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} -قال: “يقعده معه على العرش”- إلا جهميّ، يُهجَر ولا يُكلَّم، ويحذَّرُ عنه وعن كل من رد هذه الفضيلة، وأنا أشهد على هذا الترمذي أنه جهمي خبيث..إلخ)
-فعقيدة الجلوس الإلهي هي لحومكم ودماؤكم…وإذا أردتم العافية في أديانكم وأن تكونوا من أهل السنة والجماعة فآمنوا بحديث ليث، لأنّه هو الدين والسّنّة، وإلا فأنتم جهمية كفار منكرون لصفات الله! هذه هي ملامح “منهج أهل الأثر” عند هذه الطائفة من الحنابلة، تحولت الأخبار التالفة والأكاذيب إلى أصل من أصول الدين، وصار كلّ من أخذ بقواعد العلم الصحيحة جهميا زنديقًا، وهم يخرقون كل! قواعد علم الحديث والأثر من أجل إثبات تجسيمهم، فالتجسيم قديم عند الحنابلة.
-والجميل في الموضوع أنّ الخلال في بداية الرسالة يصحح هذه الأحاديث ويقول: (وسرَّ الله أهل السنّة وزادهم سورورًا على ما عندهم من صحّته) [266]
-ولو كان هؤلاء قد عملوا بنصيحتهم: (فالزموا أبا عبد الله وأبا بكر المروذيّ) لما اعتبروا هذا الحديث من الدّين ولا من السنّة الصحيحة، لأنّ المروذي هو الّذي نقل عن أحمد بن حنبل تضعيفه…ولكن الخلال وأمثاله من محرّفي الحنابلة غيرُ مؤتمنين على الدين وهم أول المخالفين للإمام أحمد، أليس تبديلا للدين أن تتحول قضيّة الشفاعة المُجمَع عليها إلى قضيّة جلوس وقعود؟ فما بالك لو كان الجلوس مقرونا بعقيدة الأبعاض؟ ولهذا أقول: مذهب هؤلاء ليس مذهبًا مأمونا في الدين، بل هو مذهب باطل لا يأتي إلا بالأباطيل والخرافات المكذوبة.
[عقيدة الأبعاض]
ومما اشتملت عليه رسالة الحنابلة التي نقلها الخلال: تبعيض الله، تعالى الله عما يصفون
فبعد أن فرغ الخلال من خبر ليث عن مجاهد، أراد إثبات صفةٍ أخرى لله عزّ وجلّ لها علاقة عندهم بالقعود والإقعاد، وهي أن لله أبعاض..! ثمّ أوردَ خبرًا آخر يفسر به معنى هذا البعض بأنه قدَمُ الله!
-فأورد أوّلا خبر: (عن عبيد بن عمير: {وإن له عندنا لزلفى} قال: «ذكر الدنو حتى يمس بعضه») [320] وإسناده صحيح
-ثم أتبعه بخبر يفسّره به: (عن ابن عباس، في قوله: {وإن له عندنا لزلفى} يدنو منه حتى يقال له: خذ بقدمي) [323] وإسناده تالف
فالبعض الّذي سيمسه داوود -من وجهة نظر الخلال- هو قدمُ الله! نعوذ بالله من عبادة الأوثان، وإلا فما المناسبة بين (حتى يمس بعضه) وبين (خذ بقدمي)؟ ولماذا قرَنَهما ببعضِهما؟
*مع أنّ خبر عبيد بن عمير الليثي لا يوجدُ فيه على من يعود الضمير في «بعضه»، فاحتمالٌ كبير أن يكون قد قصد بعض العرش، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف في تفسيره: (يُقامُ داوود عند ساق العرش)، أما الخبر الّذي أورده الخلال المروي عن ابن عباس: (خذ بقدمي) فهو إسناد ضعيفٌ أيضًا، وربما تكون قضيّة مساس داوود لبعض العرش من الإسرائيليات التي لا تصدَّقُ ولا تُكذّب، لأنّ الليثي كان ممن أخذ عن سيدنا أبي بن كعب وغيره من أحبار اليهود، ومثل هذا الخبر لا يوجبُ عملا فضلا عن أن يوجبَ معتقدًا قد نصّ السلفُ على كفر القائل به، وخصوصًا الإمام أحمد، وهو وتكفير المبعضين هو معتمد الحنابلة:
1-قال أبو الفضل عبد الواحد التميمي: (جملةُ اعتقاد أحمد بن حنبل والّذي كان يذهبُ إليه: أنّ الله عزّ وجلّ واحدٌ لا من عدد، وهو واحدٌ من كلّ جهة، وما سواه واحدٌ من وجه دون وجه…وكان يقول: إن لله تعالى يدين، وهما صفة له في ذاته، ليستا بجارحتين، وليستا بمركبتين ولا جسم ولا من جنس الأجسام ولا من جنس المحدود، ولا الأبعاض ولا الجوارح) [من “اعتقاد الإمام المنبّل” الملحق بطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى]
2-قال أبو يعلى في معتمده: (أما التوحيد فهو العقد والقول بأن الله تعالى واحد..ليس بجسم فيُمَس ولا جوهر فيُحَس، ولا بذي تركيب أو آلة أو تأليف أو ماهية أو تحديد) ص212 وإن كان قد اختار التأليف والتحديد في آخر أمره.
3-وقال ابن حمدان في نهاية المبتدئين (يجب الجزم بأن الله تعالى واحد لا يتجزّأ ولا ينقسم أحدٌ لا من عدد) ص24
4-وقال الزاغوني (الجسم ما دخله التأليف…وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصفُ بأنها جسم مركَّبٌ تدخله الكمّية) ص313 ط عصام
**فأخبرونا: من هم الّذين على معتقد الإمام أحمد في قضية التبعيض، حنابلة بغداد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه كما نقل الخلال؟ أم التميميون وأبو يعلى قبل انتكاسته والزاغوني وابن حمدان؟