وجه الدلالة ما قاله ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1 / 257): وقال جل وعلا “سبح اسم ربك الأعلى” فالأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلى كل شيء وفوق كل شيء والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه وأعلمنا أنه العلي العظيم.اهـ
ونقل ابن القيم عن أبي القاسم الزنجاني[1]: وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل فثبت بذلك أن لله علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة وجماهير المسلمين وسائر الملل[2].
وقال القصاص عن آية الأعلى: هذا دليل ساطع على أن الله فوق مخلوقاته[3]……إلى أن قال: شبهة: لقد احتج علينا بعض الجهلاء، فقال: إن لفظ “الأعلى” لا يراد به العلو الحسي وإنما هو عظمة ….[4]
قال وليد: والجواب: إن الآية لا تدل على مطلوبكم ومدعاكم، لأن مدعاكم هو أن الله موجود بذاته على عرشه وجودا حسيا؛ وأين هذا في الآية؟!!!!!
غاية ما في الآية هي وصف الله بأنه الأعلى، والأعلى اسم تفضيل من العلو، والعلو تارة يراد به العلو الحسي، ومنه قوله تعالى { وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7]؛ ومنه: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69]، ومنه: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8] ونحو ذلك من الآيات.
وتارة يراد به العلو المعنوي وهو كثير جدا في القرآن؛ بل إن المتتبع للعلو ومشتقاته في كتاب الله قد يجد: أن الأغلب فيه أن يأتي في العلو المعنوي لا علو المكان؛ وهذه بعض الشواهد:
1. قال تعالى: “فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى” [طه : 67 ، 68] قال الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان ت شاكر (18/ 337): (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) على هؤلاء السحرة، وعلى فرعون وجنده، والقاهر لهم.اهـ ففسر العلوَ هنا بالقهر كما ترى.
2. ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27]
3. ونحوه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]؛ قال الطبري في تفسيره (17/ 229): “ولله المثل الأعلى” وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.اهـ
4. ومن ذلك قوله تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ” [القصص : 4]، جاء في تفسير البغوي – طيبة (6/ 185): {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ.اهـ ونحوه في تفسير الطبري ونقله عن السدي وقتادة من السلف. [5]
5. وقال تعالى: “مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ” [الدخان : 31]، قال الطبري في تفسيره: (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) إنه كان جبارا مستعليًا مستكبرًا على ربه.اهـ
6. وقال تعالى: “وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا” [الإسراء : 7].
قال البغوي في تفسيره (5/ 80): “وَلِيُتَبِّرُوا” وَلِيُهْلِكُوا “مَا عَلَوْا” أَيْ: مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ “تَتْبِيرًا”.
7. وقال تعالى: “وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ” [الدخان : 30 ، 31]
8. وقال تعالى: “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا” [الإسراء : 4]. قال البغوي في تفسيره(5/ 79): {وَلَتَعْلُنَّ} وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ وَلَتَظْلِمُنَّ النَّاسَ {عُلُوًّا كَبِيرًا}.اهـ
9. وقال تعالى: “تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ” [القصص : 83] قال الطبري في تفسيره (19/ 637): يقول تعالى ذكره: تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه …وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.اهـ ثم نقل نحو ذلك عن السلف[6].
