الدرس الرابع والاربعون
الإيمان بالقضاء والقدر :
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل المشهور أنه سأل النبي ﷺ عن الإيمان فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله . خيره وشره)، رواه مسلم .
والقدر معناه : إيجاد الله تعالى الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها وفق ما سبق به العلم؛ أي: أن الله تعالى علم الأشياء ومقاديرها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، قال الله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ [القمر: 49]، فكل ما وجد أو يوجد علم الله تعالى وجوده قبل أن يوجد، وعلم جميع صفاته ثم أوجده وفق ما سبق في علمه، فالأشياء لم توجد اعتباطاً ومصادفة بل وفق تقدير الله تعالى الذي سبق في علمه .
والقضاء : في اللغة الحكم، والمراد به هنا: أن الله تعالى أراد الأشياء في الأزل على النحو الذي برزت به للوجود، وهي كما ترى في غاية في الإحكام والإتقان .
والناس يعبرون بالقضاء والقدر عن معنى واحد هو : (إرادة الله إيجاد الأشياء على وجه مخصوص ثم إيجادها فعلا وفق المراد).
. والموجودات كثيرة لا تحصى من ذوات وصفات ومقادير، لكن ما يتعلق منها بالإنسان نوعان : نوع لا خيار للإنسان فيه، كيوم ولادته ولونه وطوله والمرض الذي يصيبه بلا تسبب – منه، وهذه لا يحاسب عليها . ونوع له فيه خيار، فإن اختار الخير فله الأجر، وإن اختار الشر فعليه الوزر.
صحيح أن اختياره سيكون موافقاً لما سبق به القدر والقضاء، لكن هذا راجع إلى دقة علم الله تعالى وقدره وقضائه، وليس إلى اطلاع العبد على القضاء والقدر، فالذي يتصدق لا يطلع على القضاء والقدر ثم ينفذ ما فيه ، بل يجد في نفسه رغبة في الصدقة فيختار بذل المال فيكون له الأجر، وعكسه من أراد المعصية، فالقاتل الظالم لا يطلع على القدر والقضاء ثم ينفذ، بل تتحرك فيه رغبة الشر فيختار الإقدام على إزهاق النفس فيكون عليه الوزر .
ويضرب العلماء على ذلك مثلا (ولله المثل الأعلى ﴾ [النحل: 60]،
فيقولون: إن الشرطة لهم معرفة بأحوال المجرمين، وفي بعض الأحيان يخمنون متى وكيف سينفذ المجرم جريمته، فإذا دونوا ذلك ورصدوه فجاءت توقعاتهم صحيحة وألقوا القبض على المجرم متلبساً بالجرم فليس له
أن يقول: أنتم عرفتم ذلك وهو مدون في أوراقكم فلماذا لم تمنعوني؟! أو لماذا تؤاخذونني على ما فعلت؟ لأنه فعل ذلك بناء على رغبته وليس بناء على ما دونت الشرطة، وإذا كانت الشرطة تخطىء في التقدير لأن البشر عاجز فإن علم الله تعالى لا يخطىء لأنه مطلع على المستقبل كاطلاعه على الحاضر والماضي، والأمور عنده سواء، ولا اعتبار للزمن، وقد سبق بيان هذا عند علم الله تعالى .
بعد أن نستحضر هذا في الذهن نقول: إن الإنسان لا يحاسب على ما في علم الله قبل وقوعه، ولا على ما في القضاء والقدر قبل اختياره، ولا على الأفعال التي لا خيار له فيها، إنما يحاسب على اختياره للأفعال وعزمه عليها سواء وقعت أم لم تقع، فالقاتل ليس له أن يقول: هذا سبق في علم الله فلا تحاسبوني عليه، وليس له أن يقول: الله أعطاني القدرة البدنية حتى فعلت فلا تحاسبوني، ولا أن يقول: إن الله تعالى خلق في البارود خاصية الانفجار فلا تحاسبوني على إطلاق النار، ولا أن يقول: إن الله قدر لهذا المقتول عمراً وقد انتهى فلا تحاسبوني . . إلى آخر هذا النوع من الكلام الذي يراد به الإفلات من العقوبة، ولو قبل مثل هذا الكلام من أحد لفسدت الأرض، بل لا يوجد عاقل يقبل به، خاصة إذا وقع العدوان على ذلك العاقل . وهنا أذكر بأمرين : الأول: أن الإنسان يحتج بعلم الله تعالى والقضاء والقدر ليبرر أفعاله السيئة، ولا يذكر شيئاً من ذلك إذا فعل خيراً، لأنه لا يحرم نفسه شرف وثواب الأفعال الحسنة، لكنه يحتج بالقدر ليفلت من تبعة الفعل القبيح .
الثاني : أن الله تعالى كتب للإنسان رزقه وأجله وعمله، ونرى الإنسان يجتهد في طلب الرزق ومعالجة المرض خوفاً من الموت، ولا بأس عليه في ذلك، ولا يعول على موضوع القدر في تحديد الرزق والأجل، فإذا جاء دور العمل الصالح احتج في تركه بالقضاء والقدر، واحتج بهما إذا فعل السيئات . وهذا يدل على أن الإنسان يحتج بالقدر ليفلت من العقوبة واللوم .
الذي يراد به الإفلات من العقوبة، ولو قبل مثل هذا الكلام من أحد لفسدت الأرض، بل لا يوجد عاقل يقبل به، خاصة إذا وقع العدوان على ذلك العاقل .
يتبع…….