10. وقوله: “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا” [النمل : 14] قال الطبري في تفسيره (19/ 436) هنا: والعلو الكبرُ، كأنه قيل: اعتداء وتكبرا.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل…. ثم أسنَد عن ابن جُرَيج، في قوله: (ظُلْمًا وَعُلُوًّا) قال: تعظما واستكبارا.اهـ
11. وقال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ص: 75] قال البغوي في تفسيره (7/ 102): {أم كنت من العالين} المتكبرين.اهـ وقال الطبري في تفسيره(21/ 239): (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) يقول: أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكبُّر على ربك.اهـ
12. وقال عز وجل: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] قال الطبري في تفسيره (15/ 167): وقوله: (وإن فرعون لعال في الأرض) ، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه.اهـ
13. وقال أيضا: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [التوبة: 40] قال الطبري في تفسيره (14/ 261): (وكلمة الله هي العليا) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمتُه (العليا) ، على الشرك وأهله، الغالبةُ.اهـ
14. وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [مريم: 50] [مريم : 50]، قال الطبري في تفسيره (18/ 208): وقوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يقول تعالى ذكره: ورزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل من الناس….ثم نقل بسنده عن ابن عباس، قوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يقول: الثناء الحسن.اهـ
15. وقال تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل : 31] قال الطبري في تفسيره(19/ 453):(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه إن امتنعتم جاهدتكم، فقلت لابن زيد: (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تتكبروا علي؟ قال: نعم.اهـ
16. وقال : {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35]
17. ونحوه قوله: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] قال الطبري في تفسيره(7/ 234): فإنكم”أنتم الأعلون”، يعني: الظاهرُون عليهم، ولكم العُقبَى في الظفر والنُّصرة عليهم.اهـ
18. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64] قال الطبري في تفسيره (18/ 334):وقوله (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) يقول: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.اهـ
فهذه ثمانِ عشر آية[7]جاء فيها العلو ومشتقاته بمعنى العلو المعنوي قطعا، لا بمعنى علو المكان ولا العلو الحسي؛ وهذا العلو المعنوي تَعدَّد المرادُ منه في الآيات السابقة وتراوح بين المعاني التالية:
1) الغلبة
2) والقهر
3) والبغي
4) والتكبر
5) والنصر
6) والظفر
7) والعظمة
8) والعزة
9) والشرف
10) والتجبر
11) والأفضل
12) والأطيب
13) والأحسن
14) والأجمل
فهذه أربعة عشرة معنى لكلمة العلو ومشتاقتها كلها تدور حول العلو المعنوي المتردد بين هذه المعاني الكثيرة السابقة فإذا أضفنا العلو الحسي والمكاني لكلمة العلو فيتحصل لنا لكلمة العلو ومشتاقاتها: 15 معنى… وبالتالي فإن نسبة إرادة معنى العلو الحسي تكون 1/15 … يعني حوالي 7% أي أنك إذا وجدتَ كلمة العلو ومشتاقتها في مئة موضع من القرآن… فإن الاحتمال العقلي ليكون العلو فيه بمعنى العلو الحسي هو سبعة مواضع فقط[8] …..!!!!!!
مع العلم أن هذه المعاني 15 للعلو هي في القرآن فقط كما سبق، فما بالك إذا بحثنا عن معاني العلو في السُّنة وفي الشِّعر والنثر العربي كله ….لا شك أننا سنجد معانٍ أخرى للعلو المعنوي…. وبالتالي فسوف تكون دلالة كلمة العلو أو مشتقاتها على العلو الحسي أضعف كما هو ظاهر.
فهل يقال بعد كل ما سبق أن “الأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلى كل شيء وفوق كل شيء” كما زعم ابنُ خزيمة[9].
والمضحك أكثر قول القصاص المعاصر: عن آية الأعلى: هذا دليل ساطع على أن الله فوق مخلوقاته……!!!!!!
فما شاء الله على هذا السطوع … !!!!
آية الأعلى دليل ساطع … على الرغم من أن كلمة العلو تأتي على 15 معنى…؟!!!!!! حتى لو اعتبرنا تداخل تلك المعاني …فإنه يتحصل منها ما لا يقل عن ستة معان مختلفة: كالنصر والتكبر والبغي والقهر والشرف والحُسن والعظمة ….فإذا أضفت العلو المكاني … فإن نسبة إرادته لن تعدو 15% …!!!!
فكيف يقال والحالة هذه إن لفظ العلو دليل ساطع أو قاطع أو…. في العلو الحسي ….!!!!
بل كيف يتبادر إلى ذهن هؤلاء العلو الحسي من بين كل تلك المعاني….؟!!!! أليس لأنهم هم يعتقدون العلو الحسي أولا ثم جاؤوا إلى القرآن يبحثون عنه فلما تراءت لهم كلمة العلو لم يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو الحسي المكاني….!!!!!
تماما كمجنون ليلى: قيس بن الملوح حين كان يسمع باسم ليلى لا يتبادر إلى ذهنه إلا ليلى بنت سعد العامري التي يعشقها من بين كل فتاة وامرأة اسمها ليلى في العالم ….!!!!!
لا يقال هنا: إن كلمة الأعلى والعلو وإن احتملت أن تكون بمعنى العلو المعنوي إلا أن …. انتظره
كتبه وليد ابن الصلاح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وهو كما في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (18/ 385): أبو القاسم سعد بن علي بن محمد بن علي بن الحسين الزنجاني…. توفي سنة إحدى وسبعين وأربع مائة. اهـ
وهو غير الإمام محمود بن أحمد بن محمود بن بختيار، أبو المناقب شهاب الدين الزَّنْجاني الشافعي (ت656 هـ)؛ صاحب كتاب: “تخريج الفروع على الأصول”.
[2] اجتماع الجيوش الإسلامية – (1 / 118)
[3] انظر: إثبات علو الله على خلقه لأسامة القصاص ـ رحمه الله ـ ص73
[4] إثبات علو الله على خلقه ص75 وسيأتي تتمة كلامه المضحك، والجواب عليه لاحقا بعونه تعالى.
[5] جاء في تفسير الطبري (19/ 516) : ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ …” يقول تعالى ذكره: إن فرعون تجبر في أرض مصر وتكبر، وعلا أهلها وقهرهم، حتى أقرّوا له بالعُبُودَةِ….. ثم نقل بسنده عن السدي (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) يقول: تجبر في الأرض.
وعن قَتادة (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) أي: بغى في الأرض.اهـ
[6] فنقل الطبري عن بسنده عن عكرمة قال هنا: العلو: التجبر.
ونقل عن مسلم البطين قال هنا: العلو: التكبر في الحقّ.
وعن سعيد بن حُبَير: (عُلُوًّا فِي الأرْضِ) قال: البغي.
وعن ابن جُرَيج، قوله: (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ) قال: تعظُّما وتجبرا.
وفي تفسير البغوي – طيبة (6/ 226) هنا : قال الكلبي ومقاتل: استكبارا عن الإيمان، وقال عطاء: “علوا” واستطالة على الناس وتهاونا بهم. وقال الحسن: لمَ تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان. وعن علي رضي الله عنه: أنها نزلت في أهل التواضع من الولادة وأهل القدرة .اهـ
[7] ويوجد غيرها آيضا كقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [الإسراء: 43]؛ قال الطبري في تفسيره(17/ 454): فقال: تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم، من الفرية والكذب، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته، ولا ينبغي أن يكون له صفة.اهـ
[8] طبعا بغض النظر هنا الآن عن تداخل هذه المعاني للعلو المعنوي، وبغض النظر أيضا عن القواعد الأصولية التي تحكم دلالات الألفاظ لاسيما الكلمات المبهة والمشكلة والمجازية والمشتركة والمجملة والمتشابهة، فهذه كلها لها قواعد ولاسيما القرائن التي تحدد معناها أو تساعد على تحديد ذلك المعنى، كما هو مبسوط في كتب الأصول.
[9] وابن خزيمة رحمه الله على إمامته في الحديث والفقه فليس له يدٌ في هذه المهايع، لذلك ندم على دخوله في تلك المهايع، وأبدى أسفه كما حكى ذلك عنه البيهقي، وانظر للتفصيل ما كتبه الأخ الفاضل محمد أكرم أبو غوش على: http://www.aslein.net/showthread.php?t=4658